أعطنى إعلامًا مهتزًا مرتعشًا يفكر فى التوجه مرتين ويراجع توجه فقراته أكثر من شخصين ويعتقد أن لما يقدمه من محتوى معروف مسبقًا وإطار محدد سلفًا مردودًا حقيقيًا لدى الجماهير وأثرًا فعليًا فى توجيه الرأى العام، أعطيك ملايين تصول وتجول فى هراء «محمد على»، وتستمع وتـ«شير» وتغرق فى مكالمات مسجلة لشخصيات عامة، وتبحث بإمعان منصات معادية لتستنتج الحقيقة.
والحقيقة حين تصبح مشكوكًا فيها، وذات أوجه متلونة بألوان السياسة، ويتم التعامل معها باعتبارها مقياسًا للوطنية تنتقى عنها صفة المعلوماتية. وهنا تتحول إلى مادة للشد والجذب، وسببًا للهرى والهرى الآخر، ومدعاة لإهدار الوقت وتبديد الطاقة.
لا أحد يختلف على حقيقة أن ساحاتنا الإعلامية المصرية تعانى الكثير. جانب من معانتها يتطابق إلى حد كبير ومعاناة الإعلام فى الكوكب، حيث الإعلام التقليدى يئن تحت وطأة الجديد بدرجات متفاوتة. فعلى ظهر الكوكب من استعد للتغيير الحادث، وهناك من أيقن أن التغيير قادم لا محالة ولا طائل من الإنكار والتأكيد على أن كله تمام، وهناك من عاند وكابر وأقنع من حوله أنه باق رغم التغيير وأبدى فى زمن لا أبدية فيه.
واليوم نستيقظ فى مصر على واقع إعلامى ومجتمعى آخذ فى التغيير بينما نتحدث. جانب من المعاناة يعود إلى السنوات الثمانى الماضية التى انشغل فيها الجميع بالربيع المنقلب شتاءً قارسًا. لكن الجانب الأكبر نحمل وزره ونتجرع مرارته. فالتغيرات الحادة والسريعة، ومحاولات اللحاق بما فات فى عصر تقنية المعلومات لا يجدى معها قواعد الخمسينات أو الستينات أو حتى التسعينات.
لحاقنا بموكب الإعلام بمحتوى مقنع للجماهير وإطار تحدده المصلحة العامة، وفى الوقت نفسه يحترم أدمغة العامة ولا يتجاهل تغيرات الساحة الإعلامية المتواترة دون دفن للرؤوس فى الرمال أو تأكيد على أن «كله تمام» يحتاج بدون أدنى شك تفكيرًا علميًا مبدعًا وتسليمًا واقعيًا بمعطيات العصر الجديد دون إنكار ودون شخصنة.
والمقصود بـ«الشخصنة» هنا هو عدم التعامل مع التغيرات المتسارعة باعتبارها تستهدفنا دونًا عن غيرنا، أو تحاول النيل منا وليس من حولنا. التغيرات تؤثر على الجميع. كما أنها تتيح للبعض أدوات يستخدمها الجميع كل بحسب توجهه. والحقيقة، علينا التوقف عن لوم الآخرين، لأنهم يستخدمون هذه الأدوات لمحاربتنا والنيل من أدمغتنا وأمننا ومصالحنا الكبرى والصغرى. فهذه أساليب دفاعية لا تسمن أو تغنى من جوع. نحتاج تطوير أساليبنا، وقبل التطوير علينا فهم طبيعة ما يحدث من تغيير، ونتخلى عن الدفاعات العتيقة، ونعتنق فكرًا جديدًا فعلاً لا قولاً. علينا أن نعرف غايتنا من الإعلام فى العام الـ19 من الألفية الثالثة، وندرس طبيعة الساحة الموجودة فعليًا، ونتعامل مع الواقع الموجود وليس التخيلى، ونطور إعلامنا بشكل يليق بنا.
ففى التطوير والواقعية والمصداقية وقاية وثقافة ودرء للمخاطر وليس إنهاءها، فالمخاطر لا تنتهى.
أخبار متعلقة :