إذا كان أمر تدريس التربية الدينية ضرورة حتمية وقضية غير قابلة للنقاش ، فلتكن من أولويات أهداف معد المنهج ــ بالإضافة لتعليم أسس العقيدة و الفرائض و الشعائر و بث القيم الإيجابية النبيلة أن يراعي تضمين فصوله ما يؤكد على أن الأديان وكتبها المقدسة تدعونا للمزيد من الانتماء للوطن بدعم وتكريس مبادئ التربية و التنشئة الوطنية ، ولتكن مناهج التربية الدينية مدخلًا رائعًا لدفع الأجيال القادمة للارتباط بقضايا وهموم الوطن وطموحات شعبنا وآماله في تحقيق التقدم ..
على سبيل المثال ، أرى أهمية أن تتضمن كتب التربية الدينية المسيحية خلاصة الفكر المسيحي عبر القراءة الجيدة لأقوال وأفعال والأمثلة التي ساقها السيد المسيح الداعمة لأصول التربية الصالحة ولمفهوم " المواطنة " والعدالة والانصياع للقوانين الأرضية المنظمة لعلاقات البشر البينية ، واحترام الأنظمة المدنية المعمول بها في الأوطان .. أيضًا عرض المواقف الوطنية لرموز الكنيسة المصرية عبر تاريخها وتاريخ الوطن ، والذين أدركوا الفارق الجوهري بين الدور الوطني للمؤسسات الدينية دون التورط الخطير في اتخاذ مواقف سياسية باسم أتباع الديانة وارتداء ثوب الزعامة السياسية ..
ولعل من مؤلفات الأب " متى المسكين " ــ على سبيل المثال ــ ما يصلح لأن يمثل توجه طيب و عصري في مجال تنشئة المواطن الصالح و بث ونشر مفاهيم وأسس العلاقة بين المواطن والدولة ، وبين الكنيسة وأتباعها ، وبين الكنيسة والدولة والتعريف لمفاهيم التعصب والطائفية والتمييز والعنصرية و الانتماء والولاء و التسامح وقبول الاختلاف .. إلى غير ذلك من التعريفات التي حرص ذلك المفكر تناولها في مؤلفاته من وجهة نظر دينية وطنية وتربوية ..
يقول " المسكين " في تعريفاته الطيبة : " معلوم أن الحياة الأبدية هي الوطن السمائي للذين اختيروا وتعينوا من قبل الله لهذا الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل المحفوظ في السموات ، ولكن لم تدع الحياة الأبدية " بالوطن الأفضل " للإنسان إلا على أساس أن الحياة هنا هي " فاضلة " أيضًا ، لأن الأفضل لا يمكن أن يكون أفضل إلا بسبب وجود ما هو فاضل ، لا يمكن ولا نوافق أحدًا أن يدعو الحياة هنا أنها نجسة أو دنسة فالذي خلقه الله وقدسه ، لا تنجسه أنت ، فكما أن كل شيء طاهر للأطهار ، كذلك الحياة أيضًا تكون فاضلة للفضلاء ... .
فلتكن تلك المناهج فرصة لأن يعي الطالب أن الوطن السمائي لا يلغي وجود الأوطان ، والسعي نحو الوطن السمائي لا يشمل معنى إنكار الأوطان ، فالمسيح نفسه قيل عنه " وخرج من هناك وجاء إلى وطنه وتبعه تلاميذه " ( مر 6 : 1 ) ، مع أنه معلوم لدى الجميع أن المسيح قائم أبدًا في حضن أبيه كما يقول الكتاب .
و يؤكد " المسكين " أن الحنين الذي ينمو في الإنسان جسديًا نحو وطنه الأرضي لا يعطل الحنين الذي ينمو في الإنسان روحيًا نحو وطنه الأعلى ، لأن لكل حنين ميدانه الخاص الذي ينمو فيه ، فهذا في الجسد ، وهذا في الروح ، وخطأ أن نخلط بين الاثنين ، أو نوئد الواحد لنحيي الآخر ، فلكل حنين عمله في تكميل الإنسان ، وجيد للإنسان أن يكون سليمًا معافى في كل مشاعره الجسدية ليؤهل أن يكون أيضًا إنسانًا روحيًا سويًا ، فالوطن الأرضي ضرورة للإنسان ليكون كاملاً جسديًا ، كما أن الوطن السمائي ضرورة ليكون كاملاً روحيًا أيضًا ، فنمو الجسد الطبيعي هو وحده ينشيء الحنين نحو الوطن الذي تربى فيه الإنسان ، ونبل الإنسان وأمانته يحولان الحنان إلى ولاء جميل .
وفي مجال خدمة الأوطان يشير " المسكين إلى أن خدمة الوطن الأرضي باجتهاد ، حصيلة طبيعية للنمو الطبيعي لأن إعالة الوطن للإنسان من جهة ما يقدمه له من الأكل والشرب وعطف الأهل والأصدقاء وارتباط مرح الصبوة بالأماكن ، ينشيء في الإنسان النبيل دوافع طبيعية ملحة لرد الجميل ويحمله تلقائيًا روح المسئولية للدفاع عنه !
مطلوب أن يعي شبابنا أن كبت الروح الوطنية نوع من وأد الروح الإنسانية ومحاولة توجيه الإنسان نحو وطنه السمائي على حساب احتقاره للوطن الأرضي قصور في فهم النفس البشرية ، وإضرار بنموها ، والأجود أن ننمي في الإنسان توقير الاثنين ، فهذا حق وعدل وهو موافق لروح الإنجيل أيضًا ، والإنسان إذا تُرك لطبيعته ، نجده أنه كلما نما روحيًا ، قوي حنينه للحياة الأبدية مع احتفاظه بعلائقه التي تربطه بوطنه وأهله وأصدقائه وجميع الناس سليمة ناجحة نافعة .
وكنت قد أشرت في مقال سابق إلى نموذج طيب لكتاب مقرر في مجال التربية الدينية الإسلامية تحت عنوان " القرآن الكريم والتهذيب والدين "..للمدارس الابتدائية ( وفقًا لمنهج عام 1930 ) للسنة الرابعة الابتدائية ...تأليف عبد العليم حسين .. المدرس بمدرسة مصر الجديدة الابتدائية للبنين ..
وهنا يجدر الإشارة إلى أهمية منح المدرسين فرصة إعداد المناهج الدراسية وفق آليات ترشحهم لجدارة العمل ومسئوليته وكانت تلك الآلية فيما أرى داعمة لفكرة الاستعانة بأهل المهنة والكار وهم على دراية بالأهداف التربوية و التعليمية المرجوة ..
حول موضوع بعنوان " زيارة الأولياء " على سبيل المثال .. يذكر الكتاب :
إن كان الغرض من زيارتها العظة والاعتبار ، كما في زيارة قبور الموتى فلا بأس ، وأما إن كان الغرض منها التوسل بالعظام التي فيها إلى قضاء الحاجة ، أو تفريج كرب ، أو شفاء مرض ، أو كسب قضية ، فذلك زيغ عن الدين وكفر بالله ... فكل الرجال والنساء الذين تراهم يتزاحمون على ضريح " السيدة زينب " وضريح " الحسين " وضريح " السيد البدوي " وغيرهم من عباد الله الصالحين ، يقبلون الأعتاب ، ويلثمون على الأضرحة من الحديد والنحاس ، ويكتحلون بترابها ، وينذرون لهم النذر ، إنما يدعون غير الله ، ولا فرق بينهم وبين عُباد الأصنام ، فزر أيها التلميذ الأضرحة كما تزور قبور أمواتك للعظة والاعتبار وإياك أن تدعو وليًا من الأولياء لينجحك في الامتحان ، أو ليفرج عنك كُربة ، لأنك تدعو غير مجيب ، وتشرك مع عظامًا نخرة ، ومخلوقًا قد تكون عند الله أفضل منه ، وأدع الله فإنه قريب يجيب دعوة الداعي ويُفرج كُربة الملهوف ، وهو الذي يعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، بيده الملك وهو على كل شيء قدير ...
ما رأيكم دام فضلكم ونحن نضع اللبنات الأهم لتطوير المنظومة التعليمية ؟..
*************************
مدحت بشاي
أخبار متعلقة :