السلطة ظاهرة، والعقيدة غير منظورة. السلطة سمع وطاعة، والعقيدة إيمان يدفئ القلب ويروي ظمأ الروح. سمعتُ من قسيس كاثوليكي، حينما كنت أستاذا بجامعة سانت جونز، في جامايكا - نيويورك، مقولة لا أنساها: قوة ما تستشعره دون أن تراه، أشد بكثير من القوة التي تراها بعيني رأسك. من أجل ذلك، جعلتْ الدساتير الحديثة حائطا عازلا بين السلطة والعقيدة.
وفي ثنايا تاريخ مصر الحديث ما نحفظه عن ظهر قلب. ومنها: ”الدين لله والوطن للجميع“. منها أيضا أن مكرم باشا عبيد، رحمه الله، وكانت له اليد الطولى في مشاركة النحاس باشا في رئاسة حزب الوفد، أنه استمد الكثير من آيات القرآن الكريم في مواقفه المشرفة في المحاكم المصرية. قيل إنه ذكر في دفاعه في إحدى الدعاوى آية قرآنية. فقاطعه القاضي قائلا: ”هل تؤمن بما تقول؟“. وأدرك مكرم باشا، وهو قبطي أصيل، أن المحكمة تتحداه. فجاء رده التاريخي على ذلك القاضي بقوله: ”المهم أن تؤمن المحكمة بما أقول“.
ومن خلال محاولات الاستعمار الإنجليزي لمصر الذي بدأ في عام 1882 وانتهى في عام 1954 للتفرقة بين أهل البلد الواحد من مسلمين وأقباط، صاغ المصريون جملة: ”الدين لله، والوطن للجميع“. لذا تجد فوق بوابة مقر حزب الوفد في القاهرة حتى الآن الرمز التاريخي المعبر عن ذلك. ترى الهلال ويتوسطه، لا نجمة، بل الصليب.
ومن موبقات جماعة ”الإخوان المسلمون“ المنحلة، والتي أعلنتها مصر منظمة إرهابية، أنها خلطت السلطة بالدين الإسلامي، جاعلة من التلاحم التاريخي بين المسلمين والأقباط أمرا غير مقبول. بل وحرضت على عدم التحية على الأقباط حتى في أعيادهم، وهي أعياد قومية جذورها في باطن تربة مصر الأصيلة. وتهشمت تلك المحاولة الإخوانية: كان أول شظاياها إعلان 7 يناير من كل عام، وهو عيد الكريسماس الشرقي، عيدا قوميا أعلنه الرئيس السابق محمد حسني مبارك. وثاني شظاياها، تكرار حضور الرئيس عبد الفتاح السيسي للقداس في كاتدرائية مارمرقس الرسول في العباسية بالقاهرة. وثالث شظاياها إنشاء أكبر كنيسة في عالم اليوم كجزء أساسي من معالم القاهرة الجديدة، عاصمة ثلث العرب أجمعين الذين يسمون بالمصريين.
وعلينا ألا ننسى أن لفظ إيجيبتEgypt أي مصر هو لفظ يوناني، مصدر اللغة القبطية، ويعني ”بلد القبط“.
نعم، جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا. ويؤيد هذه المقولة، ما أورده عمر بن الخطاب، ثاني الخلفاء الراشدين، في صحيفته القانونية الشهيرة، جاء بها: ”البيِّنة على مَن ادعى، واليمين على مَن أنكر“. وقُمت أنا بترجمتها من اللغة العربية القُرشية إلى اللغة الإنجليزية الحديثة كي أدلل على وجوب عودتنا إلى تراثنا الأصيل. وهو تراث يجعل السلطة ظاهرة لردع المارقين، والعقيدة باطنة لإثراء المؤمنين من مسلمين ومسيحيين.
جاء في آي الذكر الحكيم: ”لقد أرسلنا رسلنا بالبيِّنات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ...“ (سورة الحديد/الآية 25).
وبناء على هذه الأدلة المتتابعة (ومعنى كلمة الآية الدليل) ذكرتُ في كتابي الذي صدر باللغة الإنجليزية في عام 2017 عن طريق Amazon أن الإسلام لا يفرق بين الأديان. عنوان هذا الكتاب: ”الثورة الإسلامية الدينية الجديدة“ The New Islamic Religious Revolution. أهديته إلى الأزهر الشريف وإلى شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب في القاهرة. وما كان من فضيلته أن عينني عضوا بمجلس حكماء المسلمين في عام 2017.
ليس غريبا أن ظهر مبدأ أو مذهب ”التوحيد“ في مصر الفرعونية وهو مذهب نادى به إخناتون، والد توت عنخ آمون. وهو مذهب يعبر عن عقيدة راسخة، ليس أمامنا إلا احترامها وإعزازها. إذ في ذلك تمجيد لكل من السلطة الظاهرة والعقيدة الباطنة.
أخبار متعلقة :