كنت فى قلة من المصريين الذين كانوا فى مطلع الثمانينيات من القرن الماضى يطالبون بدور محورى للقطاع الخاص فى مصر فى إطار من السوق الحرة التى توافق العالم آنذاك على أنها السبيل إلى التقدم. كانت هناك بشائر فى ذلك الوقت عندما أعلن الرئيس السادات عن سياسة الانفتاح الاقتصادى التى شكلت أول انفراجة فى الاقتصاد المصرى لمتابعة الأحوال فى العالم. ولكن دولة مثل الصين كانت أكثر جرأة عندما أعلنت فى مؤتمر ١٩٧٨ للحزب الشيوعى- نعم الشيوعى- الصينى بقيادة دينج هيتساو بينج عن سياسة للانتقال من الاشتراكية إلى الرأسمالية تحت اسم اقتصاد السوق الاجتماعى؛ وكان ما جرى فى الصين نهاية للثورة الثقافية الدامية وبداية طريق الصين لكى تصل الآن إلى مكانة الدولة العظمى. ولم تكن الصين وحدها على هذا الطريق، وإنما كانت الصحوة ذاتهاـ خاصة بعد نهاية الحرب الفيتناميةـ سبيلًا إلى الإصلاح ذاته فى مجموعة دول جنوب شرق آسيا لكى تبزغ بعد ذلك نمورا وفهودا اقتصادية. فى مصر جرى اغتيال الرئيس السادات، ومعه جرى اغتيال كل محاولات الإصلاح الاقتصادى، وجرت المناورة والمقامرة بالمصير الاقتصادى المصرى عن طريق الالتفاف على محاولات المؤسسات المالية الدولية لإعطاء جرعة من الرشادة الاقتصادية للسياسة المصرية. وبينما كان عقد الثمانينيات من القرن الماضى عقدا للركود المغلف بالخوف من تجدد مظاهرات «الخبز» فكانت النتيجة أن الدولة المصرية اقتربت من الإفلاس مع عام ١٩٨٩ فجاءت حرب الخليج لكى تعطى فرصة أخرى للإصلاح وتخفيض ديون مصر إلى النصف، وهو ما بدأ بالفعل بالاتفاق مع صندوق النقد الدولى. وما إن بدأ الاقتصاد المصرى فى الانتعاش حتى عاد التردد مرة أخرى فى المسيرة.
.. وذهبت الدولة مرة أخرى إلى «توشكى» لكى تمارس دورها الذى قاد إلى انكماش كان فاتحة الدخول إلى القرن الواحد والعشرين! وفى منتصف العقد الأول من القرن الجديد بدأت ربما أولى المحاولات الجادة للإصلاح الاقتصادى أولًا لنشر العمران فى مصر، وثانيًا لوضع الاقتصاد المصرى على أسس اقتصادية سليمة، وثالثًا لتشجيع القطاع الخاص للمساهمة فى قيام اقتصاد السوق. وهذه المرة قامت الثورة الأولى تحت شعارات منع زواج «السلطة بالثروة»، فانهارت السلطة وذهبت الثروة؛ حتى قامت الثورة الثانية؛ لتبدأ من جديد محاولة الإصلاح.
إنجازات هذه المرحلة الأخيرة واضحة للعيان فى العمران والإصلاح فى القواعد الأساسية للاقتصاد والمال، وهو ما أعطى القطاع الخاص فرصة كبيرة للمشاركة فى المشروعات القومية العملاقة فى ظل ظروف وفرتها القوات المسلحة لمغالبة البيروقراطية المصرية العتيقة. هذه الشراكة فى ظل النمو الاقتصادى جعلت العلاقة فى بعض الأحيان غير صحية عندما بدا أن الجيش يعمل فى ظل قواعد تنافسية مختلفة عن تلك التى فى القطاع الخاص؛ وأنه فى سعيه للإنجاز السريع للمشروعات بات مزاحمًا لمشروعات الشركات الخاصة ويخلق أحيانًا إغراقًا غير مستحب فى السوق. ورغم أن فى كل ذلك ما يقال ويرد عليه، إلا أن القوى المعادية للبلاد استغلته فى محاولات مثابرة للوقيعة بين الجيش والقطاع الخاص من ناحية، وما بين الجيش والشعب من ناحية أخرى حينما جرى التغاضى عن حقيقة أن الجيش المصرى هو جيش المجندين من الشعب المصرى؛ والحديث عن المشروعات التى يقوم بها كما لو كانت لجيش دولة أخرى. هنا فإن المبادرة الأخيرة التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى بإدراج شركات الجيش فى البورصة تعد خطوة متقدمة جديدة للتعامل مع الأوضاع الجديدة التى أفرزتها عملية النمو الاقتصادى التى جرت خلال السنوات القليلة الماضية. وإذا كانت الجيوش تقوم أحيانًا بعد العمليات العسكرية الكبرى بوقفة تعبوية تراجع فيها مواقفها، ومواضع تمركزها، وتعوض فيها ما خسرته من عدد وعتاد؛ فإن عمليات الإصلاح الاقتصادى، والإصلاح فى عمومه، تقوم بذلك من وقت لآخر لكى تحافظ على قوة الدفع وزخم الاندفاع.
لاحظ هنا أن هذه الخطوة تأتى فى وقت تتأهب فيه وزارة قطاع الأعمال العام لخصخصة عدد من المشروعات العامة، وبعد أن طال الحديث ربما يكون وقت التنفيذ قد حان. ويأتى ذلك فى وقت يبزغ فيه «الصندوق السيادى» الذى يجمع الكثير من الثروات المصرية ودفعها للمشاركة فى عمليات الاستثمار، والذى وفقًا للأنباء المتواترة أنه جاذب للمزيد من الاستثمارات المضافة والتى هى أيضا سوف تكون جزءا من السوق القومية. والسؤال هنا هو: كيف ستتم هذه الخطوة الجديدة؟ ومتى؟ وفى أية قطاعات؟ الثابت هنا أن القاعدة العامة للإجابة هى أن يقوم كل قطاع عام أو خاص من قطاعات الدولة بالمشاركة فى التنمية بما قدر له من خصائص وقدرات وإمكانيات. ولذلك فإن المشروعات الكبرى من نوعية تفريعة قناة السويس، والأنفاق تحتها، والمدن الجديدة فوقها، هى ما ثبت بالبرهان أنها من الأقدار الخاصة بالهيئة الهندسية ومشروعاتها؛ وفى حديثه ذكر الرئيس «أن مصر مستمرة فى مشروعات تهدف إلى تعزيز النمو الاقتصادى». فيما عدا هذه النوعية من المشروعات فإن التحول إلى شكل الشركات وأسهمها المطروحة فى البورصة سوف يعنى عددا من الخطوات المعقدة التى تنشئ الشركات، وتقوّمها، وتضع سعرا للسهم وهذه أمور لا يفهمها ويدققها إلا المتخصصون والفنيون. ولكن هناك أمور ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية، ونعم سياسية، وهى أن منتجات القوات المسلحة ساهمت خلال المرحلة الماضية فى تخفيض أسعار عدد من السلع الأساسية لاستهلاك المواطنين (الأسماك والصوب الزراعية)؛ ولذا فإن «الشركات»- العسكرية سابقا- المنتجة لهذه السلع لابد لها أن تظل جزءا من عملية المنافسة التى هى الضامن الأساسى فى مواجهة الاحتكار. وفى هذه الحالة فإن ملكية أسهم هذه الشركات قد تكون مناصفة بين الجيش فى ناحية والمواطنين والشركات فى ناحية أخرى. أما الشركات التى توجد فيها منافسة فعلية جارية وبقدر كاف؛ فربما تكون هذه هى التى تطرح بكاملها للمساهمة من قبل المواطنين والشركات؛ بل إن بعضا منها مثل محطات الطاقة البترولية والغازية، وفيما نأمل الكهربية فى المستقبل القريب- فهذه يمكن طرحها على الشركات المتوسطة والصغيرة حسب حجمها ومواطن استخدامها. وفى هذه الحالة ربما يكون مفيدا أن تحتفظ القوات المسلحة بحقوق الاستثمار فى المناطق النائية والجديدة التى بدأت الدولة فى تعميرها بالفعل، وذلك لفترة زمنية قد تصل لعشر سنوات أو القدر الزمنى اللازم لتغطية تكلفتها.
وبعد: هذه مجرد أفكار، ومن جاءنا بأفضل منها قبلناه؛ وهى عمومًا لفتح النقاش حول موضوع مهم طرحه رئيس الدولة بشجاعة وفاتحة لمرحلة جديدة من الإصلاح الاقتصادى نرجو أن تكون مستدامة هذه المرة.
أخبار متعلقة :