جلس صديقي المصري أفندي على المصطبة أمامه نهر النيل ساعة العصاري ينتظر غروب الشمس وسارح في الفضاء الفسيح متأملاً أحوال حياته خاصة وقد أقترب من خريف العمر الذي تراءي أمامه كأنه شريط سينمائي !
ذلك الإنسان الطيب المسالم المملوء بالحيوية والنشاط والتفاؤل الذي كان يمشي ويدق الأرض بخطى ثابتة واثقة وجسده ممشوق القوام وفي روحه تجده معتزاً بنفسه شامخ الرأس خالي البال ( رايق ) المزاج يشع من عينيه بريق الرضا والحمد وعلى شفتيه ابتسامة لا تفارقه ولا تفارق وجهه وهو يلقي السلامات والتحيات لمن يقابله بالطريق سواء كان يعرفه أو لا يعرفه، صغيراً كان أم كبيراً، قريباً كان أو غريباً، بدون تفرقة، بقلب أبيض، في عمله أمانه وإخلاص واجتهاد وكرامة وعزة وجدعنة، يحب كل الناس، مكافح، مجامل، صاحب البسمة والقفشة والضحكة الصافية من قلب خالي من كراهية أو حسد أو ضغينة لأي أحد، يشارك الأهل والجيران والخلاّن في الأفراح والأحزان صاحب المواقف الرجولية عند الشدائد لا يلتفت للمظاهر أو التزويق ولا يعرف النفاق أو الرياء أو التملق ذو حكمة وصدق وعدل حتى على نفسه ولا تخرج العيبة من فمه فلسانه يقطر شهد، بسيط في سلوكه وتصرفه متواضع وديع في أفعاله بشوش ودود في علاقاته شهم رجل مع أصدقائه تحكمه الأصول والأعراف والعادات والتقاليد الأصيلة المتوارثة منذ أجيال متدين في عباداته بفطرية وعفوية دون تعصب أو تشدد بالرغم من قلة تعليمه لكنه على معرفة تامة بأسرار الحياة وحكمة الأيام يمتلك من الأمثال والأقوال ما يفوق فطنة العلماء والحكماء، هنا ارتفعت آهاته وتنهيدة: جرى إيه يا ولاد مصر .. ماذا حدث .. مجرد سنوات قليلة تحولت إلى ركام إنسان وحطام رجل مغموم مهموم مطحون حزين منكسر القلب زائغ العينين فاقد الحس والإحساس مثل دمية تتحرك بريموت كنترول أو عرائس تحركها أصابع خفية شيطانية تدفعه للكسل والتواكل واليأس وفقدان الرغبة في الحياة عصبي المزاج مثير للجدل والخلاف والعراك على أتفه الأسباب ينطوي على ذاته منعزل انحلت عنه الصفات الجميلة الراقية وتحولت إلى سوء أخلاق وعدم قبول الآخر والأنانية والفساد والرشوة والمحسوبية والتزوير والاختلاس قاعدة التعامل وأساس التصرفات، سلوكيات مخجلة مشينة لم يتصورها مخلوق إن تحدث بين الخلق كثر مع حديثه الاحتقان والفتن والصراع والحروب، امتلأت المنازل بالأحزان والآلام والأوجاع والأنين واندثرت التقاليد والمجاملات بين البشر واختفت فئة الحكماء والعقلاء وظهر مجموعة من الدخلاء والمجانين والمهوسين وبدلاً من العقل والمنطق والحق ( حل ) التأويل والأقاويل والتفاسير الخاطئة التي أصبحت العملة السائدة والمسيطرة، وأصبح كل شيء مباحاً ومستهجناً من اعتداء وإهانة وتخريب وحرق وخدش الحياء وهروب واختفاء الفتيات وخطف الأطفال وإهانة الكبار والنساء ورجال الدين، وأصبحت الأمور وأحداث متكررة واستمرار ومعها تبدأ الأعذار والتبرير واختلاق القصص والأكاذيب والافتراءات السلوك الغالب الاحتيال والنصب عملة هذا الزمان الرائجة.
أمر محير ويصيب العقل بالتوهان حقاً، هؤلاء المصريين لم يعد نعرف بين الصالح والطالح، العالم والجاهل، الحلال والحرام، لماذا هذا الهيجان والفوران وطوفان التساؤلات وارتباك الأفكار وارتفاع الحسرات والآهات، لماذا تغيرت الأمور وتبدلت الأحوال وفسدت الأخلاق وخربت الضمائر بهذه الصورة المخيفة المرعبة الخطيرة .. تمهل صديقي المصري أفندي قليلاً ورجع إلى وعيه وصوابه محاولاً تفسير وتعليل وتحليل الأسباب منذ أن كان عمر المصري أفندي طفلاً قد تربى على تعلم المبادئ والأخلاق والآداب العامة والمحيط والمناخ الصحي سواء كان في البيت أو خارجه وأمامه المثل والقدوة سواء كان الأب أو المدرس أو الجار، حتماً لابد أن يكون طفلاً سليم العقل والجسد والسلوك وطبيعي في تصرفاته وهادئ الطباع يحترم الكبير ومع استمرار التربية السليمة يصل لمرحلة الشباب بكل ما فيها من التزام أخلاقي وأدبي داخل الحدود المسموح بها مما يجعله إنساناً ناجحاً قادراً على تحمل المسئولية نحو المحيطين به داخل مجتمعه ووطنه، ليكون بذلك رجلاً يمتلك من الصفات والمبادئ والتدين ما يؤهله على تكوين أسرة صحيحة مبنية على الاحترام والثقة والأمانة سواء داخل الأسرة نفسها أو خارجها ليعطي صورة براقة رائعة مشرفة للمجتمع كله سواء في النظافة والنظام والرقي والحضارة في كل شئ إلى أن وصل إلى خريف العمر فيصبح إنساناً طيب المشاعر هادئ النفس مرهف الإحساس يعبر عما بداخله بصدق وأمانه، هذا هو سر المصري أفندي، وهنا .. هنا فقط .. توقف لحظة حتى يرد على سؤاله المحير: ما الذي جرى بصراحة وشفافية دون مواربة أو هروب أو تأويل، فقط المواجهة مع النفس إذا كان لدينا رغبة أكيدة في التغيير والإصلاح والرجوع للاعتدال والوسطية والصفات الحميدة نظرة ومراجعة عملية للعهود والعصور التي مرت على المصري أفندي وتسليط الضوء عليها منذ أيام الملك فاروق الذي ربما كان العصر الذهبي في مجمل نواحي الحياة الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الأدبية مما خلق وشكل المناخ الصحي لشخصية المصري أفندي الجميلة ومما جعل الكثير منا يتحسر ويترحم على هذا الجيل وهذا الزمن الجميل بغض النظر عن اختلافنا على الملكية والملك من عدمه، مما أدى لتشويه وتزييف للتاريخ، لا شك أنه قد بدأ عصر جديد بعد الملكية بحركة الضباط الأحرار عام 1952م ومع تلك الحركة أصبح المصري أفندي له طبيعة مغايرة ومخالفة بكل ما فيها من ايجابيات وسلبيات أو تعديلات جذرية في طبقات المجتمع ونزع الملكية من أصحاب الأراضي أو عملية الاستيلاء والتأميم والقضاء على سيطرة الإقطاع والرأسمالية، قلب الموازين وبزوغ فئة جديدة، فكر واحد وأسلوب واحد ونظام واحد وتطبيق مبادئ الاشتراكية التي تميل للشيوعية الروسية والاعتماد الكامل على السلطة دون البحث والإبداع والابتكار والاجتهاد واعتمدت السلطة الديكتاتورية على مبدأ أهل الثقة على حساب أهل الكفاءة والخبرة وقل الولاء الوطني والانتماء عندما ألغي جمال عبد الناصر أسم مصر من الدولة منذ قيام الوحدة مع سوريا عام 1958م وإطلاق ما يسمى بالقومية العربية ومعها انهار أهم سمة للمصري أفندي وانحداره على المستوى العلمي والأخلاقي وبدأت الوصولية والنفاق والمحسوبية وتزييف الحقائق دون رقابة أو محاسبة أو متابعة للأفعال فكانت الهزيمة والنكسة التي قصمت ظهر القيادة وظهور معالم الشيخوخة والانكسار والإحباط واليأس على شخصية المصري أفندي فجاءت النهاية المفاجئة والموت للرئيس جمال عبد الناصر في ريعان شبابه 1970م ليأتي بعده الرئيس أنور السادات ويبدأ مرحلة ثانية مختلفة تماماً ومغايرة وردة واضحة للنظام الذي سبقه ومن أول يوم وبفكر خبيث ومكر ودهاء أزاح أنصار ناصر ومؤيدي الاشتراكية وحلت نظم الخصخصة والرأسمالية الجديدة والاستعانة برجال الدين وخلط أدوات الدين في السياسة حتى يتمكن من بسط سطوته وسلطانه الجديد وتواكب ذلك بنصر أكتوبر 1973م حتى فًرض الفكر الوهابي المتشدد وبزوغ الفتن والاحتقان الطائفي ومعها ضاعت صفات المصري أفندي المتسامح المسالم البسيط في تدينه حيث جاء الوجه المتزمت الصارم والملتزم بالتعاليم والتفاسير الخاطئة من فئة ذات فكر متطرف وهنا تم التفريق بين أولاد المصري أفندي وبين هذا وذاك وبين الحجاب والسفور وبين المؤمن والكافر وهكذا سيطرت الجماعات المتطرفة على مقادير الشعب في القرى والنجوع خاصة في محافظتي المنيا وأسيوط ذوات التواجد المسيحي بهما وتغلغل الفكر الوهابي السلفي في المحافظات الساحلية ابتداء من مرسى مطروح وإسكندرية ودمياط وبور سعيد فكان الفشل الذريع والسقوط الكبير للمصري أفندي وانتهي عصر السادات والمرحلة الساداتية بمقتله المفاجئ أيضا 1981م وبدأت مرحلة متأرجحة ومتذبذبة أرسى قواعدها الرئيس حسني مبارك في محاولة منه لاحتواء الجماعات المتطرفة وانحرف المصري أفندي وبطريقة ملتوية ومراوغة والشد والجذب في التعامل البعض مع بعض بطريقة القط والفار والتغافل عن عمليات مشبوهة وترك الحبل على الغارب لفئات جديدة هدفها الثراء السريع باستخدام أقذر الأساليب في الوصول لأعلى المناصب مقابل الحفاظ على الكرسي الذي استمر ثلاثين عاماً ضاعت معها كل معالم وشخصية المصري أفندي الجميلة وباع نفسه للشيطان ولبس الأقنعة المزيفة للتدين المظهري الشكلي مقابل أفعاله الرخيصة من احتيال ونصب وتزوير وتخريب هذا يحلل الحرام لنفسه ويحرم الحلال على غيره فلا غرابة من أن نجد المسئول المرتشي المختلس الذي يتم القبض عليه بينما يضع على مكتبه المصاحف وبجوارها سجادة الصلاة وعلى الحوائط براويز لآيات ومواعظ يخفي من ورائها جرائمه التي يرتكبها، تراجع مهين في كل مناحي الحياة، هبط مستوى الفن الراقي وحل مكانه هلافيت وجرابيع الصراخ والنهيق والابتذال حتى في الكلمات والحركات فكان طبيعياً ظهور حالات التحرش والاغتصاب وارتكاب الفواحش والمحرمات وانحدر التعليم إلى مستنقع الغش وتزوير الشهادات والدروس الخصوصية ذلك الوباء الذي دمر المنظومة التعليمية نهائياً فظهرت فئة الدكاترة المزيفين والمدعين لحصولهم على أعلى الألقاب والدرجات العلمية واستغلال معاناة ومرض الناس البسطاء وعمليات النصب العلني وبصور مختلفة، فهذا يتبع الخرافات وذاك يؤمن بالخزعبلات والتخاريف، من يدعي الشفاء بالأقوال والسحر والأعشاب، ضاعت الضمائر والأخلاقيات واختلط الحابل بالنابل وضاعت معالم النظافة والنظام والضبط والربط والالتزام بقواعد المرور وأصبح منطق القوة هو الغالب والسائد على نواحي الحياة والغلبة والسطوة للأقوى، سياسة الغاب دون رقابة أو محاسبة للمخطئ، انتشرت الأمراض والأوبئة الخطيرة نتيجة التلوث البيئي والزروع واستخدام المتسرطنات والأسمدة الممنوعة دولياً في زمن ضاع فيه الضمير مقابل الربح السريع، تفشى الفساد والمفسدين في العهد المباركي حيث فقدت عجلة القيادة الاتجاه الصواب وتحطمت دفة السفينة أمام ضربات الرياح العاتية فكانت النهاية الحتمية والنتيجة المتوقعة بالتنحي والتخلي عن السلطة عام 2011م ومعها جاء عهد جديد وسطوة جديدة في سيطرة الإخوان المسلمين على الحكم وظهور عصر ( محمد مرسي ) حيث تم القضاء نهائياً على مقومات المصري أفندي مستخدمين أساليب في التعامل بداية من مرحلة الإغراء والترغيب ثم مرحلة الفصل والتفريق وصولاً لمرحلة التهديد والوعيد حتى فرض سيطرته بالقوة والاستيلاء على مقاليد الحكم والسلطة ثم ترك كل شئ وهدفه هو التمكين والتكويش لصالحه وترك الشعب يتناحر ويتشاجر ويتصارع بعضهم لبعض مستخدمين كل أنواع الأكاذيب والاحتيال والنصب لفئة جديدة واستغلال الدين وتدغدغت مشاعر الناس واستغلال البسطاء بهدف واحد فقط إحياء خلافتهم المزعومة ودولتهم الدينية وترسيخ أفكارهم الوهابية فكانت التفرقة والتقسيم والتخريب هذا فسطاط المؤمنين وتلك فسطاط الكافرين، هذا من أهل الجنة وهؤلاء من أهل النار وبمنتهى السهولة تم تفتيت الجسم الواحد للمصري أفندي وتفشت الأمراض في جسده المتهالك وانتشر السوس ينحر في عظامه وفي لحظة توقف الزمان واستيقظ المصري أفندي من غفوته وغفلته وسباته لينظر حوله ليجد أن كل شيئ كاد أن يضيع منه ولإحساسه بخطورة الموقف في فقدان أمنه وسلامته ووطنه انتفض وأخذ في تجميع قوته الباقية وبمعاونة الله ومساندة جيشه الأبي تحت قيادة مصرية خالصة وطنية جاءت ثورته للوقوف أمام تلك الطغمة الباغية الغاشمة الشريرة وتمكن من خلع هذا الخائن ( المرسي ) وجماعته الطاغية الشريرة التي لم تستسلم بسهوله بل دخلت في مرحلتها النهائية من الإرهاب والتخريب كوسيلة من وسائلها الدنيئة وكذلك انسياق أتباعها في طريق الشيطان الذين باعوا أنفسهم وفقدوا انتمائهم المصري وتحولوا لمجموعة من الخونة والمرتزقة والمخربين، حيث تركوا آثارهم المؤلمة والخراب والدمار وسقوط الأبرياء والشهداء والجرحى من أعمالهم وأفعالهم الخسيسة المجرمة حيث امتلأت البيوت بالأرامل والأيتام ولكن في إصرار الأبطال بزغ الرئيس السيسي بعهد جديد وفكر جديد وعقلية جديدة ومحاولات مستميتة لإرجاع الشخصية المصرية مرة أخرى فالذي دمرته عهود وعصور السابقين وضربت صفاته وأخلاقياته الطيبة تركت آثارها السيئة والتي للأسف نراها كل يوم وفي كل مكان من أحداث وتصرفات وسلوكيات مستهجنة وجرائم بشعة مفزعة فرض على القيادة مجهود جبار ومخلص وعرق وكفاح ودموع في تنقية العقول والأفكار الهدامة من منظومة التعليم للطفل الصغير وتنشئة جيل جديد بأخلاقيات وأدبيات سليمة صحيحة وعلى أسس وسلوكيات راقية حضارية والعمل على مبادئ المواطنة وبسط قوة القانون على الجميع ومحاربة قوى الشر والقضاء على كافة صور الفساد المتفشي في أواصل الوطن كله فالذي بدأ المشوار الصحيح وبإنسانية وفكر طموح وإخلاص في العمل وجهد وطني خالص بأمانه وضمير يجعلنا نطمئن على مستقبل هذا الوطن الغالي وعلينا أن نقف ونؤازره ونساعده ونتعاون معه على أمل واحد فقط وهو رجوع شخصية المصري أفندي حتى لو استغرق هذا منا سنوات وسنوات وسنوات .. المهم النتيجة وأن نمتلك المستقبل الآن وبأيدي مخلصة وجهد وتفاني لنصل بإذن الله لما نصبو إليه، ومن ثم فالموافقة على التعديلات الدستورية الأخيرة ستكون مسمار في نعش هذه الجماعة المنحرفة ونهاية لحقبة مؤلمة وبداية الطريق الصحيح وتقويم الانحراف السابق وشق في الصخر لعودة الروح الأصيلة للمصري أفندي وتكسير القيود الحديدية التي تكبله سواء كانت تلك القيود أفكاراً هدامة أو تصرفات سيئة أو عقول متجمدة أو قلوب سوداء متحجرة.
هلُم أيها المصريون إلى نبذ كل شقاق أو تحزب أو تفرقة وانقسام أو كراهية وتعصب أو تطرف وتشدد.
علموا أولادكم ذكريات المصري أفندي الجميلة السامية الحضارية الراقية التي عشناها وقضيناها ولمسناها من محبة خالصة وسلام وأمان وخير وعقل مستنير كان مضرب الأمثال تتباهي به أمام العالم كله.
حقاً كانت أروع وأجمل وأحسن وأفضل أيام من حياتك أيها المصري العظيم.
أخبار متعلقة :