بوابة صوت بلادى بأمريكا

محيى الدين إبراهيم يكتب: متى تعود رفات محمود أبو الفتح أول نقيب للصحفيين من تونس لتدفن بمصر ؟

هل يعقل أن يكون جثمان أول نقيب للصحفيين المصريين وأهم شخصية ثورية قاومت الإنجليز وشاركت في ثورة 23 يوليو 1952 مدفوناً في تونس ولا تطالب نقابة الصحفيين المصريين بعودة رفات نقيبها الأول لترقد في تراب الوطن الذي عاش ومات من أجله !! .. هل نحن أمة تأكل أبنائها ؟؟ وما هي القصة ؟؟

ابتداءً لم يكن محمود أبو الفتح أول نقيب للصحفيين المصريين بل وأول نقيب للصحفيين في الشرق عموماً .. لم يكن صديقاً للرئيس جمال عبد الناصر من قريب أو من بعيد لا قبل الثورة ولا بعدها كما يزعم كثير ممن تناولوا قصة حياته، وربما لو كانوا سألوا أخيه الأصغر " أحمد أبو الفتح " قبل وفاته عام 2004 م  لأجابهم ببساطة أن جمال عبد الناصر لم تجمعه بمحمود أبو الفتح أي علاقة فجمال عبد الناصر في عام ميلاده ( 15 يناير 1918 ) كان وقتها محمود أبو الفتح يبلغ من العمر 26 عاماً وملازماً لسعد باشا زغلول وواحداً ممن فجروا ثورة 1919 وواحداً من الوفد المصري الملازم لسعد باشا زغلول في رحلته لإنجلترا وأن بداية علاقة جمال عبد الناصر الحقيقية بعائلة " أبو الفتح " كانت عن طريق "إبراهيم طلعت " أحد أهم الوفديين قبل ثورة 23 يوليو وبعدها حيث كان صديقاً لجمال عبد الناصر أو ربما أهم أصدقائه وهو الذي من خلاله تم التعارف بين " أحمد أبو الفتح " الأخ الأصغر لمحمود أبو الفتح ورئيس تحرير جريدة المصري وبين "جمال عبد الناصر" إذ كان "إبراهيم طلعت" يعيش في الإسكندرية ولما كان ينزل للقاهرة كان يفضل عقد لقاءاته في حديقة جريدة المصري ( لسان حال الوفد ) ومن هنا تعرف جمال عبد الناصر على آل أبو الفتح وصار صديقاً لأحمد أبو الفتح بل وكان لا يفضل شرب القهوة إلا في حديقة جريدة المصري حتى في حالة عدم وجود " ابراهيم طلعت " ويسهر فيها مع غالب محرريها وعلى رأسهم " أحمد أبو الفتح " الذي ترك له أخيه الأكبر " محمود أبو الفتح " رئاسة تحريرها تحت رئاسة إدارتها لأخيهم الأوسط " حسين أبو الفتح " بعدما تفرغ هو لأن يكون رجل أعمال بعيداً عن الصحافة، بل ومن المدهش بعد أن توطدت العلاقة بين جمال عبد الناصر وأحمد أبو الفتح كانت دار جريدة " المصري" تعقد فيها الاجتماعات السرية للضباط الأحرار، ومن مطابعها كانت تخرج بياناتهم، وفيها يحتفظون بسلاحهم الخفيف بحضور أحمد أبو الفتح ومشاركته الشخصية، كما عقدت فيها جميع مراحل التخطيط لثورة 23 يوليو حتى أنه ذات ليلة، وقد اقترب موعد تنفيذ الثورة  والضباط مجتمعون في جريدة  "المصري"، هرع رجل الى الداخل وأبلغ أحمد أبو الفتح المتزوج من شقيقة ثروت عكاشة، قائد فوج الفرسان في معركة الضباط الأحرار ان البوليس السري يراقب الدار، فأسرع أحمد الى اخبار جمال عبد الناصر ورفاقه الذين تسللوا من الباب الخلفي للجريدة قبل أن يدخل البوليس الحربي ويفتش غرف دار الجريدة ويعود دون أي دليل، هذه إحدى القصص بين أحمد أبو الفتح وجمال عبد الناصر أما محمود أبو الفتح فإن أي كلام عن صداقة بينه وبين جمال عبد الناصر هي محض خيالات.

السؤال إذن ماهو السبب وراء الأزمة التي قامت بين آل أبو الفتح وجمال عبد الناصر جعلت عبد الناصر يرفض عودة جثمان محمود أبو الفتح عام 1958 ليتم دفنه في مصر ؟

يقول غالب من تعرض بالتحليل للأزمة بين عبد الناصر وعائلة أبو الفتح وعلى رأسهم محمود أبو الفتح أنها بدأت مع أزمة مارس 1954 حيث سار التساؤل: هل تستمر الثورة في الحكم؟ وقد تزعم هذا الجانب مجلس قيادة الثورة، أو هل يعود الجيش إلى ثكناته؟، وقد تزعم هذا الجانب محمد نجيب، وخالد محيى الدين، ويوسف صديق، وكانت جريدة "المصرى" في جانب الشعب والديمقراطية، وحاول وقتها أحمد أبو الفتح، وإحسان عبد القدوس، إقناع عبد الناصر بحل وسط وهو أن تتحول الثورة إلى حزب ديمقراطى يكتسح الانتخابات، لكن مجلس قيادة الثورة رفض ذلك العرض، وتم تحديد إقامة محمد نجيب، واعتقال يوسف صديق، وسافر محيى الدين إلى الخارج، وتم اتهام الأخوين محمود أبو الفتح وأخيه حسين أبو الفتح بأنهما "أتيا أفعالًا ضد سلامة الوطن ومن شأنها إفساد أداة الحكم"، وكانت تهمة محمود أبو الفتح أنه "في غضون سنة 1954 قام بدعايات واتصالات في الخارج ضد نظام الحكم القائم بغرض تقويض النشاط القومي للبلاد وإغراء موظفًا عموميًا بطرق غير مشروعة على المساهمة في إتمام صفقة تجارية لمصلحته الذاتية" وقد صدر الحكم بسجن محمود أبو الفتح ـ الذي كان متغيبًا بأوروبا ـ عشر سنوات ومصادرة 358,438 جنيهًا من أمواله، ومعاقبة حسين أبو الفتح بالحبس خمسة عشر سنة مع إيقاف التنفيذ، وطبقا لهذا الحكم عُطلت جريدة المصري منذ يوم 5 مايو 1954.

لكن، هل هذه القصة هي القصة الحقيقية وراء أزمة ( آل أبو الفتح – عبد الناصر ) أم أن هناك تفاصيل أخرى؟

في تقديري أن بداية الأزمة لم تكن عام 1954 بل كانت عام 1952 وتحديداً ليلة 4 أغسطس بعد قيام الثورة بأقل من أسبوعين في منزل أحمد فؤاد أحد الضباط الأحرار والضابط المسئول عن الشئون الثقافية لقسم الجيش في حركة ( حدتو ) الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني قبل قيام ثورة 23 يوليو حيث اجتمع على الغذاء بمنزله كل من جمال عبد الناصر ويوسف صديق وخالد محيي الدين وإبراهيم طلعت وعبد الحكيم عامر ودار بينهم حديث طويل حول نظام الحكم بعد نجاح الثورة وعزل الملك وتم الاتفاق على ضرورة عودة الحياة الدستورية بما يحقق الحرية والديمقراطية وإجراء انتخابات حرة الغرض منها قيام مجلس النواب الذي يجب أن يمثل الشعب تمثيلاً حقيقياً ومن ثم وجوب دعوة البرلمان المنحل للانعقاد بمجلسيه الشيوخ والنواب لإقرار عزل الملك وإضفاء المشروعية على الثورة، وقد نقل " إبراهيم طلعت " هذا الكلام بالحرف لأحمد أبو الفتح في حضور جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر في حديقة جريدة المصري يوم 10 أغسطس 1952 م، الأمر الذي دفع أبو الفتح لأن يطرق صامتاً ولم يعلق خاصة بعد سماعه مسألة قانون تحديد الملكية الزراعية من جمال عبد الناصر، وفي يوم 11 أغسطس وفي كافيتريا ( البافيون ) بمصر الجديدة تقابل أحمد أبو الفتح مع أبراهيم طلعت وصارحه بأنه خائف وحين سأله أبراهيم عن سبب خوفه أجاب: ما أعرفش .. إحساس عندي .. كل ( اللغوصة ) اللي بتحصل في البلد دي ! ولكن بالرغم من خوف أحمد أبو الفتح كان هو الوحيد في مصر الذي انفردت جريدته يوم 12 أغسطس 1952م بنشر نص مشروع تحديد الملكية الزراعية تحت عنوان " نص مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية الذي قدمه مجلس الثورة للوزارة لإصداره ) وكان ذلك العنوان هو القشة التي قصمت ظهر البعير !

بعد نشر الخبر 12 اغسطس وفي تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً فوجئ إبراهيم طلعت بأحمد أبو الفتح على رأسه في غرفته بالفندق وهو يصيح في وجهه : رحنا في داهية يا إبراهيم !!

كانت الداهية التي يصيح بها أحمد أبو الفتح في وجه إبراهيم طلعت مصدرها حفل وضع حجر الأساس لمبنى الإذاعة الجديد بحضور "محمد نجيب" الذي سبقه لمكان الأحتفال " علي باشا ماهر" رئيس الحكومة وهو في حالة عصبية وانفعال شديد ليخبر محمد نجيب عن أن جريدة المصري قد نشرت خبراً ( مكذوباً ) حول مشروع قانون الملكية الزراعية في محاولة منها لدس الفتنة بين الوزارة ومجلس قيادة الثورة.

لم يكن "محمد نجيب" على علم بكل ما دار بالأمس بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وإبراهيم طلعت وأحمد أبو الفتح ومن ثم صرح في الميكرفون للصحفيين الموجودين أمامه أن ما نشرته جريدة المصري صباح 12 أغسطس هو عار تماماً من الصحة وكاذب جملة وتفصيلاً وأنه من خيال هذه الجريدة وطلب تكذيباً رسمياً للخبر، وهنا وكما يقول إبراهيم طلعت في مذكراته أهتزت الدنيا ولم تقعد.

ولكن كيف كان اهتزاز الدنيا التي قامت؟

قرر محمد نجيب أن تنشر جريدة الزمان تكذيباً على لسانه بأن مجلس قيادة الثورة لا علاقة له بما نشرته جريدة المصري وأنه لا مشروع إطلاقاً لمسألة تحديد الملكية الزراعية، وفي مساء نفس يوم 12 أغسطس، تقابل أحمد أبو الفتح وابراهيم طلعت مع جمال عبد الناصر في مكتبه بمجلس قيادة الثورة وتحدثوا معه عن الفضيحة التي ستتلقاها جريدة المصري حيث تم انتهاء جريدة الزمان من اصدار طبعتها الأولى التي تحمل في المانشيت الرئيسي لها تكذيب "محمد نجيب" لمشروع تحديد الملكية الزراعية، لكن لم يدر بخلدهما أبداً وسط ابتسامة جمال عبد الناصر الهادئة والمطمئنة أنه قد تم سحب كل نسخ الطبعة الأولي لجريدة الزمان ومصادرة كل ما طبع منها على رأس قوة من الجنود بقيادة الصاغ عبد المنعم النجار ( سفير مصر في باريس وبغداد فيما بعد ) وإعادة طبعها من جديد بمانشيت رئيسي مختلف يحمل عنوان : ما نشرته جريدة المصري هو نص المشروع الذي قدمه مجلس قيادة الثورة للحكومة لإصدارة.

مذهولان خرج كل من أحمد أبو الفتح وإبراهيم طلعت من مكتب جمال عبد الناصر حيث نظر ابراهيم طلعت لأحمد أبو الفتح قائلاً : أنا الآن يا أحمد أستطيع القول بأني اشاركك الخوف الذي انتابك يوم أمس .. فما حدث بجريدة الزمان النهاردة من المحتم أن يحدث لجريدة المصري غداً.

كانت آثار نشر خبر تحديد الملكية على الناس شبه كارثي، فقد أثار بتفاصيله في جريدة المصري اضطرابات ومظاهرات عنيفة في الأوساط العمالية بمصر سقط فيها قتلى حتى كادت تصل هذه الإضطرابات إلى حد الفوضى، كانت كل تلك الأمور قد وصلت لعلم محمود أبو الفتح الأخ الأكبر لأحمد أبو الفتح وكان وقتها رجل أعمال وأدرك بحسه الصحفي أن هناك أزمة داخل مجلس قيادة الثورة نفسه حول محمد نجيب والوزارة الحالية بقيادة علي باشا ماهر الذي يرى جمال عبد الناصر أنه يريد الإنفراد بالسلطة ولذلك فهو يرحب بتولي الدكتور عبد الرزاق السنهوري رئاسة الحكومة بدلاً من "علي ماهر" رغم فتوى " السنهوري" الكارثية هو وسليمان حافظ بعدم إعمال النص الدستوري بدعوة مجلس النواب المنحل بعد عزل الملك، بل وإلغاء الدستور نفسه وعمل دستور جديد يتفق مع المناخ الثوري الجديد بهوى من فتحي رضوان وحسن الهضيبي، وهنا قرر محمود الفتح السفر إلى سويسرا عن طريق لبنان فقد كانت أعماله في مصر شبه متوقفة بسبب حالة عدم الأستقرار في بيزنس المال والأعمال الذي صاحب قيام الثورة وبالفعل غادر مصر ربما في شهر مايو عام 1953م وكان نقيب الصحفيين المصريين وقتها أخيه الأوسط حسين أبو الفتح.

في لبنان تقابل مع "زهير عسيران " -  نقيب الصحافيين اللبنانيين فيما بعد - الذي كانت تربطه بعائلة أبو الفتح صلة صداقة انسانية ومهنية، وحين وصل محمود أبو الفتح لبيروت كان "زهير عسيران" يستعد للسفر إلى مصر حيث عهد إليه "عفيف الطيبي" نقيب الصحافيين اللبنانيين وقتذاك لإلقاء كلمة الصحافيين اللبنانيين في احتفال مصر بعيد الثورة الأول يوليو 1953.

علم "محمود أبو الفتح" من "زهير عسيران" بعد عودته من مصر بأنه ألقى كلمة صحافة لبنان بنصها الأصلي متجاهلا علامات الاستفهام والتعديل التي قام بها الرقيب المصري الذي فرضته الثورة على كل وسائل الإعلام في مصر وقتذاك، وأنه بوصوله الى الكلام عن الحرية وحق الشعوب في ان تحكم نفسها بنفسها اشتعلت القاعة بالتصفيق ، وأضاف "زهير عسيران" بأنه بعد أن أنهى كلمته نهض محمد نجيب في نهاية المؤتمر فشكر الوفود الصحافية ثم تحدّث عن الحرية، "وأن لمصر تاريخ طويل معها ومع الاستعمار، وأن "محمد نجيب" قال ذلك بنبرة قوية وشجاعة، دفعت "زهير عسيران" للتساؤل في إما ان الرئيس محمد نجيب اراد ان يزايد على كلمته ليفهم الحاضرين ان الحرية بخير، أو ان الرقيب الذي عينته الثورة يتبع سلطة خارجة عن ارادة محمد نجيب".

ويقول "زهير عسيران" في مذكراته : وتبين لي في ما بعد ان استنتاجي كان في محله وأن هناك خلاف داخل رجال الثورة أنفسهم حول قيادة محمد نجيب.

 

اتصل محمود أبو الفتح من بيروت بأخيه حسين أبو الفتح ( نقيب الصحافيين المصريين ) ودعاه لنشر كلمة "زهير عسيران" التي ألقاها في احتفالات الثورة بعيدها الأول بجريدة "المصري" فصدرت في مقالات "لأحمد أبو الفتح" تحت عنوان "حكم الشعب"، وهنا يقول "أحمد أبو الفتح" : ألم يكن الاتفاق بين أصحاب جريدة "المصري" والضباط الأحرار ان تعود الحياة البرلمانية الديموقراطية بعد نجاح الثورة، وهو الأمر الذي لم يرضى عنه الضباط الأحرار ومقالات استوجبت عقد اجتماع بين جمال عبد الناصر وأحمد أبو الفتح في منزل ثروت عكاشة شقيق زوجة أبو الفتح، وانتهى اللقاء إلى خلاف حاد في الرأي عندما أصر أحمد أبو الفتح على رأيه وعلى مقالاته التي تدعو بوجوب عودة الحياة البرلمانية فورا الى مصر، وبتحدي حقيقي ضد جمال عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة وبمباركة من محمود أبو الفتح المتواجد في بيروت وقتها استمرت "المصري" في موقفها المطالب بأن يعود الحكم الى الشعب بعد نجاح الثورة، وحين علم محمود ابو الفتح بأن هناك نية لإسكات صوت جريدة "المصري" قرر أن ينتقل بها لبيروت لكن الوقت كان قد فات وتم مصادرتها ومصادرة مطابعها.

من خلال صداقة "محمود أبو الفتح" بكل الصحافيين العرب ونقبائهم قرر أن يشن حملة صحفية من بيروت ويبدأها من خلال جريدة "الهدف" لصاحبها "زهير عسيران" .. كانت حملة قاسية ( من وجهة نظر محمود أبو الفتح ) على عبد الناصر الذي غيّر موقفه من رفاقه وخصوصا جريدة "المصري" وأصحابها، وفي عام 1954 م قرر جمال عبد الناصر أمام هذه الحملة تجريد محمود أبو الفتح من جنسيته المصرية والحكم عليه في محكمة الثورة بعشرة سنوات سجن وتجريده أيضاً من جميع ممتلكاته وتحويل منزله بشارع أحمد حشمت بالزمالك إلى مدرسة ابتدائية وكذلك أخاه حسين أبو الفتح.

سافر "أحمد أبو الفتح" لملاقاة أخيه محمود في بيروت ولكن محمود كان قد غادرها إلى سويسرا فور سماعه بنبأ تجريده من الجنسية المصرية حتى يدخلها قبل أن تمنعه السلطات السويسرية من دخولها بعد اسقاط جنسيته، حينها أرسل له أحمد أبو الفتح برقية من بيروت تفيد بضرورة أن يلتقيه في ايطاليا ولما كان محمود أبو الفتح قد انتزعت منه الجنسية المصرية ومضطر لملاقاة أخيه في ايطاليا ولا يستطيع مغادرة سويسرا والعودة إليها بل ولا يستطيع دخول ايطاليا أيضاً فقد استطاع بواسطة اصدقاء منهم "زهير عسيران" الحصول على جواز مرور سويسري من السلطات السويسرية تتيح له السفر والعودة بموجبه، وعند الحدود الايطالية - السويسرية دقق ضباط الجوازات مع حامل جواز المرور وهنا بكى محمود أبو الفتح ولسان حاله يقول: هكذا أصبحت مشرداً في الارض لا هوية لي كأني لم أكن يوما عربيا ولم أخدم قضايا وطني؟".

في فندق "أكسلسيور" في العاصمة روما بإيطاليا كان "محمود أبو الفتح" في شبه انهيار مما يحدث، وبينما هو في انتظار أحمد أبو الفتح أخيه اتصل "زهير عسيران" الذي كان يرافقه في رحلته من سويسرا لإيطاليا بل ومنذ خروجه من لبنان بالدكتور "فاضل الجمالي" وزير الخارجية العراقي يومئذ وتحدث معه عن "محمود أبو الفتح" فتأثر جداً وطلب مقابلتهما.

في صباح اليوم التالي ذهب "زهير عسيران" بصحبة "محمود أبو الفتح" للسفارة العراقية في روما فوجدا الدكتور "فاضل الجمالي" قد أعطى أوامره بإعطاء "محمود أبو الفتح" جواز مرور للسفر الى بغداد فوراً.

وصل "محمود أبو الفتح" بصحبة "زهير عسيران" الى مطار بغداد فوجدا مندوباً من وزير الخارجية  يقودهما الى مقر وزارة الخارجية حيث استقبلهما هناك "فاضل الجمالي" بنفسه وهو يطمئنه: "سترى ما يسرك ان شاء الله".

وانعقد مجلس الوزراء العراقي واتخذ قرارا بمنح "محمود أبو الفتح" الجنسية العراقية، تقديرا لخدماته وتضحياته في سبيل العرب والعروبة، وخلال يوم واحد كان "محمود أبو الفتح" يحمل الجنسية العراقية وجواز سفر يتحرك به كيفما شاء.

كان التحرك الاول الى سويسرا حيث يقيم فحصل من القنصلية السويسرية على تأشيرة دخول الى سويسرا، ورغم ان السلطات السويسرية لفت نظرها تغيير الجنسية، الا أنها تتساهل مع الشخصيات المعروفة لديها وأن "محمود أبو الفتح" ليس مجهولا منها وهو يقيم فيها منذ مدة وله مصالح فيها قبل ان يتم الحكم عليه بنزع الجنسية المصرية.

وظل "محمود أبو الفتح" عراقيا حتى الثورة التي قام بها "عبد الكريم قاسم" وحينها قرر مجلس الوزراء العراقي في أول جلسة له بسحب الجنسية العراقية من "محمود أبو الفتح".

تشاور "محمود أبو الفتح" مع صديقة القديم "زهير عسيران" في التليفون فدعاه أن يحضر الى بيروت فوراً وكان سفير العراق فيها صديقا لزهير عسيران حيث  أطلعه على ما حدث لمحمود أبو الفتح وهنا قرروا الحل الذي تلخص في العودة الى الجريدة الرسمية العراقية "الوقائع العراقية" والتي تحمل مرسوم اعطاء الجنسية العراقية الى "محمود ابو الفتح" حيث يقدموه للسلطات السويسرية لتبقى الجنسية العراقية سارية المفعول لمحمود في سويسرا وهو ماحدث بالفعل.

حزن محمود أبو الفتح مما حدث له ويحدث حزنا شديداً فساءت صحته وتدهورت بشكل سريع فانتقل الى المانيا وتوفي في مستشفى "بادن"، ولم يتمكن اهله من دفنه في مسقط رأسه مصر، بحسب وصيته، لمعارضة السلطات المصرية استقبال جثمانه فدفن في تونس بأمر من الرئيس الحبيب بورقيبة.

فهل حان الوقت لإعادة رفات هذا الرجل الوطني لأحضان وطنه ليستعيد الجثمان شرف الدفن في تراب الوطن كما أعاد أنور السادات شرف هذا الرجل ومنح أسمه وسام الجمهورية .. لا نريد أن نكون أمة تأكل أبنائها وقد حان لنقابة الصحفيين في يوبيلها الماسي أن تفكر في إعادة رفات أول نقيب لها من تونس ليتم دفنه في مصر.

وننتهي بالثناء على شعب تونس العظيم الذي دائماً ما يظهر معدنه النقي والعروبي في لحظات العسرة إن مرت بأمتنا حيث تجد في "تونس" وشعبها حضناً انسانياً رحباً وفياضاً.


 

 محيي الدين إبراهيم

كاتب وأعلامي مصري

أخبار متعلقة :