يقولون الطيور على أشكالها تقع ، نجيب العزيزي وقع على مدير أعمال من نفس طينته ، ، ذات يوم وفي زيارة معتادة لمدير الأعمال لنجيب العزيزي وهو بين جدران السجن المرفهة لأبعد الحدود ، مال نحو أذنه قائلاً :
_ على ماذا عولت ياريس ؟
أجابه وعلى وجهه ابتسامة يفهمها مدير الأعمال جيداً :
_ هل سمعت عن المثل القائل " وداوها بالتي كانت هي الداء "
قال مازحاً :
_ نعم ياريس ، هذا المثل قيل عن الخمر ، فهل أحضر لك زجاجة من الويسكي معي المرة القادمة !! .
أجاب نجيب العزيزي :
_ عاد إلى ذهني صورة القس ميخائيل بملابسه الإفرنجية عندما ذهب للإبلاغ عني وقلت:
نعم ، زجاجة الويسكي هي القس ميخائيل ، هو الداء الذي ابتلاني بمرض السجن طوال حياتي داخل زنزانة ، وسيكون هو الدواء أيضاً الذي يدواي هذا الداء.
سأل مدير الأعمال وقد بدت الكلمات صعبة الإستيعاب رغم الذكاء الشيطاني :
_ هذه صعبة على فهمي يا ريس .
قال العزيزي وقد بدأ عقل رجل الأعمال يخطط :
_ أول شيء هو الحصول على جواز سفر القس ميخائيل دون أن يعلم وهذه أول مهمة لك ، أنا أعلم أن القس ميخائيل يسافر إلى الخارج دائماً ، فمن المؤكد أن لديه جواز سفر ، وهو بالتأكيد يحتفظ به في منزله ، وأيضاَ بالتأكيد يكون بالكنيسة هو وأسرته كل يوم أحد ، يمكنك استغلال هذه الساعات وتكلف من يسرق جواز سفره ، وتنفذ ما سأقوله بالضبط . تكلف أحد محترفي تزوير الأوراق وأعلم أنك تعرفهم جميعاً ، بنزع صورة القس ووضعها على جواز سفر مزيف ثم تعيده إلى منزل القس حتى لا يفطن لغياب جواز السفر الحقيقي ، وأعتقد أنك فهمت الآن الإجابة عن سؤالك لماذا أطلقت لحيتي ، عندما سأهرب من السجن سأجدك قد أعددت لي ملابس قس سأتصور بها وستكون هي صورتي التي ستوضع على جواز سفر القس ميخائيل . الخطوة التالية الهروب من السجن ، وفي الحقيقة لن يكون هروباً بالمعنى المفهوم ، بل خروجا من الأبواب المفتوحة ، بالتأكيد لن تسألني كيف ؟!، وأنا وأنت نعتنق نفس الفكر ، بأن لكل مسئول فقد ضميره ثمن يبدأ من سيجارة ويمتد إلى حزمة من أوراق البنكنوت عدد أصفارها يتوقف على من هو هذا المسئول ، وما هي الخدمة التي سيقدمها ، ومهمة مثل هذه يجب أن تخصص لها ما يسيل لها لعاب أي ضمير يدعي أنه متحصن خلف باب الشرف ، فما بالك بالضمائر الميتة . تمت الإتفاقية بالفعل عن طريق مدير أعمالي ، وكان من ضمن بنودها أن أغادر البلد بوسائلي الخاصة ولا أعود ثانية ولا أدع أحد يعلم بهروبي. بعدها تمكنت من السفر متخفياً في ملابس القس ميخائيل وجواز سفره دون أن يعلم .
سأل " حامد البستاني " ونظراته تنتقل بين نجيب العزيزي والطفل :
_ وأنا أسألك بدورى ، بعد نجاحك في الهرب ، واختطافك لطفلك على ماذا عولت ؟
قال نجيب العزيزي وداخل عينيه النظرة التي مكنته من الصمود أمام صراعات عالم رجال الأعمال حتى أصبح من كباره :
_ لا يزال أمامي الكثير أولها، تصفية حساباتي مع هذا الفضولي الذي نبش خلفي متطوعاً وأبلغ زوجتي وأهلها بأمريكا عن زواجي بمصر ، والثاني القس ميخائيل الذي أبلغ عني وكان بيده ألا يفعل ، والثالث زوجتي " لوسي الصنباوي " التي هددتني بتقديمي للقانون وحرماني من طفلي إذا لم أثبت كما أخبرتها كاذباً بعد افتضاح زواجي في مصر بأن زوجتي ماتت قبل الزواج منها ، وكانت هذه بداية تحالفي مع الشيطان وقتل زوجتي " ماري " . هذا علاوة على التفكير في كيف أواجه ابنتي ليليان التي انجبتها من زوجتي ماري ، لم أرها منذ أن ودعتها بالمطارعقب وفاة أمها لتلحق ببعثتها ، وبالتأكيد عرفت بكل تفاصيل جريمتي ، من الصحف ، أود لو تمكنت من الحصول على صفحها ، وتقبل أن تعيش معي هي واخيها .
قال حامد البستاني ناصحاً :
_ لماذا لا تترك مسألة تصفية الحسابات هذه التي قد تجرك إلى مشاكل أكثر ، لماذا تفتح الأبواب لمزيد من المشاكل ، وما ذنب زوجتك " لوسي الصنباوي" كي تحرمها من طفلها ، مع أنني فهمت من حديثك أنك لا تزال تحبها ، ألم تفكر بدلاً من خطف ابنكما أن تحاول أن تكسب ودها وتقنعها أن تصفح عن كذبك وجريمتك ، وأنه من الأفضل أن تنسيا ما مضى من أجل طفلكما ، حلقت نظرات نجيب العزيزي في سقف القاعة ، عادت وتركزت بأسف على وجه طفله وكأنه يطلب المغفرة من برائته لحرمانه من أمه ، هز رأسه وكأنه عاد لتوه من رحلة بعيده ، تحول نظره نحو حامد البستاني وقال :
_ أُمنية أعلم أنها صعبة التحقيق إن لم تكن مستحيلة ، فالموضوع في نظر لوسى الصنباوي ، يحمل أكثر من خطيئة ، فهي أحبتني وتزوجت بي رغم فارق العمر الكبير ، ثم كذبي عليها في إنكار زواجي جريمة كبرى في نظرها تحمل الخديعة والخطيئة الدينية ، فزواجي منها بهذه الطريقة يعتبر زواجاً باطلاً ، وهذا الطفل من الناحية الدينية انجبناه في الحرام ، ثم جريمة قتلي لزوجتي من المؤكد وضعتني أمامها في إطار محكم من الإجرام ، وأصبحت في نظرها المجرم الذي لا يؤتمن ، الأمور كلها معقدة يا صديقي ، ولا أرى فيها أي أمل للهرب ، هروبي من السجن ومن مصر أسهل بكثير من الهرب منها !! .
قال حامد البستاني مبتسم :
_ ولهذا نصحتك أن تُلقي بأفكار الانتقام جانباً ، وتركز تفكيرك في كيفية إصلاح هذه الأمور على قدر الإمكان ، قد لا تصل إلى كل ما تنشده ، لكن على الأقل ستتمكن من أن تُصلح بعضها .
قال نجيب العزيزي وفي عينيه نظرة مودة :
_ أشكرك يا حامد ، فقط الآن أريد منك أن يظل الطفل معك وأن تعتني به المربية ، لأنني يجب أن اعود إلى الآب موسى حتى لا أثير قلقه وربما شكوكه . سأمكث معه يوم أو اثنين ، ثم أخبره بأنني سأعود إلى مصر ، وسأحضر للإقامة معك ، بصفتي نجيب العزيزي ، لأنني لست في حاجة للتخفي في ملابس القس ولا لجواز سفر القس ميخائيل ، فلقد أديا مهمتهما للخروج من مصر ، وأنت تعلم أنني أمتلك جواز سفر أمريكي وما سحب مني عند القبض علىّ في مصر هو جواز السفر المصري ، وكذلك طفلي حرصت أن أحصل على جواز سفره وشهادة ميلاده عندما ذهبت لإحضاره ، والشي الأهم أنه حتى لو انكشف أمر هروبي في مصر لا توجد اتفاقية مع أمريكا لتسليم الهاربين . وللعلم سأحتاج إليك كي تساعدني في خطوتي التالية ، لا أحد يمكنه القيام بها سواك .
قال حامد البستاني باهتمام بدا على ملامحه :
_ يسعدني أن أقدم لك أي مساعدة مهما كان الثمن ، لكن أرجو أن تضع نصب عينك مشكلة زوجتك " لوسى الصنباوي " فلو علمت بأنك هنا وأنك أنت الذي اختطفت ابنك الذي هو ابنها أيضاً ، يمكن أن تجد نفسك في جحيم لا يمكنك الخروج منه ، فهذه جريمة لا يستهان بها في أمريكا قد تزج بك في السجن لسنوات لا يعلمها سوى الله .
قال نجيب العزيزي ووجهه يجمع بين الإهتمام والتفكير :
_ أعلم هذا وهذه هي الخطوة الثالثة ، وحتى الآن لم أحسب حساباتها .
قال حامد البستاني وعلى وجهه شبه ابتسامة :
_ سؤال فضولي ، ما تعليق عائلتك في مصر على هذه الأحداث ؟
_ عائلتي لم يبق منها أحد تقريباً في مصر ، الجميع هاجروا إلى استراليا وكندا ، ساعدت معظمهم في إنهاء إجراءات هجرتهم وضمنتهم جميعاً ، فمعظمهم يعمل في شركاتي سواء في استراليا أوكندا ، وحضر أكثر من واحد منهم يعملون بالمحاماة للمشاركة في الدفاع عني في هذه القضية ، لكن التهمة كانت يحكمها الحصار ببلاغ القس ميخائيل ، واعتراف الموظف الذي حرر شهادة الوفاة المزورة وضبطها معي عند محاولة سفري من مصر . لكنهم نجحوا في تحويل حبل المشنقة إلى الحكم بالسجن المؤبد ، وأعتقد أنه سيكون أمامي الوقت للسفر إلى استراليا وإدارة أعمالي من هناك قبل أن تتمكن زوجتي من إثارة الزوابع عندما تعلم بأن الطفل معي .
**********
نترك كاليفورنيا ونجيب العزيزي وحامد البستاني والطفل ، ونذهب إلى بنسلفانيا ، وبالتحديد منزل " لوسي الصنباوي " زوجة نجيب العزيزي ، المنزل من الداخل ممتلئ بعلامات الإستفهام المرتسمة فوق أوجه أفراد عائلتها. أكثر من سيارة شرطة تقف أمام المنزل. جاءت الإجابة سريعاً من استعلامات المطار بأن قس يدعى ميخائيل صبحي وبصحبته طفل يدعى بيتر عزيز غادرا بنسلفانيا على الطائرة المتجهة إلى مطار سان فرانسيسكو . تسرب بعض الأمل إلى قلب لوسي الصنباوي ، انتهت المناقشات على أن تسافر مع أبيها على طائرته الخاصة إلى سان فرانسيكو في اليوم التالي ، وأن البحث يمكن أن يبدأ بالسؤال عن الكنيسة أو الكنائس الأرثوذوكسية الموجوده ، فقد يكون لديهم بعض المعلومات عن القس ميخائيل صبحي والطفل . توصلا بعد السؤال في عدة كنائس مبعثرة في أرجاء المدينة ، إلى الكنيسة التي يخدم بها القس موسي ، توجها إلى هناك سريعاً وتقابلا معه الذي أكد لهما أن القس ميخائيل صبحي بالفعل كان ضيفه وأنه أيضاً سافر إلى بنسلفانيا في نفس اليوم الذي تم فيه اختطاف الطفل ، لكن تأكيده أنه عندما عاد لم يكن معه أي أطفال كاد يودي بأعصاب لوسي ، وزاد عليها أن القس ميخائيل صبحي كان عاد إلى مصر ، ربت الأب فوق ظهر ابنته مطمئناً بأنه في الغد سيسافران خلفه إلى مصر.
******
لم يعد نجيب العزيزي إلى مصر كما أخبر القس موسى ، لكنه عاد إلى قصر صديقه حامد البستاني ، وأزال لحيته وعاد إلى رجل الأعمال نجيب العزيزي.
سأل حامد البستاني:
_ الآن كيف أستطيع أن أقدم لك أي مساعدة ؟ \
أجاب نجيب العزازي :
_ مهمة صعبة جداً ، لا يصلح لها سوى أنت ، أنت رأيت ابنتي من قبل أكثر من مرة ، عندما كنا نتقابل في نيويورك وكانت هي بصحبتي ، وكما أخبرتك هي الآن في بعثة دراسية بجامعة هارفارد ، لم أرها منذ أن ودعتها بالمطار بعد وفاة أمها ، لم تحضر إلى مصر بعد نشر الخبر في وسائل الإعلام ، وقد يكون السبب رهافة مشاعرها ، أعلم أنها قاست ألاماً مبرحة ، فقدت الأم والأب في آن واحد ، أمل يبدو لي كنجمة في السماء ، أن تغفر لي وتقبل أن تعيش معي ومع أخيها الصغير الذي لم تره من قبل ، أعلم صعوبة الفكرة لكن البصيص الوحيد لشعاع الضوء أنها تحبني جداً بالرغم من علمها بالطريق الذي أسلكه ، إنها متدينة جداً مثل والدتها ، وهذه النقطة كما يقولون سلاح ذو حدين ، إما ستنظر لي على أنني شيطان رجيم يجب الفرار منه ، وإما ستفتح باب المغفرة والصفح ، وبين هذه وتلك ، أحتاج إليك لتتقابل معها وتحدثها بدبلوماسيتك التي لا يشق لها غبار ، ولو نجحت أن تقنعها بالحضور إلى هنا بعد أن تكون مهدت لي الطريق للحديث معها ، ستكون خدمة كبيرة أديتها لي ، ولا أعتقد أنها لو علمت بوجودي أنها ستقوم بالإبلاغ عني.
_ أتمنى أن أن يتحقق هذا ، ولو أن الموضوع يفوق دبلوماسيتي بكثير .
**********
بادرته دون مقدمات بسؤالها :
_ أين الطفل يا أبي ؟
نظر القس ميخائيل صبحي نحو السيدة الصغيرة التي يراها لأول مرة وبرفقتها رجل يبدو أنه والدها وأجاب بدهشة :
_ أي طفل يا ابنتي ؟!
أجابت بلهجة حاولت أن تكسبها نعومة :
_ طفلي الذي اختطفته من منزلي ببنسلفانيا .
ملامح غاضبة بدت على وجه الأب ميخائيل محاولاً أن يستوعبها ولا تندفع مع نبرات صوته :
_ وهل سمعت يا ابنتي قبل ذلك أن قسً احترف اختطاف الأطفال ؟!
تدخل والدها سريعاً وقال بلهجة معتذرة :
_ أرجو المعذرة يا أبي ، فهي في حالة غير طبيعية ، منذ أن اُختطف طفلها ، هل تسمح لنا بأن نجلس معاً في غرفة منفردة لنتحدث في هذا الموضوع .
قال القس ميخائيل محاولاً أن يخفي دهشة شملته :
_ بالتأكيد ، تفضلوا إلى الإستراحة .
استمع القس ميخائيل صبحي دون مقاطعة وفاجأهم بقوله :
_ هل تعلما أنني القس الذي أبلغ عن جريمة نجيب العزيزي .
هواجس اندفعت إلى رأس لوسى بعد سماعها هذه المعلومة التي كانت تجهلها ، مفكرة بأن هذا القس كان طرفاً في هذه الأحداث ، فلماذا لا يكون هو المختطف لسبب أو لآخر تجهله ، فالموضوع منذ البداية يثير الدهشة والتعجب ، حاولت أن تهضم هواجسها ، لكن الذي لم تستطع أن تتغلب عليه دموعها الملتهبة ، ربت القس ميخائيل على ظهرها قائلاً : _ لا تخافي يا بنتي سيعود ابنك بأذن الله ، لكن أرجوأن تبعدي تفكيرك تماماً عما تتخيليه من أنني لي دوراً في اختطافه ، أنا لم أذهب إلى أمريكا منذ عامين ، وتفضلا معي إلى منزلي فأنتما ضيوفي اليوم ، وفرصة كي أريكما جواز سفري ، وآخر تأشيرة ذهاب إلى أمريكا .
قال هاني الصنباوي محرجاً :
_ أعتذر للمرة الثانية يا أبي ، عن سوء الفهم ، وفي الحقيقة ما أثار دهشتنا ، أن تذكرة سفر الطائرة التي غادر بها مختطف الطفل بنسلفانيا عائداً إلى سان فرانسيسكو كانت باسم القس ميخائيل صبحي ، وبالإستعلام في كاليفورنيا من خلال الكنائس هناك توصلنا إلى الأب موسى الذي أخبرنا أيضاً بأنه استضاف قس باسم ميخائيل صبحي في مضيفة الكنيسة كان في فترة علاج ، وأنه عاد إلى مصر .
قال القس ميخائيل مفكراً :
_ شيء غامض في هذا الموضوع ، وما يثير عجبي ويدعوإلى الدهشة ، أن الطرف الوحيد الذي يمكن أن يكون له يد في هذا الإختطاف هو نجيب العزيزي ، لكنه الآن مسجونا، وبفرض أنه بحكم علاقته كرجل أعمال ، تمكن من تكليف أحد رجاله ليلعب هذا الدور ، ما الذي سيعود عليه من خطف ابنه وهو سيقضي خلف القضبان عمره كله.
**********
الغموض والحيرة أفلتا من حدودهما وأعلنا سيطرتهما على الموقف كله ، القس ميخائيل أصابه الذهول وهو يمسك بجواز سفره ليطلع هاني الصنباوي وابنته لوسي على تأشيرة أمريكا التي مضى عليها أكثر من عامين ، لكنه فوجيء بأن الجواز خالي تماماً من أي أختام أو تأشيرات ، ردد بصوت مرتعش بأن جواز السفر الذي بيده مزيف لكن كيف ؟
وإلى اللقاء مع الحلقة الأخيرة
................
إدوارد فيلبس جرجس
**********************
أخبار متعلقة :