" جاد الكومي " نزح من إحدى قرى الصعيد ، أغواه أحد معارفه علي ترك العمل في أرض أبيه التي لا تتعدى النصف فدان ، ليعمل ضمن طائفة المعمار بالقاهرة . سلبت لبه أفلام الفيديو التي كان يشاهدها في المقهى الوحيد بالقرية ، أحضر صاحبها الفيديو معه بعد انتهاء عمله في أحد البلاد بالخارج ، يتربح من الأفلام التي تجذب القرويين بعد ثقل النهار في عمل شاق . جاد الكومي على رأس القائمة ، يأكل الأفلام ونسائها بعينية ، يعود بعدها إلى داره ساخطاً على نفسه وقريته والعرق الذي يستنزفه بدنه كل يوم في العمل بالأرض لقاء لقمته هو وزوجته وطفليه . يقيم في دار أباه الذي يجمعه هو وأخوته وبعض المواشي ، لم يكن له من صفات الدار سوى جدران من الطين وتقاسيم داخليه تفصله لأجزاء صغيره ، يغلقها باب من الخشب القديم ، يوقظ صريره المستغرق في نعاسه . نصيبه واحدة من هذه التقاسيم ، يحشُر فيها جسده هو وزوجته وأطفاله . يحمل هواءها خليط من رائحة العرق وبول الأطفال . يتحمله جاد على مضض في أشهر الشتاء ، مع أول بادرة للربيع يلوذ بسطح المنزل حيث الهواء الطلق . يعود من المقهى كل ليلة ويصعد مباشرة إلى أعلى ليريح جسده المنهك من جهد النهار والسهر ، يحلم بما امتلأت به عيناه من الأفلام التي أدمن على مشاهدتها ، خاصة نساء هذه الأفلام . كثيرا ما كان يسأل نفسه هل توجد فعلا نساء تحمل هذا اللحم الأبيض الشهي ! هل كُتب على أمثاله الحرمان من كل أنواع اللحم لا يأكله ولا يحضنه .. اللحم الذي يكسو بدن زوجته لا يعتبر لحما .. يختلف تماما ، هل يتساوى طبق الفول مع طبق المهلبية البيضاء.. يخشى أن تلمسه كعب قدمها إذا جمع بينهما الفراش ، خشنة كالمبرد تتخللها شقوق ووديان .. قهقه عاليا عندما شاهد يوما بعض حشرات النمل تتسلل خارجة من أحد هذه الشقوق . نساء الأفلام تبدو كعوب أقدامهن من الأحذية المفتحة من الخلف كثمرة حمراء ، لو تمكن منها سيقضمها بأسنانه ، بإنجابه لطفليه أعتبر أن مهمته الزوجية انتهت ، الزوجة القروية لم تقبل أن تفرط في حقها ، تظل منتبهة لحين عودته من المقهى ، تتسلل خلفه إلى سطح المنزل لتمارس حقها عنوة . حتى الهواء النقي الذي يستنشقه فوق سطح المنزل حُرم منه ، عنفه أبوه وأمره ألا يرقد أعلى المنزل ، بعد أن اشتكي إليه بعض الجيران أنهم شاهدوه أكثر من مرة مع زوجته ، يخشون على بناتهم أن تنفتح أعينهن مبكرا . هذه الواقعة كانت المنعطف الذي غير حياته بأكملها . تسلل ذات يوم دون وداع ليقفز في إحدى عربات الدرجة الثالثة للقطار المتجه إلى القاهرة ، وفي نيته البحث عن معرفته الذي دأب على غوايته للعمل في طائفة المعمار. ترك خلفه كل شيء ، لم يتردد لحظة ، تقيأ من جوفه كل ما يربطه بقريته ، حتى الشهامة والشرف اللذان يولدان مع أبناء الصعيد ويلازمونهم حتى الموت .
**********
_ حبيبتي .. الحب في عينيك له لون آخر .
_ حبيبي.. الهمس بين شفتيك كقيثارة الغروب .
_ لا تقاطعيني أرجوكِ ، ودعيني أغوص في أعماقهما لأكتشف سر هذا الطيف الغريب ، الذي لم يره أحدا من البشر من قبل .
_ لا تكن أنانيا ، ودعني أنا أيضا أستمتع بسماع روحي وهي تناجيك.
_ مُجبرعلى الأنانية يا حبيبتي .. لأني أخشى أن ينقضي العمر ولم انته من البوح بما يخفق به قلبي ، وأنا أتملى في بستان الورود وشعاع القمر الحالم وهو يداعب نبع الماء الصافي.
_ أشعر بالمرارة والغيرة يا حبيبي ، أستمع لهمساتك تنسكب كلحن عذب في أذني ، ولساني يعجز أن يُخرجَ طوفان حبي لك .. أفكر في أن أريح نفسي وأشق صدري ، أُخرج قلبي وأضعه أمامك فوق المنضدة ، لتشاهد الساكن به وتتأكد من أنك صورة للأصل الذي خبأته في قلبي .
_ تواضعك عجيب يا حبيبتي .. تَدعين على لسانك العجز.. وكلماتك يمكنها أن تنبض قلب الحجر .
_ يقولون يا حبيبي بأن الحب يمكن أن يصنع من الإنسان فنانا أو شاعرا أو حتى بطلا . لم أكن أتخيل أن يحولني لحالمة في اليقظة والمنام .. أحيانا أظن أني نائمة وأنا أسير وأتخيلك تسير بجانبي ، وأحيانا أخرى أظن أني أسير وأنا نائمة ، ألتقي بك وأرتمي في غيبوبة لذيذة بين ذراعيك.
_ أرجوكِ ألا تلهبي دماء قلبي ، أخشى أن أقفز الآن وأحملك فوق كتفي وأطير لنسكن كوكب بعيد ، لم أعد أتحمل الانتظار حتى نتزوج .
سأل النادل بصوت هامس وكأنه رق لحالهما :
_ هل أحضر لكما عصير البرتقال كالعادة ؟ ، لم يشأ أن يوقظهما من أحلام الملائكة .. أومأ عادل بابتسامة للنادل الذي يعرفهما حق المعرفة ، اعتاد على رؤيتهما دائما في جلستهما الهادئة التي تطل على زرقة النيل ، يُشعر بالقلق إذا تغيبا بضعة أيام . رؤيتهما معا تبشر بأن قلب الحب لا يزال ينبض . قهقهت ميرفت والخجل ينثر على وجهها بعض من أوراق زهرة حمراء ، همست بصوت ملفوف بنعاس الحب :
_ هل تظن أن النادل كان يقف بجوارنا منذ فترة ولم نلحظه ؟
_ لا أستطيع أن أجيبك بنعم أو لا .. فأنا لم أفق إلا على صوته .. ابتسامته تقول بأنه كان يقف منذ برهة ليست بالقصيرة ، لا تطاوعه نفسه أن يزعج همساتنا.
عادل وميرفت بسطت لهما الدنيا جناحيها ، تطير بهما إلى سماء الجمال .. تقابلا قبل أن يتقابلا في زمن الحب الصادق ، عندما كان يركع العاشق أسفل نافذة الحبيبة ، يبثها همسات قلبه وكأنها ممزوجة بالخمر ، تتسلل إلى روحها تدفئها بخدر لذيذ ، يسكُبَ على وجهها وهجا يزيده حلاوة ، وشُعاع فضي أتى من لدن القمر المتطفل .. يحرس عشقهما النقي كزهرات بيضاء نبتت في حضن الربيع . لم يخف كلاهما حبه منذ أول لحظة تعانقت فيها العيون ، طرحاه في ضوء النهار أمام الجميع . الفضل في لقائهما الأول يرجع للأُمسية الشعرية التي نظمها طلبة وطالبات كلية الآداب على مسرح الجامعة . اجتذبت عادل طالب كلية الطب ، يرى في الشعر مفتاحا للأحاسيس كلها ، يروي المشاعر ويجعلها رطبة دائما ..لا يفوته محفل شعري .. يبكر في الذهاب ليكون في الصفوف الأولي . في تلك الليلة ذهب وهو يمني نفسه بتذوق أبيات من الشعر الجميل .. لم يستمع إلا لبعض منها بدأت بها الأمسية ، همست بها شفتا ميرفت ، تاه بعدها في كل بحور الشعر.. تجاذبته في مد وجذر.. ترك نفسه للماء ينقله لرمال الشاطئ ، ثم يعود به لليم في ليونة ورخاوة دون أن يجهد ذراعيه في العوم . التقت عيناه بعينيها وهي تغرد بكلماتها الرقيقة :
سمعت صوت نداءك
مع القمر
كحضن أمي الحنون
مع الشمس
يبث الدفء في قلبي
مع النجوم
يبعثر كعددها قبلات
مع القمر والشمس والنجوم
سمعت صوت الحب يا حبيبي
في لحظة طار قلبيهما ، التقيا فوق قمة شجرة لا يسكنها سوى الطيور البيضاء .. يقول لها أنتِ خُلقت لتكوني لي ، تجيبه كفراشة الياسمين ..إسمك مكتوب فوق قلبي قبل أن نأتي للحياة .
نالت ميرفت حزمة كثيفة من التصفيق عقب انتهاء قصيدتها ، لم ينتظر عادل كثيرا ، انتقل من فوره ليجلس في المقعد الخالي بجانبها ، همس في رقة وبساطة متناهية :
_ هل أعددت هذه القصيدة خصيصا من أجلي ؟
_ نعم .. أجابت ميرفت ببساطة أكثر ووجهها مزدان بابتسامة رائعة وحمرة تشربت بها وجنتاها .
قال عادل وهو يلتهم قسمات وجهها :
_ هذه أول مرة تريني فيها .
قالت ميرفت وهي تغرق في نظراته العميقة :
_من يصادق الشعر يرى ويحس بخياله ما لا يراه ويحسه الآخرون. وأعتقد أيضا أنها المرة الأولي التي تراني فيها ، وبالرغم من هذا أحسست بعينيك تفرضان حصارا حولي وأنا أُلقي بقصيدتي حتى لا يراني أحد غيرك .
قال عادل وكلماته تكاد تضمها إلى صدره :
أنت على حق .. عشقي للشعر يهمس في أذني دائماً بأنني سأعثر على فاتنتي مخبأة في قصيدة رائعة وها هو قد حدث .
قالت ميرفت وشعور تملكها بأنها تعرفه منذ زمن بعيد :
_ هل تظن أن الملائكة سجلت اسمينا في قاموس الحب منذ ولادتنا ، وهي التي دبرت هذا اللقاء .
_ هذا مؤكد.. كفى ودعينا نغادر المكان لأستمتع بصفاء عينيك في مكان هادئ.
_ ألن ننتظر حتى تنتهي الأمسية .
_ أشعر أني استمعت لكل أشعار العالم في قصيدتك.
**********
يومان حالكان واصل فيهما الليل سطوته على النهار .. لم تشرق شمسهما لتخفف عن سليم كآبة التفت حول عنقه ، وكادت أن تزهق أنفاسه ، يجلس أمام دكانه ينتظر الأمل في أن تزغرد رائحة عطرها فينقلب الشارع كله إلى حديقة يغرد فيها قلبه بشجي الألحان .. مع تسرب الأمل لم يسمع من قلبه سوي دقات حزينة ، ألبست كل شئ من حوله سواد ليلة غاب فيها القمر ، هربت النجوم فأسدلت عتمتها القاتمة أمام عينيه . حسب اللائحة اليومية لمرور فاتنته ، كان المفروض أن تشرق عليه خلال هذين اليومين أربعة مرات ، عقب المرة الأولي أحس بإحباط ، الثانية قفز الحزن فوق كتفيه ، الثالثة افترشت الكآبة قلبه ، وفي الرابعة انتزع اليأس روحه وطار بها بين الخرائب . طار شعاع عقله في كل اتجاه .. ماذا حدث ؟ لماذا تستكثر الدنيا على البشر لحظات السعادة ، ما أن تشاهدهم يلمسون طرفها حتى تنتزعها من أمامهم بجبروت الطغاة ، من المُخطئ الدنيا أم هو . ثلاثة أسابيع مضت منذ أول مرة استنشق حلاوتها، وبالحساب تكون خطرت من أمامه ست وثلاثين مرة ، مرتان كل يوم باستثناء يوم الجمعة الذي أطلق عليه اليوم الميت حيث لا انتظار ولا رؤية . لماذا لم يبادر باتخاذ خطوة نحوها ؟ لماذا لم يلق أمامها بقلبه ويصرخ انظري ماذا فعلت به ؟ حاولي أن تنسحبي من داخله ، إذا نجحت فلن أكون جديراً بأن أقف أمامك ثانية . من أول رؤية نفذت بقوة سحريه داخله ، آه.. جبنت ولم أفعل ، تسمرت قدماي ولم أعدو خلفها ، خشيت أن أفقد حتى هناء انتظارها . امتطانى الخوف المقيت ، بالرغم من شبه الابتسامة التي كانت تطل من بين شفتيها عندما تلتقي نظراتي بسحر عينيها ، قبعت في مكاني مثل فتوح ومنصور وعطوه وفاضل تلهث نظراتي خلفها ، فقط أنتظر ذهابها وإيابها . كنت على وشك استجمع شجاعتي ، وأطلق لساني يبعثر كل ما في قلبي تحت قدميها . تعجلتْ بالاختفاء . مصيبة أن تكون سافرت لأي مكان . حتى الآن لا أعلم عنها أي شيء. اكتفيت بالعنوان ولم أنفذ للب الموضوع . انتهي كل شيء ، سأظل في هذا المكان أجتر الحسرة . لم يدر سليم بالزفرات المحترقة ، التي كان يقذف بها من وقت لآخر تائهاً في أفكاره ، صوتها لفت نظر فاضل الحلاق وفطن لسرها ، أخذ مقعده وانتقل إلى جانب سليم ومال نحوه قائلا:
_ زفرات الهوا نادتني ، فهل تحبها ؟
أجاب سليم سريعاً وقد فطن لمقصده :
_ من هي ؟
قال فاضل مبتسماً :
_ صورتها مرسومة في عينيك فلماذا المداراة ؟
_ هل كنت تراقبني ؟
_ الموضوع غير محتاج لمراقبة ، جميعنا كنا ننتظر قدومها ، شعاع عينيك فضحك وباح بما في داخلك ، نحن لا نملك سوى النظرات ، أنت لديك ما يُمكنك من مد حبل الوصال بينك وبينها .
_ ماذا تقصد يا فاضل ؟
_ القصد واضح .. نحن لا نستطيع الاقتراب منها ، لكن أنت شاب ومتعلم مثلها ووسامتك لا تخطئها أعين الفتيات .
سأل سليم بلهفة :
_ وهل تظن أن ما تقوله كاف لكي يداعب قلبها .
أجاب فاضل مطمئناً :
_ أعتقد أن المداعبة بدأت .. كثيرا ما كنت أحسدك وأنا أشاهد على وجهها إنفراجة الرضا عندما تمر بجانبك ، توقعت أن أراك يوماً في أعقابها لكنك لم تفعل .
قال سليم وقطرات من الندم تناوش عينيه :
_ خشيت صدها .
_ لا يفوز بالحب إلا من يعرف الاقتحام .
سأل سليم والأمل يراوده :
_ الحب ينتهي بالزواج .. فهل تظن أنها ستوافق بي كزوج .
قال فاضل وهو ينهض ضاحكاً :
_ سأجيبك على هذا يا صديقي بعد انتهائي من الزبون الذي دخل إلى الدكان الآن .. الحب يمكن أن ينتظر ، لكن أكل العيش لا ينتظر.
عبر فاضل للجهة الأخرى من الشارع حيث دكانه وزبونه المنتظر، وعبر سليم بأفكاره لواد الحب والزواج وليالي وردية مع فاتنته .
وإلى اللقاء مع الحلقة التالية
*******************************
إدوارد فيلبس جرجس
**********************
أخبار متعلقة :