لم يكن الأقباط في جزيرتنا البسيطة يختلفون كثيرًا عن المسلمين في حبهم للنيل.. ربما كان شوقهم لعيد شم النسيم أكثر؛ كونه يرتبط بأعيادهم الدينية؛ لكن "بشارة" لم يكن كغيره من أبناء القرية المسلمين والأقباط؛ فلم تكن له أعياد محددة؛ فعادة ما كان يشارك في جميع أعياد المسلمين وكأنها أعياد للأقباط، وكان يرد حين يُسأل: أليس من الحب أن أشارك جيراني أعيادهم..؟!
كان له في الدين فلسفةٌ خاصة؛ يؤمن بالإنسانية، وبحق الإنسان في أن يحيا حياة طيبة، ويكره أن يصنف مع أو ضد؛ لكنه كان محبًّا للإنسان في شتى صوره، وشتى معتقداته..
عادة ما كانت تحلو مجالس الفلاحين بجوار ماكينة "الماء الإرتوازي"؛ حيث رائحة المياه الجوفية العذبة التي تتفوق عندهم على كل روائح الورود والرياحين، وحيث يناقشون سويًّا حولها قضايا معيشتهم البسيطة مثلهم.. ففي تلك المجالس يتكلم الكبار فقط؛ وكنا صغارًا نراقب تلك المجالس؛ لنتعلم في صمت .. وحين كنا نسمع آذان الصلاة؛ نهرول جميعًا للوضوء من طراد المياه، ثم نصطف خلف "عم السيد" الذي كان يَؤُمُنا عادة للصلاة، وكنا حين ننتهي ننظر خلفنا؛ فإذا بـ" بِشارة" يصلي صلاته الكنسية..
قلت له (كنت حينها صبيًّا): أتُصلون في كنيستكم مثلنا.. في نفس المواقيت يا عم بشارة؟.. فهمس في أذني قائلاً: رأيتهم يصلون يا ولد؛ فاستحييت أن أراهم يعبدون الله دوني؛ فصليت..! فقلت له: لكنك لم تصلِّ بنفس طريقتنا.. فقال: كل الطرق مقبولة ما دامت تقربنا إلى الله .. وحين سمع عم "السيد" الحوار التفت إلينا قائلاً: صلِّ كما تعلمت يا بشارة.. فربنا أعلم بمن هو أهدى سبيلاً..!
لم يكن بشارة بسيطًا مثلنا؛ فقد كان تاجرًا ماهرًا، لا يعمل إلا في "تجارة الغلال"؛ رغم كوراث تلك التجارة التي كان يتحمل هو عادة أغلب مغارمها، وقد كانت " سنابل القمح المُجَفَفَة " وأكواز الذرة؛ علامات راسخة على واجهة منزله..!
وذات يوم سألته عن "سبحته" التي لم تكن تفارق يده اليمنى، وعن الكلمات التي كان يتمتم بها في صمت.. فقال: أذكر الله كما تذكرون.. الذكر ليس حِكرًا على أحد يا ولد، ولا على ديانة بعينها.. اذكروا الله كما تُحبون، أو كما يُحب هو أن يُذكر؛ المعرفة بالله "منحة" من الله؛ يسوقها إلى من يُحِب.. !
وحين سمعه ابنه نهاه عن تداول تلك الأحاديث، وكذلك اعترضه بعض المتشددين من أبناء القرية – الأقباط والمسلمين - فصرخ بشارة في وجه الجميع: ماذا لو وجدتم أحدكم يصلي على غير طريقتكم.. هل ترونه قد كفر..؟ نحن أبناء عمومتكم في الدم والعقيدة.. لم نفعل شيئًا سوى أننا نصلي بطريقة مغايرة؛ لكننا نعبد الله مثلكم.. لقد قالها المسيح من قبل: "الله محبة "، وقالها محمد من بعده: "لن تدخلوا الجنة حتى تحابوا..!.. إذن لا اختلاف بيننا.. كلنا عبيد لله، و" الحب " هو طريقنا جميعًا للوصول إلى الله؛ مهما اختلفت طرائق العبادة..!
كانت مجالس البسطاء لا تخلو من الحديث عن الدين؛ الذي كان عادة ما يأخذ نصيبًا من الحديث لا يقل عن الحديث عن صراع الفلاحين اليومي مع لقمة العيش والنهر، وكانت تزداد تلك الأحاديث شدةً إذا حضر بشارة؛ ذلك الرجل الذي رغم اختلاف الأقباط والمسلمين حوله؛ إلا أنهم لم يختلفوا يومًا حول نزاهته ورجاحة رأيه، وقد التفوا جميعًا حول محبته؛ إذ كانت يده لا تفرق في العطاء بين مسلم وقبطي.
كان "عم السيد "هو صديقه المقرب؛ الذي كان يقول دائمًا: أنا لست رجل دين؛ لكنني "مُسلم"؛ أعبد الله كما هداني، وكذلك يفعل صديقي بشارة..!.
كبرتُ كما كبر كل شيء في جزيرتنا وشاخ، وكبر عم بشارة الذي ظل وحيدًا بعد وفاة "عم السيد"؛ لكنه ظل على نفس طريقته في الحديث؛ شامخًا بوجهه النضر، وسبحته التي لم تتوقف عن الكر.. وكانت لدي دائمًا رغبة دفينة كغيري من شباب القرية في أن أفتش في عقلية ذلك الإنسان الذي أراه معتدلاً، ويرى آخرون أنه قد ضل..
فحين أخبرته أنني قد أتممت دراستي الجامعية.. نظر إلي سائلاً: إذن قد عرفت إجابة السؤال..؟! قلت له: أي سؤال تقصد يا رجل..؟! قال: السؤال الذي كنت أنتظر إجابته مذ كنت صغيرًا، ولا أريد أن أرحل دون معرفتها.. هل اختلاف الطريق يفسد العقيدة..؟! فأجبته متحرجًا: الاختلاف دائمًا يثري يا بشارة.
فتدخل بيننا أحد الحضور قائلاً: يبدو أنك قد عرفت الإسلام يا رجل؟! فزاغت عينا بشارة، وهو ينظر إلى السماء، وقال: بل عرفت الله..! فقلت له مازحًا: وأين عرفته يا رجل.. في الكنيسة أم في المسجد؟ فقال بشارة: أليست كلها بيوت الله يا ولد..؟! فقاطعه أحد الجلاس الأقباط قائلاً: يبدو أن بشارة قد كَبُر..! فرد أحد المتشددين في الإسلام من الشباب: نعم.. أعتقد أنه قد أصابه الخرف..! هنا سقطت سبحة بشارة على الأرض، وكادت حباتها أن تنفرط.. ولأني أعرف كم كانت سبحته عزيزة؛ فقد طأطأت مسرعًا لألملمها، وأضعها في كفه الذي كان يرتعش.
نظر بشارة إلى سبحته في ألم شديد، وتوجه إلى القبطي سائلاً: ماذا لو هبط "عيسى المسيح " من السماء وأراد أن يتزوج، فإلى أي طائفة تنسبونه، وعلى مذهب أي كنيسة سوف تزوجونه..؟! ثم أدار وجهه إلى الذين اتهموه بالخرف وقال: وأنتم يا من لم يتجاوز الدين جلبابكم القصير، وحناجركم المحشوة بالقسوة.. ماذا لو جاءكم محمد من السماء.. هل سوف يلتحم الصف، ونرى مسلمين بلا فرقة.. لا سنة، ولا شيعة..؟! ثم توجه بحديثه إلى الجميع وكأنه أراد أن يصفعهم واحدًا واحدًا - مسلمين وأقباط - وقال: إنها لعنة السياسة.. إنها مصالح الكبار.. نجحوا قديمًا في شق الوحدة باسم الدين، وحولوه من داعٍ إلى الإصلاح والبناء والوحدة؛ إلى معول للصراع والخلاف والهدم... والله لئن عرفتم الله ما اختلفتم.. والله لئن أحببتم الله ما اقتتلتم.. لا اختلاف في العقائد عندي .. الاختلاف في المنهج والطريقة.. اعبدوه بشتى الطرق، وعودوا إليه بطرق متباينة .. لن تغلق أبواب السماء في وجه أحد..!
صاح الجميع في وجهه بصوت واحد: كف عن الخرف يا بشارة.. حينها شعرت بالقلق، وأمسكت بيده كي يهدأ؛ لكنه لم يكف، وعاد إلى صوته الهادئ الشجي وقال: ربما يكون الخرف قد أصابني؛ فقد كنت أتصور أن التعليم سوف يهدم الأسوار التي بناها المتشددون بيننا لنعيش معًا في سلام؛ لكن يبدو أن التعليم جاء على غير توقعي؛ إذ عمق الحدود، وجعل الأسوار بين العقائد عالية، وأخشى على السبحة أن تنفرط..! ربما يكون الخرف قد أصابني كما تزعمون؛ لكنكم بلا شك لستم وكلاء لله على الأرض، ولستم أوصياء على عبيده... لا تجعلوا أفكاركم تمزق الجسد الواحد؛ فما جمعه الله بكلمة لا تفرقه جيوش البشر..!
لم أكن قسًّا ولا راهبًا ولا شيخَ زاوية، ولا خطيبًا مفوهًا؛ لكنني إنسان عادي أحببت الله جدًّا، ولأجله أحببت البشر.. قبطي أنا؛ لكنني منحازٌ عن قناعة لكل ديانات السماء.. مارست كل طقوس العبادة، واحترمت كل الطرق ما دامت تؤدي إلى الله.. فهل ترونني قد كفرت..؟!
انفض الجميع من حوله، ولم يقبل أحد أفكاره؛ فقد شكك المتشددون من الأقباط في عقيدته، وشكك المتشددون من المسلمين في نيته..!
وذات يوم وجدته حزينًا.. حملته على حماره العجوز مثله، وذهبت به إلى ماكينة الماء الارتوازي في حديقة الليمون خاصته؛ حيث كان يجلس فيها إلى جوار صديقه "عم السيد".. وقبل أن يجلس على الأرض اغترف بيده شربة من طراد المياه، ثم تنهد وقال: آه من رائحة النهر.. وحدها الآن التي تربطني بالحياة..! لقد تاقت الأجساد للعودة إلى مَنشئها، كما تاقت نفسي إلى الجلوس بجوار صديقي السيد.. ترى إذا ما مت هل يقبل الناس أن أدفن جواره؟ ثم هز رأسه وقال: بالقطع لا..! فقلت له ملطفًا: أعتقد أن الأقباط أنفسهم لن يقبلوا أن تدفن معهم؛ فما بال المسلمين يا رجل .. ! فقال بشارة: هذا لا يعنيني.. عشت وحدي، وسأموت .. لكنني سوف أحيا داخل كل إنسان فيهم.. ويل لكم إذ جعلتم الدين كالطعام؛ وجبة شهية على كل موائد الحديث، ثم تنفضون عنها جوعى أو مختلفين..! قالها ثم انصرف، رافضًا أن يأخذ أحدُنا بيده إلى بيته، وقال: أعرف طريقي جيدًا.. ليتكم تعرفون طريقكم مثلي..!
وفي أثناء عودته هاجمه أحد المتشددين الذين خالفوه في الفكر، ودون حوار .. ضربه ضربة عفية على رأسه؛ فسقط مغشيًّا عليه وبيده السبحة.. وعاش بشارة أشهرًا فاقدًا للوعي، وارتاح الناس من أحاديثه الوسطية، وارتاح هو من حماقات البشر..!
وذات يوم من أيام الشتاء؛ صحت جزيرتنا على خبر اختفاء بشارة.. التفت القرية بكاملها حول مسكنه المطل على النهر، وراح الصيادون يفتشون عنه في قاع النهر، الذي كان دائمًا يعشق الخوض فيه بلا وعي .. وبعد أسبوع من البحث وجدوا شاله الأبيض والسبحة معلقان في جذع شجرة قديمة في قاع النهر.. يبدو أنه غرق، وأن الجثة قد أبحرت مع التيار.. مات بشارة .. لكن قريتنا ستظل تذكره مع كل شربة ماء تخرج من بطن النهر...!
د. صلاح هاشم
Sopicce2@yahoo.com
أخبار متعلقة :