بوابة صوت بلادى بأمريكا

المدقريّ ..تقديس الاحتفاء (٣) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني

ليس الكتابُ الذي أنوي أن يكتمل سيرةً ذاتية، لكنّه أحداثٌ تعتمد على السيرة، يختلط فيها الحاضر بالماضي، وتتشابك فيها الأفكار بالذكريات، يمكن أن يكون كاشفاً عن ثقافات متعددة، مؤرخاً لحيوات أناس عاشرتهم، واصفاً لحقبة زمنية انقطعت فيها الترجمة الحية للأشخاص عن قرب، وأرجو أن يؤدي الكتاب مهمته الأساسية التي أفصحت عنها كثيراً. إنني أضع هذه الذكريات لأخلص نفسي من دين في عنقي يجب ألا تنسيني الأيام أداءه، فقد أسدى صفوة إليّ كثيراً من المعروف، ولم أجد سبيلًا للاعتراف بالعرفان إلا تخليد ذكراهم لتعرف الأجيال الناشئة كيف تجسدت الأخلاق والمعارف في سيرة أشخاص؟! فإذا ما كتبتُ عن هؤلاء الكبار كأن حملًا ثقيلًا يلقى عن كاهلي، ولعلّ في ذكرهم تخفيفاً لي من هذا الهاجس الذي يعيش معي كظلي. لقد وقعت فريسة للذكريات، لم يكن تعبي من الحاضر أو المستقبل اللذين يشغلان بطبيعة الحال أذهان العامة والخاصة، بل تعبت من تذكر الحياة التي كنت أخوضها، هذا التعب الذي يمثل حب العودة والهروب إلى الماضي بجميع حيثياته، أعيش مع الأموات الأحياء، هي العيشة المفيدة الهادئة، فالحياة لا تلذ إلا بذكرياتها، وخيرُ ذكرياتٍ ما ارتبط بالقدوة الصالحة، لقد بات هذا الشعور ملازماً لي، ذلك أنني حصلت من الماضي على أقصى ما في وسعي أن أحصل عليه من الحاضر أو المستقبل، صحبت اللامعين من الأساتذة والمشهورين، وخضت أحاديث كثيرة مع الأذكياء من المثقفين والكتّاب، عندي بسبب هذه الصداقات مئات الحكايات وعشرات الأحداث والقصص، كنت أنتهز كل فرصة يجود بها الوقت للتمتع بلقاء هؤلاء الأعلام، أتتبع آثارهم بشغف ما بعده شغف، وأطالع إنتاجهم المعرفي فيعلق في ذهني الأشياء الكثيرة منه، بلغت أقصى ما تمنيت، ألا وهو الاتصال بالحياة في شكلها العملي الإيجابي، وبعد هذه السنوات الطويلة أستطيع أن أتذكر هؤلاء الناس الذين صحبتهم تذكراً دقيقاً يمكنني من رسم صور قريبة عن حيواتهم، أصبح يؤرقني أني لا أجد وقتاً يتيح لي أن أسجل المزيد من علاقاتي بالشخوص، لي مع كل قامة علمية وثقافية ذكريات، أتذكر كل مدينة زرتها، أعرف كثيراً من العادات والتقاليد، تزاحمني الأفكار بشدة، وتحاصرني الأفعال بأربها، لقد كانت تلك الصداقات التي أنشأتها سبيل سعادتي، وفي نفس الوقت قد أشعر في كثير من الأحايين بضيق، أصبو إلى طراز مختلف من الحياة لكني لا أدري كيف ألتمس ذلك، إن ما أعنيه حقاً هو الخلود لهؤلاء الصفوة، فقد عرفت في حياتي أناساً من العظماء وقعوا فريسة للنسيان، وقد كان لهم دور في عالم الناس يفوق بكثير ما أتيح لغيرهم، بل إني أعتقد اعتقاداً جازماً أن من بينهم عباقرة وجدوا ليكونوا شخصيات تاريخية، لكن واقعنا لم يصيرهم لامعين على نحو ما يكون لغيرهم، لم أستطع أن أكتشف في بعض الأسماء المشهورة على الساحة الثقافية أية مقدرة مرموقة أو ألمعية عقلية أو عبقرية وهاجة تجعلهم في تلك الدرجات العظيمة من الاحتفاء بهم، خطر لي كثيراً أنهم بلغوا مراتبهم بسبب المصالح الشخصية، ومعظم الجمهور لديهم شهوة هائجة للارتباط بمن ينفعهم، أين تلك القامات الفكرية التي كانت تزين الصحف في أيام الثقافة الهادفة؟ أين تلك الكتابة التي كانت تنبعث من الوجدان فتفعل بالنفوس فعل السحر في صقل العقول وترقيق الأحاسيس؟ الكتابة الجادة أين ذهبت فلم يعد لها وجود؟ لقد كان لنا في الماضي ثروة غنية من الأقلام الكبيرة، لست أدري إن كان في وسعي أن أكتب كل ما أعرفه عن هؤلاء العظماء الذين تعرفت عليهم، لا يخامرني أي شك في أهمية ذلك في عصر لم يتجشم أهله مشقة الكتابة عن رواد كثيرين سوى قلة تكتب من حين لآخر، وإنّي لأستغرب كيف نتجاهل كثيراً من الروّاد، وبسبب غياب الوعي بأهمية رصد هذا الاتجاه أرى من الطبيعي جداً ألا يمنح عالم التاريخ أو الأدب أعمالي أهمية كبيرة، لكنّ بهجة بقاء الكلمة تبدو هي المحرك الأساسي للحفاظ على نهجي، فأنظر إلى حياة الكتابة نظرة العاشق المدله، أحبها محاربة أو موالية، مهلكة أو مخلصة. ثمة ذكريات تظل راقدة لأعوام طوال تندثر تفاصيلها وتختبئ في ركن منزو من رحاب الروح غير أن موقفاً جديداً يستدعيها، أو لحظة عابرها توقظها، تطل على الحاضر حية جلية، فيبعثها إلى الوجود تسطيرها، يخيل إليّ أن كتابة السيرة المرتبطة بالكبار قد تجددني، تلك الكتابة تفصلني عن مشكلات الحياة التي تضايقني، لقد دأبتُ على الكتابة عن الشخصيات منذ مدة طويلة، وجدت في ذلك جمالًا وخيالًا أعيش بهما، لم تأسرني حياة الناس العادية السهلة التي لا تخلو من أيّ محاولة للبقاء، يثيرني أن أصادف أناساً غرباء من حين لآخر أنهل من معين تجاربهم، أستمع إلى قصصهم، وأصغو إلى أحاديثهم، وأسعد من ذلك أن أتعرف على عظماء يزودونني بعنصر المفاجأة المبهجة. كثيراً ما أشعر أني مدفوع إلى كتابة تلك الذكريات، والتركيز على الانطباعات الشخصية والمواقف التي أرى أنه يمكن توظيفها في الجانب الأخلاقي أو الحضاري، لا أملك البعد عن الكتابة أو إرجاءها، فهي بالنسبة لي الشفاء من كلّ سقم، أجلس إلى ورقي في أماكن مختلفة، لا أهتم بالأماكن غالباً، أشعر بتزاحم في الرؤى، أنفتح على أمداد الحياة ورياحها، أترك الأفكار تأتي إلي في لحظات يقظتي وشرودي، أكتب سطراً واحداً ولا أدري أين يمضي بي، لا أنتهي حتى تسود هذه الصفحات البيضاء، فكم أشعر بالارتياح إذ أنصرف إلى الكتابة، أتعهدها بعناية مفرطة، قد تضيع عليّ بسببها بعض مباهج الحياة، لأنها معرضة للذبول، فكانت أولى أن تسخر كلّ القوى الذهنية لأجل بقائها. ليس أجلّ من متعة القراءة إلا الكتابة، فهي العذاب العذب والضياء النفساني، هي مدار الحياة ومركز الإبداع!

أخبار متعلقة :