مصر عصرية في الحجر وليس البشر
تعاني مصر منذ عشرات السنوات من حالة ربما كنت أول من وصفها أنها "هوس ديني"، فهي ليست حالة مجرد إهتمام بالدين، ولا حالة إهتمام بالأخلاق والقيم الضرورية للفرد والمجتمع، فهذه موجودة في مجتمعات العالم كله، لكن ما حدث في مصر كان وما يزال هو حالة خرجت عن حدود العقل السليم والصحة المجتمعية والفردية المطلوبة ووصلت علي مرحلة من المرض النفسي الجماعي الشامل، فقد رأينا مجتمعاً ينشغل إنشغالاً زائداً إلي حد التطرف والغلو في النافل من مظاهر وشعائر التدين، وليس جوهر القصد الديني
ورأينا دعاة المساجد والتفلزيون قد صاروا نجوماً في المجتمع، بينما انزوي نجوم الفن والفكر والعلم والثقافة والإقتصاد والإجتماع والتعليم، وصارت الفتاوي هي شغل الناس الشغل، ووصل الأمر إلي حد أن الانسان المصري المسلم والمتعلم تعليماً عالياً أصبح يسأل الداعية هل يدخل المرحاض بقدمه اليمني ويخرج باليسري أم العكس، والكارثة انني وجدت من يدافع عن هذا من المتعلمين تعليماً كنا نسميه "تعليم عالي"، وبقية مظاهر الإنحدار الذي وصل إليه العقل الجماعي علي يد هؤلاء الدعاة معروفة للجميع، من أول فتوي ارضاع الكبير، إلي فتوي التداوي ببول البعير، حتي صار من المنطقي أن نسأل إن كان مصر قد عادت إلي عصور ما قبل التاريخ وما قبل الحضارة.
وفي مقابل التشدد المفرط للأغلبية المسلمة التي تحجبت ثم تنقبت معظم نسائها في خلال عشر سنوات بداية من منتصف الثمانينات تقريباً، وطغيان التواجد الديني الصارخ في الساحة المصرية العامه بكل اشكالها، وجدت الأقلية المسيحية نفسها مضطرة إلي اللجوء إلي الكنائس والإنزواء بين جدرانها والتشبث بدورهم بمظاهر التدين علي حساب جوهر القصد الديني، فعلقوا الآيات في سياراتهم وأداروا كاسيتات التراتيل ما دام المسلمون يديرون القرآن في سياراتهم، وانقلبت ساحة المواطنة العامة إلي سباق تنافسي في إظهار علامات التدين السطحي، وصار الصوت الأعلي في المجتمع المصري هو صوت ديني زاعق ناعق يطارد الناس في كل مكان حتي داخل بيوتهم عن طريق مكبرات الصوت الهائلة في كل مكان.
حدث هذا لأن الدولة منذ السادات ومروراً بمبارك شجعت وزايدت علي التيار الإسلامي الإخوانجي ثم السلفي وفشلت في التصدي له أو اختارت عن تنسحب عن المواجهة الفكرية له واكتفت في بعض الأوقات بالمواجهة الأمنية للجماعة الاخوانية وفي أوقات أخري بالتنسيق معها.
هذا هو التاريخ الحديث الكئيب لما حدث في مصر، وهي كآبة مازلنا نعاني منها ونري اسبابها وشواهدها ظاهرة في المجتمع المصري.
والآن، كيف الحال؟
تغيب عن مصر عشرين تلاتين سنة وترجع لتجد المسريين يتكلمون في نفس القضايا الوهمية .. الحجاب عادة أم عبادة؟ الحجاب فضيلة أم وسيلة؟ الحجاب فرض أم عرض؟ فنانة تحجبت فتقوم حفلات التحليل والتكبير، وفنانه خلعت الحجاب فتقوم حلقات التقريع والتنديد من جانب، وبعض الترحيب والتشجيع من جانب آخر.
يتغير الرؤساء دون أن يتغير النظام، تقوم الثورات وتقعد، تتغير الطرق والكباري والأنفاق، تقام مدن جديدة ومنتجعات جديدة، ولا يتغير الإنشغال بنوافل التدين وقضاياه الوهمية التي تظل هي الإهدار الأعظم للطاقة الإنسانية، وتظل مصر بهذا شبه دولة عصرية، تظهر عصريتها في الحجر ولا تظهر في البشر.
الهجرة في الوقت المناسب؟
كثيراً ما أشعر بالإمتنان أنني هاجرت من مصر في أول السبعينات فلم أعاني من معايشة بداية الإنهيار الثقافي الحضاري الذي أحدثه الإخوان حين أطلقهم نظام السادات علي المجتمع المصري ينهشون جسده ويحجبون روحه، لم أعاني عذاب رؤية إنهيار ما حققته الستينات من زهو ثقافي شاهق في جميع مجالات الثقافة والفنون والآداب والإبداع.
أقول لنفسي لقد هاجرت في الوقت المناسب تماما، لتظل مصر في ذهني ووجداني هي مصر الجميلة، مصر الستينات، مصر العندليب وشادية ونجاة وفاتن حمامة، مصر مسرح الجيب والمسرح القومي وفرقة رضا ومسرح العرايس والليلة الكبيرة، مصر صلاح جاهين وصلاح عبد الصبور، مصر رجاء النقاش ولويس عوض وغالي شكري ونجيب محفوظ، مصر صباح الخير ولويس جريس ومصطفي محمود قبل الدروشة، مصر أهرام الجمعه والبرنامج الثاني وحفلات أضواء المدينة، مصر الفرقة القومية للفنون الشعبية ومسرح البالون وحديقة الأندلس، مصر الجيل الجديد من الموسيقيين أبناء عبد الوهاب.. الموجي والطويل وبليغ.. مصر ما قبل الحجاب والنقاب، مصر الرائدة عربياً وأفريقياً وزعيمة العالم الثالث مع الهند ويوغسلافيا التي لم تعد موجوده اليوم لكن تبقي مصر.
نعم هاجرت في الوقت المناسب فلعل عندي حاسة زمنية مرهفة أنبأتني بالسقوط القادم، فقد انتهت الستينات فانتهت أعظم نهضة ثقافية حضارية مصرية منذ محمد علي، وبدأ الإنحدار الحضاري الثقافي بقيادة الهوس الديني الإخواني السلفي، ومازال مستمراً.
ظاهرة عابرة للأديان
الهوس الديني ليس حكراً علي دين بعينه، لكننا نجده لدي البعض من المتشددين في كل دين وكل مجتمع.
وأتذكر حادثة من طفولتي وأنا في شبرا بالقاهرة.
كنت صغيراً أسير مع والدي في شارع الترعة البولاقية بشبرا، وكان والدي مازال أفندي إسمه فؤاد باسيلي قبل رسامته بعد ذلك كاهناً قبطياً علي كنيسة مارجرجس بشبرا بإسم القمص بولس باسيلي، وطبعاً في الصغر تسير مع والدك في الشارع لا تعرف ولا تسأل أين نذهب، كان الوقت مساء، وجدت والدي يقف ويقرأ يافطة علي أحد المباني، ثم يصحبني داخلاً، وكانت قاعة بها مجموعة من الناس تصلي، ولكن بطريقة مختفلة، فقد وقف بعض الحاضرين وراحوا يرطنون بكلمات غريبة لم أفهم كلمة واحدة منها، ولصغري تصورت أنها لغة أجنبية، جلسنا فترة قصيرة من الوقت وكنت أري علي وجه أبي علامات الضيق، وبعد أن صعد آخرون إلي المنصة يرطنون أيضاً بكلمات غريبة والناس تهلل لهم وتقول آمين آمين، هب أبي واقفاً وكأنه لم يعد يحتمل وأخذني من يدي قائلاً يالله بينا.
رحنا نسير في الشارع نحو البيت، سألت أبي، هما كانوا بيقولوا إيه يا بابا؟ قال لي .. دول مهاويس يابني..ما بيقولوش حاجة.. بيبرطموا.
وبعد أيام سمعت والدي يتحدث إلي بعض الزوار في بيتنا ويقول ضارباً كفاً علي كف.. وكل شوية يقوم لك واحد ويقعد يبرطم بأي كلام والناس ترفع ايديها وتصرخ آمين آمين، ويقولوا دول بيتكلموا بألسن. دول مش فاهمين حاجة أبداً. دا إحتيال.
مازلت أذكر هذا الحدث لأنه إنطبع في ذاكرتي لغرابة ما رأيت وما سمعت من كلمات مبهمة وتصرفات غريبة من الحاضرين، عرفت بعد ذلك أن هؤلاء ينتمون إلي إحدي الجماعات البروستانتية التي تمارس ما يقولون أنه "التكلم بالألسن" إشارة إلي ما جاء في الإنجيل أن التلاميذ ذهبوا يبشرون الناس في بلاد مختلفة وكانوا يكلمونهم بألسنتهم.
لم يكن هذا هو السبب الوحيد الذي جعل والدي يترك البروستانتية وينضم إلي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في شبابه، فقد إنضم قبل زواجه أي قبل هذا الحدث بسنوات، أعتقد وهو شاب قبل العشرين من عمره، في الأربعينات أو قبلها من القرن الماضي، بينما ظل بقية أعمامي وعماتي علي مذهبهم البروستاتي، والسبب الأساسي في إنضمام والدي للكنيسة الأرثوذكسية كان تعرفه علي الرائد المصلح الكبير المسمي "أبو الإصلاح" الإرشيدياكون حبيب جرجس، وهو رجل فذ قام وحده بانجازات ضخمة كان لها أكبر تأثير علي الكنيسة القبطية، منها تأسيسه للكلية الإكليريكية في منطقة "مهمشة" أيامها، أي كلية اللاهوت والتي كان يدرس ويتخرج منها بعد ذلك الكهنة الأقباط.
وقام حبيب جرجس بتعيين فؤاد أفندي باسيلي أول أستاذ لكرسي الوعظ بالكلية، كما كان حبيب جرجس هو من أسس "مدارس الأحد" في جميع الكنائس علي غرار Sunday Schools ف الكنائس الغربية التي لم يكن أحد في مصر يسمع عنها في ذلك الوقت، وكان أيضاً رائداً للصحافة القبطية فأصدر مجلة الكرمة كان والدي وهو شاب صغير يقوم بالمراجعة اللغوية لبروفاتها قبل الطباعة لتمكنه من اللغة العربية، وهي خاصية ورثتها عنه لحسن الحظ.
وكان تأثر والدي بحبيب جرجس كبيراً فكان هو والده الروحي حتي أنه قال أنه بكاه عند وفاته أكثر من بكائه علي والده الجسدي، وكان أول مشروع خيري يؤسسه والدي وهو ما يزال فؤاد باسيلي هو مركز إجتماعي ثقافي للشباب في شبرا بإسم "نادي حبيب جرجس التذكاري"، وكنت كثيراً ما اذهب لألعب بنج بنج هناك وأغلب من هم أكبر مني سناً فيضحك عليهم أصحابهم أن "عيل صغير" غلبهم.
ثم قام والدي بإصدار مجلة دينية شهرية كما كان يفعل حبيب جرجس، بإسم "مجلة مارجرجس" ظل يصدرها وحده ثلاثة وثلاثين عاماً ولم يتوقف إلا حين منعته الدولة لأنه صار "خريج سجون" بعد أن سجنه السادات في هوجة سبتمبر 81، وقبلها بسنوات كان قد أسس ملجأ وجمعية لرعاية المكفوفين بشبرا باسم "جمعية الكرمة" علي إسم مجلة حبيب جرجس، وراح يتوسع فيها علي مر السنوات فصارت صرحاً يضم عدداً من المؤسسات التي تخدم المكفوفين والكفيفات والمسنين والمسنات والمغتربين والكثيرين من المحتاجين في شبرا والقاهرة وأنحاء الجمهورية.
في تذكري لهذا كله كان الدرس الأهم الذي تعلمته من والدي هو ذلك الفرق الهائل بين مفهوم لا يري في الدين سوي الكلام والبرطمة التي بلا معني ولا جدوي كما في بداية حديثي هذا، وبين مفهوم والدي أبونا بولس للدين الذي مارسه طول حياته، وهو خدمة المحتاجين وعمل الخير لهم، وليس مجرد الكلام والوعظ، رغم أنه كان أستاذا للوعظ، فلعه علم الكثيرين، ومنهم تلميذه نظير جيد الذي صار بعد ذلك البابا شنودة، علمهم أن التدين ليس كلاماً يلقي في الهواء ولا برطمة بالألسن، ولكن هو أعمال حقيقية تفيد المحتاجين وتريح المتعبين، فكما يقول الكتاب المقدس "إيمان بلا أعمال ميت".
لماذا لا يسأل المؤمنون أنفسهم، ما فائدة أن يقف أحد ليتكلم بألسن؟ من أفاد أو إستفاد بهذا العمل؟ حتي لو كان الروح القدس قد هبط عليه وجعله يتكلم بلغة لا يفهمها هو ولا أحد غيره، وبالتأكيد أن هذا لا يحدث لكنها أوهام وهلاوس إن لم تكن غشاً فاحشاً، فمن يفيد هذا العمل؟ هل التدين هو أن تعمل ما لا يفيد أحداً؟ أهي منظرة علي الآخرين وفشخرة أمامهم؟ هل يسأل المؤمن نفسه لماذا أفعل ما أفعل.. وهل لما أفعله معني أو جدوي؟
هناك أمثلة أخري كثيرة لممارسات ليست من جوهر ألدين ولا معني أو فائدة لها وتحتوي علي الكثير مما يجب التخلص منه من نوافل التدين مثل ما يقال أنه إخراج الشياطين التي تركب البشر - وهي لا تركب سوي البشر في المجتمعات المتخلفة بالمنسابة فلا شياطين تركب البشر في أمريكا - وإيضاً ما لا نهاية له من أساطير عن أجساد لقديسين ماتوا من سنين ولكن لم تتعقن أجسادهم، وأنابيب القديسين، وغيرها مما لا يجوز أن يظل متداولاً في عصر العلم.
كم أنا ممتن لوالدي أنه علمني بلا وعظ ولكن بالمثال العملي، علمني أن أرفض الخداع والهوس باسم ألدين، فهم لم يقتنع في حياته بأمثال هذه الممارسات الخارجة علي المنطق والصدق والدين، وركز في حياته علي الخدمة الحقيقية للمحتاجين والمكفوفين والمسنين والمغتربين، متمثلاً بالسيد المسيح الذي "كان يتجول يصنع خيراً".
هذا الدرس الذي تعلمته من أبونا بولس الذي وصفوه بأنه "نموذج للكهنوت المثالي" شكل مفهومي للدين والحياة، مفهوم يمكن تلخيصه في عبارة واحدة..
لا تقل لي بماذا تؤمن، أرني ماذا تفعل.
أخبار متعلقة :