لقد خلق الله الانسان فى أروع صورة ، و وهبه العقل و الحكمة ليفكر و يبتكر و يناقش ويتدبر ويبدع متفاعلاً مع البيئة المحيطة ، فيستخدم ما فيها لخيره ويتقى أذاها ، وهنا نعمة استخدام العقل ترتقى بالإنسانية تتنقل بها من حالها التى هى عليه إلى آفاق أرحب و أوسع لصالح التقدم و التطور و الحداثة . كان الشرق الأوسط فى القرون الوسطى أكثر استخدما للعقل و إعمالاً لقدراته و استخداما للغة الفلسفة فى الخطاب الدينى كما حدث فى القرن الثالث فى مكتبة الاسكندرية عندما سمحت لمثل اكليمندس الاسكندرى و اوريجانوس أن يتفاعلوا مع الوحى و الفلسفة و سخروا الفلسفة فى خدمة الخطاب الدينى .
و لاشك تبهرنا صفحات مشرقة من تاريخ العرب والمسلمين، الذين أبدعوا في مختلف العلوم التطبيقية والإنسانية والرياضيات والموسيقى والفلك والترجمة فلقد شق العرب طريقهم نحو الحداثة و المدنية و كان لهم إنتاج علمى ومعرفى غزير و ثرى كان لتستسقى منه الأجيال المتعاقبة جيلاً بعد جيل ؛ لكن تم إهداره خاصة فى غمرة انشغال الشرق بالصراعات المذهبية و الطائفية والسياسية فتم تشييع العلم و الأبحاث و الفنون و الثقافة إلى مثواها الأخير . بينما أستيقظت اوروبا من سباتها فى القرن السادس عشر عصر النهضة الاوروبية إذ تحررت من قناعاتها و نمطيتها وكان ذلك بفضل تناغم العقل مع الإيمان فانتفضت أوروبا من سباتها و جمودها و تغيرت قناعاتها و نمطيتها و تم إحلال السلطة الدينية .
أما الأن فبدلاً من الاستفادة من تلك الثروات الثقافية و العلمية و استخدام هبة الله لنا التى تميز الإنسان عن سائر المخلوقات فقد تكاسلنا بإصرار غبى على عدم إعمال العقل ، و تراجعنا ألاف السنين و العصور و كأننا نتجه إلى عصور أهل الكهف و الظلام بدلاً من المُضى قُدماً نحو مستقبل أكثر أشراقاً و تنويرا نناقش الحجة بالحجة ، ننتقد و نفيد ونستفيد لنصل إلى الأفضل . فقد قال الفيلسوف جون لوك، و الذي كان تأثيره أكبر أهمية، في زعماء الثورة الأمريكية. "أن العقل شمعة الله التي نصبها بنفسه في أذهان الرجال، وبأن العقل يجب أن يكون آخر حَكَم ومُرْشد لنا في كل شيء، ويؤمن " لوك " بأن العقل يعلمنا وجوب توحد الناس وتكوينهم لدولة تحمي حياتهم وحرياتهم وممتلكاتهم، وأشار إلى أنه بالرغم من حتمية تخلِّي الناس عن بعض الحقوق عند تكوين الدولة، فإنهم يكسبون من الحماية أكثر مما يفقدون و يؤمن " لوك" بأن في استطاعة أي شخص استخدام العقل، شريطة السماح لتلك القدرة بالتطور؛ ولذلك شدَّد على أهمية التعليم، وأصر على حق حرية التعبير، وعلى التسامح مع الأفكار المتنازعة ". و من ثم لماذا نهاب العقل و نخاف استخدامه ؛ ألم يمنحه الله للإنسان لخيره و صالحه ؟ هل لنا أن نسأل الدعاة و الوعاظ فى المساجد و الكنائس ؛ لماذا نخشى الإطلاع والتعامل مع فكر الفلسفة و مخرجاتها العلمية و إعمال العقل فى الخطاب الدينى ؟. فجميع ألوان التعصب و السلفية و الظلم والديكتاتورية و ردود الفعل السطحية التى يعيشها الناس في مجتمعاتنا العربية المعاصرة على جميع مستوياتها إنما سببها هو مأزق العقل ، ففى تجاهل إعمال العقل و قيمتة تزداد النزعة الإيمانية المتطرفة .
مما لا شك فيه أن تصويب الخطاب الديني سيواجه صعوبات جمة ، إلا أنها ستصبح سبيلاً إلى تطهير الإيمان من النزعة المتطرفة بعادات وتقاليد ليست من صميم الدين . و هو ما يشدد عليه الرئيس السيسى فى كل مناسبة وكان أخرها فى مؤتمر ميونخ عندما أكد أن معاناة كافة دول العالم وليست الإسلامية فقط، من عدم تفريغ الخطاب الدينى من الغلو والتطرف قائلاً : " إن ظاهرة الإرهاب وعدم الاستقرار يمسان أمن العالم، إذا لم يتم التعامل معهما بشكل متكامل بتعاون دولي حاسم"،... مستطرداً "تحدثت منذ أكثر من 4 سنوات عن أهمية إصلاح الخطاب الديني ، لأن عدم تصويب هذا الخطاب سنعاني منه كدول مسلمة، ويعاني منه العالم كله " ، وتابع: "رأينا تأثير الفكر المتطرف على الأمن والاستقرار في العالم بأسره خلال السنوات الماضية، وكان تأثيره واضحاً في المنطقة العربية، وبعض الدول الأوروبية؛ والقاهرة تقود الآن مسيرة تصويب الخطاب الديني، وإبراز ذلك للجميع، حيث لا توجد مدينة جديدة في مصر، وإلا دور العبادة الإسلامية والمسيحية (المسجد والكنيسة) إحدى مفرداتها"، على حد تعبيره. و بالرغم أن عادات مواطن الشرق و قناعاتهم تختلف عن قناعات مثيله في الغرب إلا أنه يجب علينا أن نستفيد من تجارب الدول الغربية ، لنسمح بأن يزدهر الخطاب الفلسفى اللاهوتى ، و بالتبعية يتحرر رجال الدين و المؤسسات الدينية من التدخل فى السياسة . و بالعودة لتصويب الخطاب الدينى و المطالبة باستخدام الفلسفة نجد أنه لا ينبغى فصل الخطاب الفلسفى و الاجتماعى عن الخطاب اللاهوتى ، فكل خطاب يختص بالله فهو يتعلق بالانسان فى شتى نواحى حياته الاجتماعية . فليتضافر العقل و يتناغم مع الايمان ، و يرتقى بالانسانية فيفتح لنا افاقا شاسعة للتقدم الحقيقى لا المزيف فالعالم العربى يعيش مرحلة مفصلية تحتاج إلى تضافر جهود المثقفين والعودة إلى مهمتهم الأصلية في إضاءة مصابيح العقل وهنا ينبغى لنا أن نتبنى الحكمة اللاتينية التى تنادى بالاهتداء و التغيير و التجديد " الخطأ أمر إنسانى أما الإصرار عليه فأمر شيطانى " .
أخبار متعلقة :