بوابة صوت بلادى بأمريكا

الراحل سيد عويس والإعلام الشعبي بقلم مدحت بشاى

 
 
مع كل حدث يهز الرأى العام فى بلادى يرى فيه أهالينا فى الشارع أنه فى تفاصيله ودوافعه المجهولة والغريبة ومؤشراته المخيفة أو على الأقل التى تطرح علامات استفهام لم تطرح من قبل.. فى كل مرة يحدث هذا يصرخ أهل الرأى، يسألون: أين علماء الاجتماع؟.. أين مراكز البحوث؟.. لماذا غابت أدوار وجهود مركز البحوث الاجتماعية والجنائية فى الفترة الأخيرة بعد أن كانت متابعاته وتقاريره البديعة ملء السمع والبصر؟.. هل هناك تغييرات فى الهوية الاجتماعية تحدث؟.. وهل تُنذر بمخاطر ينبغى التأمل فيها لمعالجتها؟
"عندما يموت مُعمر إفريقى، فكأنما احترقت مكتبة تحوى ألف كتاب".. هكذا افتتح الشاعر والباحث " مسعود شومان " حديثه عن عالم الاجتماع المصرى الراحل الدكتور" سيد عويس " وكتابه " هتاف الصامتين "، خلال إحدى الندوات الثقافية ، وأشار إلى أن سيد عويس بدأ إجراء دراسته المعنونة بـ "هتاف الصامتين" ، فى سبتمبر عام 1967، أى فى أعقاب هزيمة يونيو، محاولًا البحث فى فكرة تجذير الهوية الثقافية، وقد حاول "عويس" عبر دراسته ، قراءة كيف يعبر الشعب المصرى عن أفراحه وأتراحه، وعن مخاوفه وأمنياته، من خلال رصد العبارات التى يدونها سائقو المركبات على مركباتهم فى عدد من محافظات مصر، حيث طاف بإحدى عشرة محافظة جمع منها تلك العبارات...
ويُعد كتاب " هتاف الصامتين " فتحًا فى مجال دراسات إنثربولوجيا اللغة ، إذ تُعد تلك العبارات المدونة على المركبات بمثابة وسيلة إعلامية، وصفها "عويس" بالإعلام الشعبى، يعبر من خلالها هؤلاء الصامتون عن أنفسهم ، وتمتد تلك الوسيلة الإعلامية لتعبر عن تلك الجماعات عند رفع صوتهم للصلاة، أو الدعاء فى حلقات الذكر، وفى الهتاف بملاعب كرة القدم، أو فى الملاهى والبارات وفى الشوارع، كما يهتف الصامتون عبر الرسم على الحوائط، والكتابة على الجدران حتى داخل دورات المياه.
يرى علماء الاجتماع أن الاتجاه إلى الأولياء والقديسين وذوى الكرامات فى الشكوى أو الطلب على النحو الذي نتابعه في دور العبادة ظاهرة باتت لا تتسق ولا تناسب أو تليق بمجتمع معاصر يقرر البشر فيه طريقهم إلى المستقبل المأمول، والمضى فى سبيله الطامح لدعم إرادة الإنسان فى صنع الحياة، والسعى بحماس لاعتماد منهج التفكير العلمى وتطبيقاته، وإعمال الفكر الرشيد واستثمار الخبرات الإيجابية باعتبارها وسيلته فى تحقيق الأهداف ومواجهة المشكلات  عبر الاشتباك الإيجابي مع معطياتها بجدية ..
وإذا كانت مثل هذه الظواهر تمثل جوانب من ميراث لازال لها ظلال على أرض الواقع، فإن مهمة البحث الاجتماعى أن يتصدى لهذه الظلال الرمادية المؤسفة بالدراسة والتحليل للإجابة عن السؤال: لماذا بقيت هذه الظلال قائمة؟ وأين مواقعها؟ وما مدى آثارها المعوقة؟ وهل هى تتجدد وتغادر مناطق الظل إلى النور وأرض الواقع؟ وكيف يمكن التصدى والمعالجة على هدى من المعرفة والفاعلية والتماهى مع ثقافة العلم؟
وفى نطاق الجانب الأول تقع دراسة الدكتور " عويس" حول ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعى، وهذه الظاهرة على حد تعبيره " أسلوب ساذج، أسلوب غير علمى، أسلوب خلقه نوع من الإيمان مبنى على أسس يؤمن بها هؤلاء الناس، حول قضايا تملأ المناخ الاجتماعى الذى يعيشون فيه " ومن واجبنا فى هذه المرحلة من حياتنا أن نوجه عناية خاصة إلى حركة واقعنا الاجتماعى وخاصة حركة التدافع والصراع بين القوى الاجتماعية والفكرية التى تمثل التجديد وتلك التى تمثل الجمود، وتعتبر هذه الدراسة الجادة التى نعرض لها الدراسة العلمية الثانية لبعض ظواهر واقعنا الاجتماعى، وقد سبقها زمنيًا كتاب " التفكير الخرافى "  للدكتور نجيب إسكندر ورشدى فام.
يقول الأديب والناقد والبرلماني " شعبان يوسف " حول مسيرة " عويس " عندما بدأ عالم الاجتماع الراحل كتابة سيرته الذاتية وضع أمام القارئ سلسلة من المحاذير التى تجعله يفكر فيما يطرحه عليه من أحداث وأقوال ومواقف كثيرة مرت بحياته التى بدأت فى 17 فبراير عام 1913، واعتبر "عويس "  أن هذه الكتابة التى تحمل عنوانًا مثيرًا ولافتًا وهو: «التاريخ الذى أحمله على ظهرى»، وصدر عن «دار الهلال» العتيدة فى ثلاثة أجزاء عام 1986، أى قبل رحيله بعامين، ولم يطلق «عويس» على هذه الكتابة «سيرة ذاتية»، ولكنه قال إنها دراسة حالة، وهو سوف يقرأ حياته كما يقرأ حياة الآخرين، ويضع المقدمات والعوائق التى واجهت هذه الحالة المدروسة، ثم النتائج التى وصلت إليها تلك الحالة بعد كل هذه السنوات، وبالطبع هذا نوع من الموضوعية ربما يكون أنقذ عويس من الاستغراق فى مديح الذات وتمجيدها كما يفعل الآخرون، وإن كان «عويس» نفسه قال إن أى نفس لا تخلو من الهوى، ومن الممكن بسهولة ويسر أن تقع فى مزالق لا حصر لها، ولمن قرأ هذه الثلاثية سيتأكد أن ذات عويس لم تنحرف يمينًا أو يسارًا، كما كانت أبحاثه الثرية التى قدمها على مدى حياته ــ هذه الأبحاث الرائدة والميدانية، والتى تحتاج منا القراءة الأعمق والأشمل، وليتها تجد نشرًا كريمًا حتى تعم الفائدة على القارئ المصرى الذى يغرق فى تفاصيل الحياة دون أدلة وإجابات على أسئلة كبيرة ومعقدة وشائكة، كان عويس قد وضع منهجًا للإجابة عن هذه الأسئلة.

أخبار متعلقة :