أصبحت الحياة الحديثة بمفرداتها التى نتشاركها جميعا عبئا ثقيلا على نفوسنا. صارت ضاغطة لدرجة جعلتنا نفتقد لغة الهدوء وحسن الاستماع والرد المناسب أثناء المناقشات فيما بيننا وبين بعضنا، أو فيما بيننا وبين أبنائنا، وهو ما يظهر بشكل جلى فى الشكوى العامة للآباء والأمهات من أبنائهم الذين لا يملون من الجدال فى كل الأمور، تدعمهم بحار المعارف التى يغترفون منها، ما يدعم وجهات نظرهم ويعضدها فقط بضغطة زر أو بلمسة لهواتفهم الذكية التى تصلهم بالعالم كل العالم لا فرق بين صبى وشابة، لا فرق بين سكان القرية وسكان المدينة.
فباستطاعة «جوجل إيرث» أن يجد بيتك ويعرف مكانك وباستطاعة غيره من التطبيقات أن يحدد لك مواعيد شربك للمياه ويقيس ضغطك ويعلمك لغة أجنبية، ويحدد مرضك، ويوفر طبيبا، ويعلمك الطبخ والحياكة وثقافات العالم كل العالم، المهم أن تحدد أنت ما تريد. ما جعلنا نسير فى مسارات متعددة داخل البيت الواحد، فاختلفنا أكثر مع أبنائنا واغتربنا افتقدنا أدبيات الحوار التى استغنوا عنها بأشكال تعبيرية تظهر الفرح أو الحزن أو البكاء أو الملل أو الحماسة، وغيرها من صور ثابتة أو متحركة حرمتنا من دفء أصواتهم التى لا ترتفع إلا أثناء النقاش.
صار لهم قاموسهم خاص الذى قد تجنح مفرداته أحيانا إلى حد الاستفزاز؛ لأننا لم نعتدها بينما يرونها طبيعية بل ومعبرة تماما. قد يكون من الصعب علينا نحن الآباء والأمهات إيجاد الوقت الذى نتشاركه معهم لأننا مشغولون بلقمة العيش وإعالتهم، قد نكون كبرنا على ملاحقة التطور التكنولوجي، أو ربما كبرنا لدرجة جعلت أصابعنا ترتعش فلا نقدر أن نتحكم فى لمس الأزرار أو الشاشات لكن التكنولوجيا لم تستطع ولن أن تحولنا إلى روبوتات بلا روح أو مشاعر حتى لا نخاف عليهم أو لا نشعر بالأسى من أجلهم أو لا نشاركهم فى التفكير فى مستقبلهم أو إعطائهم النصائح.
فيا أيها الأبناء رفقا بنا ستواروننا التراب، ونحن نود أن لو مددنا أكفنا لنمسح الغبار عن وجوهكم والدموع التى لا نشك مطلقا أنها نابعة من قلوبكم أمام القبر. يحدث أن تختلفوا معنا، ويحدث أن ترهقونا بجدلكم، ويحدث أن نصرخ حتى يصير الصراخ عادة، كل ذلك ممكن معقول ومحتمل، لكن غير المحتمل هو أن تنتقل الحالة معنا حين نخرج من البيت تتلبسنا حتى نتعامل بها مع زملائنا فى العمل، ورفقائنا فى الدرب، أذكر أننى منذ فترة كنت أسأل أحد المديرين فى عملى الجديد عن بعض أموره الإدارية، كان الرجل مهذبا إلى أبعد درجة، هادئا وودودا، وأثناء نقاشى وجدتنى أشجبه بشدة، وأقول له: إفهم. بصوت مرتفع وعنيف، فوجئت برد الفعل الذى أمارسه كل يوم مع ابنى، فوجئت بقبح الكلمة وفجاجة الصوت وهدوء الرجل ودماثة خلقه. الرجل الذى تقبل اعتذارى سريعا. كنت على وشك البكاء، وأنا أتساءل: كيف انتقلت معى هذه اللازمة إلى خارج البيت، وكيف وصل بى الأمر إلى هذا التحفز.
اعتذرت للرجل أكثر من مرة، وقلت له هى لازمة لفظية اكتسبتها من نقاشى وجدلى الدائم يوميا، فقال لى بهدوء: أتفهم الأمر. لكنى أنا التى لا تتفهم معنى أن تصل بنا الحياة الحديثة بضغطها وسرعتها إلى هذه الدرجة، وأنا هى من تتمنى من أبنائنا أن يتفهموا الأمر كما تفهمه الأستاذ جاد الرجل الخلوق الذى أعتذر إليه هنا أيضا، وأقول لهم وبلا كلل: اقتربوا أكثر فالدرب واحد، أنتم تشاهدون الحياة كل الحياة بالتكنولوجيا، بينما نحن نعيش الحياة كل الحياة وتحكى عنا التكنولوجيا.
أخبار متعلقة :