في الحقيقة لكي أكتب في مقال يحمل هذا العنوان ، استدعيت الفكر ، إن كنت أكتبه بصيغة وإسلوب جاد ، أم أدع الهزل يلعب دوره ، أم تحكمه السخرية ، قررت أخيرا أن أوظف الثلاثة ، عالمنا اليوم يسير بقليل من الجدية ، والكثير من الهزل الذي أوصله إلى قمة السخرية . عالم مراوغ ونقطة من الزئبق في طبق من البلور ، وقد يكون أفضل ما كتبته عنه (( إن لم يوقف العالم الدماء ويكف عن شره ، سيأتي الطوفان ويزيح الجميع ، ولن يبقى سوى سكير وعاهرة ، ليبدءا عالماً أفضل )) ، هما في الحقيقة سيبدآن عالماً أفجر والفُجر من الفجور ، لكن حسب ما أراه وهذه وجهة نظري البحتة قد يكون الفجورالذي سيبدأ به السكير والعاهرة عالمهم الجديد ، أفضل بكثير بل قد يكون نوعاً من الإيمان الذي فقده عالم اليوم وفقد معه كل شئ من الصفات التي يمكن أن نضعها تحت الصفات والسلوكيات السوية !!!! . عالم وضع عنوانه المبدأ الميكافيلي " الغاية تبرر الوسيلة " والذي تفرعت منه المقولة التي يسير عليها الآن معظم البشر حكاما ومحكومين ، " اللي تغلب به ألعب به " ، أي بالمختصر المفيد ، لكي يحققوا أهدافهم ويصلوا إلى ما أهدافهم ، لا بد أن يسيروا بمبدأ ضع حذاءك فوق رقبة كل من يعيق طريقك حتى لو كان يمثل شيئا في حياتك ، المهم أن تصل إلى غايتك مهما كانت تحمل من الخيانة أو الدنس أو اللا أخلاق ، والإجمالي انعدام كامل لما يسمى بالإنسانية أو السلوك الإنساني لكي تسود بكل جدارة المقولة التي تحمل الأنانية السوداء " أنا ومن بعدي الطوفان " ، وما يسير الدهشة التي تصل إلى الاشمئزاز أن هذا الشعار تغلغل في معظم العقول بدءا من الفرد إلى الجماعة إلى المجتمع والسياسة العالمية التي أصبحت تقدس كل ما هو شيطاني. وبما أننا نتحدث عن هذا الشعار الراقص بين الانحطاط السياسي والانحطاط الأخلاقي ، وجب أن نتعرف أولا على من وضع هذا الشعار وفكره . هذا الشعار أو هذا المبدأ تبناه " نيكولو ميكافيلي " المفكر والفيلسوف والسياسي الإيطالي في القرن السادس عشر، حيث يعتقد أن صاحب الهدف باستطاعته أن يستخدم الوسيلة التي يريدها بأي طريقة وكيفما كانت دون قيود أو شروط . فكان هو أول من أسس لقاعدة الغاية تبرر الوسيلة ، واعتُبِرت هذه القاعدة أنها الانطلاقة الأولى التي ينطلق منها كل سياسي ديكتاتوري ، حيث يضعها نصب عينه ويتبناها لتبرر له الاستبداد وممارسة الطغيان والفساد الأخلاقي . ويرى ميكافيلي ضرورة استخدام العنف و القوة من قبل القائد السياسي مبررا ذلك بأنه يولد الخوف ، لأن الخوف أساسي من أجل السيطرة على الشعوب " حسب اعتقاده " ومن لم يفعل ذلك لا يعتبره قائدا سياسيا ناجحا . ولد نيكولو ميكافيلي في إيطاليا عام 1469 ومات عام 1527 ويهمنى أن أوضح الفترة التي عاش فيها لكي أُظهر فيما بعد أن فكره قد يكون استوحى من فكر التاريخ القديم وهذا الرأي هو اجتهاد شخصي ولم يُذكر في سجله ، وأيضا الكتاب الذي ألفه تحت عنوان " الأمير " قد تكون فكرته أيضا مستوحاة من فكر التاريخ القديم ، والذي بناه على أساس أن إحدى نجاح قواعد الأمير " يقصد بالأمير الحاكم في وقتنا هذا " هي أن يقوم بقتل أفراد أسرته لتدعيم مُلكه ، كما فعل روميلوس الذي قتل أخاه وشريكه في الحكم لكي ينفرد بالسلطة ويوطد سلطانه ، وكذلك فعل بروتس الذي حكم على أولاده الخمسة بالموت لكي يستمر عرشه .. وقد علل ميكافيلي هذا الفعل الخسيس بقولته الشهيرة " الغاية تُبرر الوسيلة " . وفي الحقيقة من يمعن في شخصية ميكافيلي ومقولته الشهيرة ، لن يجدها كمبدأ اعتنق في وقته فقط ، بل هي موجودة من قبل ومن بعد ميكافيلي وعلى مستوى بشر العالم كله ، فعلى مستوى الناس نجد أنها أحد الأسباب التي عملت على تهرؤ وانهيار القيم وإشاعة الشك وخوف الآخر من الآخر ، التي أفضت إلى إضعاف العلاقات الاجتماعية ، ومن المعروف أن فقدان الإنسان لعلاقاته الاجتماعية يؤدي به إلى انطوائه على نفسه ويدخله في اليأس . لقد أورد ميكافيلي في كتابه " الأمير " تشخيصا للأساليب والصفات المحددة التي يجب أن يسير عليها الحاكم الذي يريد البقاء في السلطة إلى حيث يشاء ، سأورد بعضها لنرى كيف تطبق على الأسرة والمجتمع ومؤسسات العمل . يرى ميكافيلي أنه من الضروري أن يكون الحاكم غداراً إذا وجد أن الأسلوب القويم لا يعود عليه بفائدة ، وأن يكون مدعيا ومرائيا ، وأن يجمع بين خداع الثعلب ومكر الذئب وضراوة الأسد ، وأن لا يتردد في في اختيار أي أسلوب مهما تدنى ، لتحقيق أهدافه وطموحاته ، وأن لا توقفه المحاذير الأخلاقية التقليدية لتحقيق أي هدف يريد الوصول إليه ، وأن يتقن الكذب والمراوغة ليحقق مآربه بأية وسيلة ملتوية ، وأن يوظف الدين لخدمة بقائه في السلطة لا لخدمة الفضيلة والأخلاق . ولنقف عند هذه النقطة قليلا ، ولننظر حولنا في العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه ، أليس ما جاء في كتاب " الأمير " وهو ما قلت أنه يقصد به الحاكم ينطبق تماما على حكام هذا الزمن ، فإن لم تنطبق على الجميع فعلى الأقل ستنطبق على البعض ، ومن المستحيل أن يتهرب أي حاكم منها حتى ولو بتوصية واحدة منها ، نعم وحقيقة ما جاء به ميكافيلي عن الحكام هو هو ما نراه في كل وقت وزمان، حيث السياسة اللعوبة في أي اتجاه وكأنها تجسدت في مبدا " الغاية تبرر الوسيلة " ، فلا بأس أن يُقتل الملايين طالما هذا في مصلحتة ، ولا بأس أن يتحالف مع الشيطان بل مع كل الشياطين والجن والعفاريت وشمهورش ما دامت تخدم مصالحه ، موت وسجون ومعتقلات في كل مكان لمن يرفع صوته ، استخدام الدين كوسيلة للوصول إلى الأهداف بالرغم من أنه لا يعرف من الدين أو تعاليمه أكثر مما تعرفه عاهرة عن الشرف ، بالتأكيد كلماتي ليست إنشائية أو مدعية أوغفوة قلم أو حكمة جاهل فهي مستمدة من التاريخ حتى لو كان إسلوبها فظ والأمثلة على ذلك كثيرة . ياترى هل كان نابليون يقصد بالفعل في حملته الصليبية ما كان يشيعه أنه خرج ليحمي المسيحيين ؟! ، ياترى هل جورج بوش الأبن كان يقصد بالفعل ضرب العراق لأن بها ترسانة نووية أم لأسباب أخرى قد يكون بعضها انتقامي وشخصى ؟! ، ياترى هل ترامب يقصد بالفعل أن يحابي إسرائيل عن إيمان بأن هذا حقهم أم أن الموضوع يحكمه التعضيد في الانتخابات الرئاسية القادمة ؟! ، هل ياترى عبد الناصر كان يقصد أن يجمع العرب أم كان يبحث عن الزعامة التي أوصلتنا إلى الهزيمة المنكرة في يونيو ؟!1967 ، لأنه انشغل بفكرة الإمبراطور وترك الأمور الداخلية لأهل الثقة الذين لم يكونوا على القدر الكافي من المسئولية؟! . وهل السادات كانت يهمه الدين بالفعل عندما لعب لعبة خلط الدين بالسياسة وترك الجماعات الإسلامية لتتأغول وكانت النتيجة أنه أوصل البلد إلى يد الإرهاب تحت شعار الرئيس المؤمن ؟! ، وهل الثورات العربية وما يُدعى بالربيع العربي ، كانت بالفعل من أجل الحرية والديمقراطية ورغيف الخبز أم كانت لعبة وتطلعات إخوانية للوصول للسلطة ؟!، أليس كل هذا يحكمه المبدأ الميكافيلي . أمثلة وليست على سبيل الحصر لأنه موضوع كبير يحتاج إلى كتاب كبير وشرح مطول . لكن فقط هنا أقول أنظروا إلى الحكام وسياستهم الآن في جميع أنحاء العالم وإن لم تنطبق عليهم صفات الحاكم التي جاءت في كتاب " الأمير " فأنا على استعداد لأن أخرج إليكم ومن كان بلا خطيئة فليرجمني بحجر. لا أحد يستطيع أن ينكر أن الحكام في كل عصر وإلى الآن يسيرون بمبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " سواء كان في سياسة الداخل أو سياسة الخارج . وإذا انتقلنا إلى المجتمع بصفة عامة ومجتمعنا بصفة خاصة نجده يشير بكل جدارة نحو الشخصية الميكافيلية ، أباء لا يعرفون عن الإبوة سوى أنها قفزة بهائمية انتجت ألأبناء بلا عدد ، فباعوا بناتهم من أجل المال ، يعيشون المبدأ الميكافيلي " الغاية تبرر الوسيلة " كأسوأ ما يكون القواد حتى على بناته ، وأيضا من اعتمد الأسلوب التسلطي في تعامله مع زوجته وبناته معتمداً المبدأ ذاته مبررا أن القسوة التي خولته له الذكورية مطلوبة للمحافظة على شرف العائلة وهوغايته أثبات رجولة قد تكون ناقصة بهذا التجبر. وفي مجال العمل ستجد هناك من كان أملط الوجه فأطلق لحيته لأن مديره ملتحي ، ومن تحجبت لأن مديرتها محجبة ، فيما هي تنزع حجابها فيما لو كانت في زفة عرس أو في مجال الفن وغايتها الربح المادي ، ومن لا تنقطع خطواته عن الذهاب إلى الكنيسة أو المسجد أو المعبد ، وهم يعيشون كل أنواع الخطيئة وبكل ألوانها ، وقس على ذلك الكثير ممن يستخدم الأساليب الملتوية من أجل تحقيق غاياتهم فأصبح الجميع وكأنهم اختاروا الدخول تحت مظلة المبدأ الميكافيلي .
هل كان هيرودس ميكافيليا قبل أن تظهر الميكافيلية .
******************************************
لا أعتقد أن المبدأ الميكافيلي أو فكرة كتابه " الأمير " كانا من نتاج فكر ميكافيلي البحت ، لأننا لو عدنا إلى التاريخ سنجد أنه منذ القدم كان مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " موجودا بشكل صارخ بين الملوك والحكام ، ونحن في مناسبة عيد الميلاد المجيد ، ميلاد السيد المسيح له المجد ، قفز إلى رأسي ما جاء في الكتاب المقدس كحلم ليوسف النجار خطيب " العذراء مريم " والدة السيد المسيح في حلم على لسان الملاك " قم وخذ الصبي واهرب إلى أرض مصر لأن هيرودس يطلب نفس الصبي " ويقصد به " الطفل يسوع " ، لماذا يطلب هيرودس قتل الصبي ؟! ، ملك وصل من العمر عتياً ، كيف يخاف من صبي صغير ؟! ، في الحقيقة هيرودس كان مريضا بداء العظمة ومن ثم خوفه على كرسيه كملك ، جعله يعتنق المبدأ الميكافيلي وبينه وبين ميكافيلي ما يزيد عن ألف عام ، فهو لم يتوان عن قتل أي أحد يشك في أنه يتآمر عليه ، حتى أنه قتل إحدى زوجاته وثلاثة من ابنائه ، وقد شك أن الجميع يتآمرون لانتزاع كرسي الحكم منه ، وهذا يعيدنا إلى ما جاء في كتاب " الأمير الذي ألفه " نيكول ميكافيلي " ، وهو أن الأمير " الحاكم " يقوم بقتل أفراد أسرته لتدعيم مُلكه ، كما فعل روميلوس الذي قتل أخاه وشريكه في الحكم لكي ينفرد بالسلطة ويوطد سلطانه ، وكذلك فعل بروتس الذي حكم على أولاده الخمسة بالموت لكي يستمر عرشه .. وإن كان ميكافيلي برر ذلك بقولته الشهيرة " الغاية تُبرر الوسيلة " فهيرودس لم يختلف عنه ، حتى وصل به الأمر أنه خشي من الطفل يسوع المولود في بيت لحم والذي جاءه خبره من المجوس لأنهم رأوا نجما في السماء وهم العلماء في الفلك وعرفوا أن هذا النجم علامة على ولادة ملك سيحكم في اليهود ، فلما أخبروا هيرودس وبالرغم من أنه كان في نهاية عمره ، لكنه خاف على كرسيه فأوصى المجوس الذين كانوا في طريقهم لرؤية الصبي الذي ولد كملك لليهود لتقديم الهدايا له ، ليخبروه عن مكان الطفل لكي يقدم هو أيضا الهدايا له وهو في داخله خبث ومكر القضاء على الطفل ، فلما سخروا منه المجوس ولم يعودوا إليه امتلأ بالحنق وتملكته نزعة شر " الغاية تبرر الوسيلة " وأمر بقتل أطفال بيت لحم من دون السنتين ، على أمل أن يكون الصبي الذي يهدد عرشه من ضمنهم ، لكن بترتيب إلهي تمكن الصبي من الهرب إلى مصر مع أمه مريم ويوسف النجار وكما ذكرت بناء على حلم أُوحي به إليه . ومن هنا أعتقد أن الهجوم الذي تعرض له ميكافيلي وكتابه الأمير لم يكن في محله ، لأن من يمعن النظر في مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " يجدها قاعدة قديمة قدم الإنسانية . في الحقيقة كنت أود أن أكتب المقال بأكمله عن ولادة السيد المسيح له المجد ، لكنني تذكرت أنني كتبت عن نفس الموضوع العام الماضي ، وبالتالي رأيت أن أكتب عن نقطة جديدة لم أتعرض لها وهي هروب الطفل وأمه إلى أرض مصر ، وربما يكون من حظ مصر ومن حظ الشعب المصري أن ينال هذه البركة الكبيرة بهذه الرحلة المقدسة التي تنقلت في العديد من الأماكن في طريق رحلتها من بيت لحم حتى وصلت إلى صعيد مصر ومدينة أسيوط ، فأعطت مصر بركة كبيرة وحتى الآن نحصد من بركاتها وقد أصبحت الأماكن التي أتت إليها العائلة المقدسة "مزارات سياحية " ، مناسبة ميلاد السيد المسيح له المجد هي مناسبة رائعة ، وكل عام وانتم بخير وبركات تعم على الجميع وعلى أرض مصر الحبيبة .
إدوارد فيلبس جرجس
**********************
أخبار متعلقة :