بوابة صوت بلادى بأمريكا

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الحلقة الأولى)

تنويه : ومن منبع إيماني بأن القراءة للجميع قررت أن أنشر روايتي هذه الغنية بأحداثها على حلقات .

                   استيقظ الشارع الضيق وفتح عينيه مبكراً كالعادة ، بدأت الدكاكين المتراصة على الجانبين ترفع أبوابها محدثة حشرجة متتابعة ، بحيث لا تدع سبيلاً لعودة النعاس الهارب مرة ثانية ، كان هذا إيذانا ببدء الصخب الذي اعتادت عليه الشوارع الشعبية عامة ، وهذا الشارع بصفة خاصة ، الذي يمتد كثعبان زاحف تبدأ رأسه من كورنيش النيل ، وينتهي ذيله في الجهة الأخرى ، على الطريق الرئيسي الذي يتجه يمينه لوسط المدينة ويساره للطريق المتجه  للصعيد ، تمرح بين جانبيه كل أنواع المركبات في فوضى عجيبة.

سكان الشارع المستديمون تركيبة غير متناسقة من البشر ، جمعت بين المتعلمين وأنصافهم ، ومن لم تخطو قدماه باب العلم بالمرة . أما غير المستديمين فهم أصحاب العيادات والصيدليات ومكاتب المحاماة وبعض الدكاكين ذات النشاطات المختلفة .. اختاروا أن تكون أعمالهم في المناطق ذات الكثافة السكانية المرتفعة ، حيث العمارات والبيوت متحدة بقوه لا يفصل بينها سوى دروب صغيرة ، تفتح على حارات مكتظة بسكانها . لم يعد غريبا أن تشاهد في الشارع خليطاً من الملابس الإفرنجية والملابس الشعبية والموضة وأزياء القرن الماضي ، يسيرون جميعهم في قلق متفادين الاصطدام بجميع أنواع المركبات . ولا بأس من بضع بقرات لا يمنعها الحياء أن تترك روثها في منتصف الطريق ، كما لا يمنع الحياء البعض من التراشق ببعض الألفاظ التي تخدش الآذان ، تزداد حدة في المشاجرات التي لا تنقطع فأصبحت من معالم الممارسات اليومية.

 على الجانب الأيسر من الشارع كان أول من يفتتح الضوضاء هو توبه صاحب محل الكشري ، الذي اعتاد أن يبدأ مع أذان الفجر حتى يتمكن من إعداد أطباقه للمبكرين إلى العمل ، اعتاد البعض على تدشين معدتهم بطبق من الكشري مع صلصته الحريفة ليصمد فيها لحين العودة لمنزله . انقسم السكان حول دكانه لفريقين ، منهم من توقظه رائحة الصلصة والبصل المقلي في الزيت ، ومنهم من يستيقظ على صوت المسجل الذي يطلق صوته بمجرد أن يرفع باب الدكان . الدكان الذي يليه لفاضل الحلاق الذي لا يفوته التبكير ، لا يخلو الأمر من البعض الذين يستصعبون إزالة لحيتهم في المنزل قبل الذهاب إلى العمل ، يلي دكان فاضل دكان المعلم عطوه الجزار وصبيه عكوه الذي يزن عدة قناطير، تمكنه من رفع الذبيحة وكأنه يرفع دجاجة ليعلقها في الخُطاف الذي يتصدر باب الدكان ، فتكون مصدر سرور لمن يملك الشراء ، ومصدر تعاسة لمن يراها من بعيد وينظر إليها كحلم بعيد المنال ، كانت الذبيحة في ذلك اليوم مكتنزة باللحم مما دعى المعلم عطوه أن يرفع صوته قائلا :

_ من يأكل من هذا اللحم لن يطرق باب الطبيب ولن يحتاج لوصفة العطار .

قهقه فتوح تاجر الأدوات الكهربائية الذي يقع دكانه في الجهة المقابلة وقال:

_ لا تنسى أن تقتطع لنفسك قدرا كبيرا ، حتى يغنيك عن  وصفة العطار الذي أراك واقفا ببابه كل ليلة .

قال المعلم عطوه مغتاظاً لانكشاف سره :

_ يا صاحب البيت الزجاجي لا تقذف بيوت الناس بالأحجار .. أليس هكذا يقولون .. أنسيت أنك تظل لاصقا بي كل يوم ولا تتركني حتى تفوز بخصية الذبيحة لتمنحك بعض القوة.

قال فتوح ولم تنقطع قهقهته بعد :

_ لا أنكر هذا .. زوجتي عندما تراني منتفشا كالديك تقول لا تنسى أن تشكر المعلم عطوة.

 نظر منصور الميكانيكي الذي يجاور فتوح إلى جاره سليم صاحب محل شرائط الفيديو وصفق بيديه مهللا:

_ ألا تسمع يا أستاذ سليم ، يبدو أننا نجاور جيرانا ودعوا رجولتهم مبكرا.

 لم يعلق سليم ، جميع حواسه منطلقة بعيدة عن أحاديثهم ، ساكن فوق مقعده ، لا تبدر منه حركة سوى عينين قلقتين تراقبان الطريق .. يفتح دكانه مبكرا وهو يعلم أن عملائه لا يتوافدون عليه إلا بعد منتصف النهار .. ينتظرها كل يوم بقلب تعلو دقاته على ضوضاء الشارع ، لا يحتسب يوم الجمعة من أيام الأسبوع ، يوم عطلتها ، يتمني أن تكون الدراسة متصلة طوال أيام الأسبوع . ينهض صباح السبت مبكراً على غير العادة ليسرع إلى دكانه ، بالرغم من تأكده بأنها لن تهل على الطريق قبل الساعة الثامنة والنصف ككل يوم  مدفوعاً بحرمانه من رؤيتها يوم الجمعة ، لم ينتبه لما قاله منصور الميكانيكي ، أغلق أذنيه التوتر الذي يبلغ أشده في تمام الساعة الثامنة والنصف وقت مرورها ، لم يفق سوى على صوت المعلم عطوة وهو يقول متهكماً:

_ هل أحضر لك السكين لتعدو خلفها وتشق ثيابها ، لتكمل عيناك جولتهما يا أستاذ سليم .

اشترك فاضل وعطوه وفتوح ومنصور في قهقهة عالية ، أقلقت نشوة سليم ، نهض مبتسما وهو يهز رأسه هاربا للداخل ليخفي توهج وجهه ، عاد ثانية إلى مقعده أمام الدكان حتى لا يفوته أن يتنفس بعض عطرها ، الذي يترك عبقه عالقا بالهواء لفترة طويلة ، تجتاحه الدهشة دائما ، كيف لهذا العطر وصاحبته أن يسكنا مثل هذا الشارع .

المرة الأولى التي لمحت عين سليم ناديه لأول مرة لم يمض عليها عدة أيام . أتى إلى الشارع المزدحم  بعد تخرجه مباشرة من كلية التجارة يصحبه قراره لأن يعمل حرا ، افتتح دكانا لبيع وتأجير أشرطة الفيديو التي كانت تلقي رواجا في الأحياء الشعبية في ذلك الوقت . تسللت إلى أنفه وهو داخل دكانه نفحات من عطر يستبعد تماما وجوده في مثل هذا الشارع ، أسرع بالخروج ، لم يتمكن من مشاهدة صاحبة العطر إلا من الخلف ، كانت قد تعدت بابه ببضع خطوات ، تاركة خلفها شذا أثار في داخله إحساسا غامضا ، تجمدت عيناه على الخلف الرائع المشحون بأنوثة أبرزها الثوب الملتف بدقة حول كل ثناياها ، شيعتها عيناه إلى أن غابت عن بصره ، ما تبقى من عطرها ظل يدغدغ حواسه لفترة ليست بالقصيرة . تطلع إلى ساعة معصمه وسجل في ذهنه تمام الثالثة بعد الظهر ، انتظرها في اليوم التالي أمام الدكان وبكر في الخروج حتى يحظى برؤيتها من الأمام وتشيعها نظراته من الخلف ، رصدت عيناه ما  فاق كل توقعاته وخيالاته ، صاحت كل أحاسيسه صيحة العشق البكر . خليط لا ينفصل من الإعجاب  وعربدة القلب المتوثب للانطلاق من قفصه ، تاهت العينان في محاولة للملمة كل ما تقع عليهما ، لتحفر صورة في ذاكرته لا يمكن لأي قوة أن تمحوها ، ما نُقش في لحظات اجترته ذاكرته في ساعات ، غابت عن عينيه لكنها مرسومة بكامل حلاوتها في وجدانه ، غافله قلبه وانطلق من أسره ليعدو خلفها ولم يعد ، هجره وسكن بجانبها ، ترك صاحبه دون دقات ، أكثر من مرة سمع دقاته مع خطواتها ، حاول أن يستعيده من بين قدميها ، فشل ويئس ، أظهر له لسانه وهو يزداد تشبثا بهما ، تركه وعاش بخياله المحمل بوجه لا يصلح لوصفه حتى شعراء الغزل ، فمهما بلغ إبداع القلم أحياناً يقف صامتاً أمام روعة الجمال وكانت  تحمل  هذه الروعة  ، وجه يحتاج لقلم يكتب بكل حواسه وقد فاق كل الوجوه منذ حواء ، كل جزء من ملامحه تعزف نغمة منفردة ، اتحد الجميع ليخرجوا معزوفة رائعة لعازف يعشق الجمال ، وجه ماكر ينقلك دون أن تدري من رِفقة الملائكة إلى أتون من نيران الإثارة يقذف بسعيره عن بعد ، البدر الحالم وشمس الظهيرة اجتمعا معاً ، الجسد الفائر الذي يضخ الأنوثة المجنونة ، لا يمكن أن يكون إلا جزء من لهب يشعل النار في كل من يقترب منه ، الكامنتان أسفل القميص المفتوح من أعلى مظهرا منبتهما يقولان ذلك ، تتحدثان بصمت عن ثورة تدفعهما ليمزقا كل ما يعوقهما للانطلاق إلى عالم اللا أسر . إذا بدأت لن تستطيع الفكاك ، كل فتنة ستسلمك إلى التي تليها ، تصعد وتهبط وفي كل مرة يزداد الاشتعال والشعور بالحرمان ، وأمنية حتى ولو بقطرة واحدة فوق طرف اللسان . في لحظات تم كل شيء وانتقل سليم من عالم الحرية إلى عالم الأسر ، أسر كان يظنه في البداية أنه خطا إليه بكامل إرادته ، لكن لم تمض عدة أيام حتى أقر واعترف أنه أجُبر عليه ، أسر قاس يعد عليه حتى أنفاسه المتلاحقة عندما يقترب موعد ذهابها أو عودتها ، لم يكَفه أن يتمتع بلحظات رؤيتها مرة واحدة عند عودتها مساء كل يوم ، بكَر يوما عن آخر في فتح دكانه ، حتى ضبط موعده في تمام الساعة الثامنة ، ليستقبل وجهها في تمام الساعة الثامنة والنصف . فاحت من عينيه رائحة العشق فانكشف وتعرى حبه المجنون أمام فاضل الحلاق والمعلم عطوه الجزار وفتوح ومنصور الميكانيكي ،كثر الغمز واللمز والتعليق . ذات يوم فاق سليم من خيالاته عقب الحفل اليومي لمرورها  على صوت فاضل الحلاق:

 عن الهوى وغني له يا أستاذ سليم .

قال سليم متعجباً :

_ أي هوى يا عم فاضل ؟ !

أجاب فاضل غامزاً بعينه :

_ الهوى وما يخفيه .

قال سليم مراوغاً :

_ لست أفهم ما ترمي إليه !!

علق منصور الميكانيكي قائلاً :

_ دعك من نكد فاضل ومتع نظرك كما تشاء يا أستاذ سليم ، شباب الشارع كله يعرف موعد ذهابها وأيابها وينتظرونها كل يوم في الشرفات ، لكن إياك وأن تقفز أكثر من النظرات.

وزج فتوح بلسانه في الحديث :

_ نحن نتابع حالتك كل يوم منذ مجيئك إلي الشارع يا أستاذ سليم ، نتابع عينيك وهما يقفزان خلفها خطوة بخطوة ، وعلى العموم قد يكون كل ما قيل عن " ناديه " شائعات.

وقال المعلم عطوه الجزار مهاجماًكعادته :

_ رآها منصور وهو يجرب سيارة أحد الزبائن ،كانت برفقة  خنفس يقود سيارة مرسيدس ، هل هذه شائعات!!.

وقال فاضل مدافعاً :

_ إن بعض الظن أثم يا اخوانا ، دعوا الخلق للخالق يا عالم ، ولا تنسوا أنها بنت المعلم جاد النقاش .

سأل سليم مندهشاً :

_ هل والدها يعمل في مهنة النقاشة ؟ .

أجاب فتوح :

_نعم أبوها كان نقاشا ، لكنه الآن أصبح جاد بك .

سأل سليم ثانية وقد اختلطت الدهشة بالفضول :

_وهل من السهل أن ينتقل الإنسان من عامل نقاشة لرتبة البكوية ؟ .

وتولى فاضل الإجابة :

_ اختفى فترة وعاد بعدها يحمل رتبة البكوية .

قال سليم :

_ هذا السبب غير كاف لأن يصبح جاد بك كما تقولون .

قال منصور الميكانيكي غامزاً بعينه :

_ اختفى واختفت معه زوجته الجميلة.

علق فاضل مستاءً :

_استغفر الله العظيم ، يا خوانَّا لا تذبحوا سير الناس .

قال منصور الميكانيكي :

_ نحن لا نذبح سير الناس يا فاضل ولكن فقط نردد ما سمعناه  من أحد العمال كان يعمل معه ، أن زوجته الجميلة لعبت دورا كبيرا في جمع هذه الثروة .

وعلق المعلم عطوه الجزار :

_ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. إذاً لا نستبعد المثل الذي يقول .. اكفي القدرة علي فمها تطلع البنت لأمها .

وقال سليم والأمل يعتصره :

_ حتى لو كان ما تقولونه حقيقة ، ليس من المحتم أن تكون البنت مثل أمها يا معلم عطوه .

وقال فاضل :

_ كلامك مضبوط يا أستاذ سليم ، واعتقد أنه من الأثم لأن نخوض في الظنون ونرتكب الكبائر .

وقال سليم في محاولة لنفي التهمة :

_ وإذا افترضنا صحة ما تقولونه ، فكيف بعد أن قفزوا لهذا الثراء يقطنون هذا الحي الشعبي .

أجاب فتوح :

_ أقسم والدها ألا يخرج من هذا الحي إلا على قصره الذي شيده في منطقة الأهرامات ، كل من شاهد هذا القصر الذي قارب على الانتهاء ، يقول أنه يشبه قصور ألف ليله وليله .

وقال منصورمتحسراً :

_ نسمع أنهم يستعدون للانتقال إليه .. وسنخسر متعتنا اليومية في انتظار ناديه وعطرها .

وسأل سليم متجاهلاً تعليق منصور :

_ وهل حتى الآن أبواها متغيبان .

أجاب فتوح :

_ متغيبان وغير متغيبان ، يختفيان ثم يظهران لفترة ثم يعودان للاختفاء . عندما اختفيا لأول مرة  تركا خلفهما ثلاثة ذكور أكبرهم كان في سن المراهقة ونادية التي لم تزد في ذلك الوقت عن عامها التاسع .

سأل سليم ثانية :

_ ولماذا لم يعودا وقد انتقلا لرحبة الموسرين ؟!.

قهقه المعلم عطوه الجزار وقال :

_ يا أستاذ سليم ألم تسمع بأن من يستهويه جمع المال ، يصبح كمن يشرب من ماء البحر لا يشعر بالارتواء أبدا .

 فقد سليم شهيته للاستمرار في هذا الحوار الذي نَغّص عليه أفكاره. استأذن وانسحب إلي داخل الدكان ليجتر كل ما قيل عن فاتنة الصباح والمساء . أصبحت بالنسبة له كجرعة المخدر ، إن لم يتعاطاه في وقته يشعر باختلال يكاد يفقده توازنه .

 جلس مسندا رأسه الثقيل الممتلئ على كفه ، يحاول أن يعيد النظام إلى أفكاره المشوشة ، يدافع عن عشقه بتحويل الاتهامات عن طريقها ويلقيها فوق طريق عطوه الجزار وشركائه ، لا يجدون وسيلة للتسلية سوى الخوض في سير الناس ، والاتهامات الزور النابعة من حقدهم على المعلم جاد النقاش الذي قفز قفزة لاعب سيرك ماهر تخطى بها حاجز الفقر وتعداه بمراحل ، ليصل إلى طبقة غير طبقتهم . نبتت في داخلهم غيرة سوداء جعلتهم يفقدون الشهامة ، يطعنون الرجل في شرفه ، لم تكفهم الزوجة فانتقلت ألسنتهم تلوك في سيرة الابنة أيضا. الحقد والغيرة وراء كل ما تحدثوا به عن جاد وعائلته ، لا يُستبعد أيضا غيرتهم منه هو شخصَّيا ، المتعلم الوحيد الذي يحمل شهادة عليا وسط هذه الزمرة ، استكثروا عليه أن ينال بعض النظرات من ناديه ، من يعلم قد تتطور العلاقة إلى زواج ويفوز ببنت شارعهم الثرية ، التي تحرك شهواتهم الجاهلة لتقفز إلى عيونهم بمجرد أن يلمحوا طرفها . عطوة الجزار يقسم جسدها بعينيه كما لو كان يعمل سكينه بالذبيحة ، هذه هي الحقيقة . هدأت نفسه بعد هذا الدفاع المستبسل ، انقشعت الغمامة السوداء التي التفت حول عقله وخنقت أنفاسه ، اتخذ قراره لتكون له خطوة واضحة نحو فاتنة الصباح والمساء.

وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة 

*************************************************

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************

 

 

أخبار متعلقة :