بوابة صوت بلادى بأمريكا

علاقات خطرة واستكمال سلسلة التحليل والمراجعة مع د.محمد طه الجزء الرابع بقلم /حنان فاروق العجمي

 
 
عودة إلى مسرح أحداث د. محمد طه وفيلم Inside Out حيث يبدأ الكاتب باستنكار الأسلوب السطحي للبعض في التعامل مع المشاعر وخاصة مشاعر الحزن فنصيحة أحدهم لن تفيدك عندما يقول لك افرح أو اضحك وتجاهل مشاعر الألم الدفين داخلك وفي انتقالة بارعة بعد إسداء الكاتب للنصيحة بطريقة غير مباشرة بالابتعاد عن كل مَنْ يقلل من مشاعر ألمك وهو لا يعلم عنه شيئًا ينتقل بنا إلى مشهد من فيلم بطلته "رايلي" السابق ذكره الطفلة التي ترسخ في ذهنها منذ الولادة عبارة أبيها(ألست قطعة من الفرح؟) 
ورسالة أمها(يجب أن نبقى مبتسمين فذلك يساعدنا)
وعلى هذا آمنت الطفلة أن الفرح هو محور حياتها وعند أول موقف مُحزن تتعرض له وهو انتقال أسرتها لمنزل جديد وترك ذكرياتها بمنزلها القديم والذهاب لولاية أخرى لجأت "رايلي" إلى استبدال مشاعر الحزن والفقد بذكرياتها الجميلة والقيام بأمور تسعدها وقراءة كتيبات الإرشاد للتأقلم مع وضعها الجديد وهنا أشار د.محمد طه إلى أن هناك دائمًا طريقة لقلب الأمور وإيجاد المتعة كما فعلت بطلة الفيلم مثل طمأنة النفس بأنها ستكون سعيدة ولا داعي للقلق وأن غدًا هو يوم عظيم آخر وأن الحياة ستصبح جميلة ويشير الكاتب هنا حسب رؤيته للفيلم أن بطلته لم تعط لنفسها حق الشعور بالحزن بل قامت بتحجيمه ويرى د.محمد طه أن هذا ما هو إلا معركة مع النفس لن تبوء إلا بالفشل والانهيار وأرى من منظوري الشخصي أن د. محمد طه لمس الواقع ببراعة شديدة في تحليله للنفس البشرية وهذا وإن دل فإنه يدل على عمق تفكيره ودراسته الواعية وعلمه الذي يقدمه للقارئ على طبق من فضة وعن تجربتي الشخصية وجزء مني قد مر بهذا الموقف وهذا الحدث كبطلة الفيلم وانتقالي في مرحلة ما من عمري لمنزل جديد وبيئة مختلفة عن التي نشأت فيها وكان بمثابة الصدمة بالنسبة لي وأعتقد أني جابهتها بالتأقلم ودفن الألم داخلي بل وتكررت صدمتي مرة أخرى وانتقال آخر ليس فقط بمرحلة الطفولة بل بمرحلة الشباب التي من المفترض أن تكون أسعد أيام وأجمل ذكريات في حياة الإنسان وعادت وتكررت نفس الأحداث وانتقال ثالث بصدمة أكبر بمرحلة النضج وكنت دومًا أدفن الألم داخلي وأحاول التعايش بكل ما أوتيت من قوة مع الوضع الجديد وكما قال واستعرض د.محمد طه في كتابه الشيق الملئ بالأحداث وكشف أسرار النفس البشرية أنها محاولات الإنسان في تجزئة نفسه والتخلي عن بعضها 
لا أخفي عليك عزيزي القارئ أشعر وكأني أسكب جزءًا من نفسي كلما أبحرت داخل كتاب علاقات خطرة وكأنني بجلسة أمام د.محمد طه بعيادته سأصطحبكم مرة أخرى مع الكاتب داخل الفيلم ويبدو أنه نجح من خلال قراءتي لمؤلَّفه أن يجعلني أجلس بكل هدوء لأستكشف ما بداخلي مثلما سيحدث لك أيها القارئ دون إرادة منك!
وعودة لبطلة الفيلم التي اعتادت على إضفاء جو من البهجة على كل ما يحدث معها وصراع ومد وجذر بأحداث الفيلم واستطراد الكاتب في شرح الفيلم والغوص داخل مشاعر البطلة التي تتوحد كل مشاعرها معًا بالنهاية لتعطي لنفسها حق الحزن ومواجهة عالمها بكوكتيل من المشاعر الدفينة الفرح والخوف والغضب والاشمئزاز والحزن الأزرق الدافئ وكعادة الكاتب واستخدامه أسلوبه المرح ليجذب القارئ فلا يمل يقول لك "إليك هذه المفاجأة .. انت من حقك تحزن .. أيوه.. تصور.. امتاز الكاتب بسلاسة أسلوبه الخطابي كما عهدناه أثناء مراجعة كتابه ويعود لتوجيه الأسئلة إلى القارئ مثل متى آخر مرة حزنت؟ وهل سمحت لنفسك تعيش الحزن؟ أم أنكرت ألمك وتجاهلته؟ 
وفي تشبيه رائع للمشاعر الإنسانية وكأنها ورقة نقوم بقص جزء منها كلما آلمنا إلى أن نصل أنه لم يتبق شيء منها وهنا تصل الذات إلى مرحلة الشتات والتخلي عن الطبيعة البشرية ونصيحة الكاتب هي الاعتدال في الفرح والحزن والغضب وكل شعور خاص بكل موقف من مواقف حياتك لتحقيق التوازن 
"الفقد الارتيابي" وقام بتعريفه على أنه القرب والبعد من الشخص الذي تخاف فقده كالأم والتخيلات التي تصيب الإنسان بأنه لو اقترب أكثر من أمه يخاف أن يبعد عنها وهنا سيفقد نفسه وإن بعد عنها يخاف يفقدها حالة من الشك تصيبه ومخاوف معقدة وتنتهي بزيادة ونمو الوعي لديه ثم تحدث الكاتب عن مراحل الحياة وهي ارتباط الطفل الشديد بأمه حتى يذوب فيها أو ابتعاده الشديد عنها وفقد علاقته بها خوفا من ذوبان كيانه فيها وهي مرحلة من مراحل المرض النفسي واختيار آخر وهو تقبل الفقد واحتمال الألم والاختيار الثالث الذي يتمثل في التردد بين الاختيارين الأول والثاني وعلى الإنسان اتخاذ قراره إما التقبل للواقع وقوانين الحياة في احتمال الفقد والإكمال والعيش أو الإصابة بالتخبط والأمراض النفسية ويعود د.محمد طه ليفاجئنا بمصطلحاته بأن مرحلة تقبل الواقع والتعايش تُدعى 
"الموقف الاكتئابي"! وينوه هنا إلى شدة الألم الذي يواجهه الإنسان ليتقبل واقعه ويخرج من عرضه الشيق بعبارات مستنتجة الفقد حق.. الحزن حق.. قبول الفقد نجاة... قبول الحزن حكمة..Letting go 
وتستمر مفاجآت د.محمد طه بذكره أن الحياة تعيش بداخلنا ومثلها يعيش الموت! ويصاحبنا بمراحل حياتنا فكلما نام الإنسان كل ليلة فإنه يموت ثم يعود ليستيقظ ويعيش وبداخلنا غرائز عدة منها غريزة الأكل نأكل لنمد أجسامنا بما تحتاجه من عناصر غذائية لنعيش وغريزة الجنس لحفظ النوع البشري والاستمتاع لمجابهة مشاق المعيشة ونحب لاستمرار الحياة ونكون صداقات لأنها بمثابة صمام الأمان وتكوين علاقات صحية تدعمنا نفسيا وقت اللزوم ونسافر ونبدع وننجح كلها غرائز نحيا بها ونحيا أيضا بغريزة الموت كمن يستعذب الألم بتكراره علاقات فاشلة في الحب والزواج والصداقة فهو إنسان يعيش الموت ومن يسعى لظلم نفسه وإيذائها والاستسلام لمشاعر الغضب والكره فهو يحيا الموت ومن يجلد نفسها ويشعر بالذنب دائما فهو يمارس غريزة الموت وهنا يقنعك الكاتب بأنك تعيش بداخلك اثنين حياة وموت هما جزء من تركيب الإنسان النفسي وعليه تقبلهما ولم ينس الكاتب التدليل على تحليله بذكر 
فيلم Meet Joe Black ورجل الأعمال وبطل الفيلم الذي زاره ملك الموت ليقضي معه عدة أيام قبل أن يقبض روحه وقبول بطل الفيلم لحقيقة موته وانتصاره على مخاوفه والعيش حتى استسلامه واصطحابه ملك الموت بالنهاية وسط احتفالية كبيرة والرضا التام إذن استطاع د. محمد طه أن يقنعنا بفكرة القبول ونستشعر هنا النزعة الإيمانية المسيطرة على الكاتب والتسليم بقبول الموت ويستمر في الإبحار ونصاحبه في رحلته وكتابه وخلاصة إبداعه وفكره 
ونقف هنا وعلى وعد عزيزي القارئ لن أتركك قبل الوصول لنهاية سطور الرحلة داخل كتاب علاقات خطرة وفكر مؤلِّفه وعصارة خبرته وعلمه ....انتظرني في قراءات جديدة وسطور كتاب داخل كتاب تُحلل وتُفسِّر وتستنتج كيف نعيش الحياة وماذا يوجد بداخلنا لنتعرف عليه ؟ هل هناك الجديد؟ إن أردت أن تعرف انتظرني في قراءة أخرى..

أخبار متعلقة :