يشهد التاريخ المصري المعاصر أن كل أنواع الفنون الستة المعروفة شكلت إحدى أهم أنماط القوة الناعمة المصرية والتى باتت جاذبة لأجيال كاملة من الشباب ، و أنها قد ساهمت بشكل رائع في تنمية الولاء الوطني لدى المواطن المصري وبغير توجيه سياسي في كثير من الأحيان، فضلاً عن تحقيق ريادة حقيقية في مجال دعم صناعة متميزة تحقق أعلى مردودات اقتصادية ، و ارتبط تأثير تلك القوة الناعمة ومدى انتشارها في محيطها الإقليمي في الفترات التي تميزت بوعي القيادة السياسية بأهمية الثقافة كظهير داعم لاستراتيجيتها الوطنية ، فقد شهدت فترة الخمسينات والسيتنيات تصدير لحركة الثقافة ونشرها خارج حدودها ، و قد تجلى ذلك على سبيل المثال في الإذاعة المصرية التي كانت تبث كافة برامجها حول بلغات متعددة وقد ساهم في تأسيس ودعم تلك القوة الناعمة وجود بنية أساسية ثقافية تمثلت في وجود دار للأوبرا المصرية والاستوديوهات السينمائية المتكاملة التجهيز ، ودور المسرح والسينما والمتاحف وقاعات العرض ومكتبة الإسكندرية ،ولأن تاريخ السينما يشهد بأهميتها كطرف أساسى فى تنمية الوعى الثقافى و الحس الفنى لدى المواطن ؛ فقد اختلف مؤرخو السينما المصرية حول تحديد نشأتها ، ولكنهم يرجحون أن أول عرض سينمائي كان في الإسكندرية يوم 6 يناير 1896 وفي القاهرة يوم 29 يناير من نفس السنة ، قامت صناعة السينما المصرية في ابتدائها علي أكتاف الأجانب ، وفي هذا الإطار أسهم الأرمن المصريون في عملية صناعة السينما المصرية بدء من الإنتاج مرورا بالتقنيات وانتهاء بالأداء ،و من هذه اللحظة كان الميلاد للسينما الأرمنية فى مصر و تلك الحكاية تستلزم تتبعها من البداية .
فلم يكن نجاح السينما المصرية متوقفا على الممثلين و المخرجين المصريين فقط بل كان للجالية الأرمنية نصيب كبير فى نجاح السينما المصرية عربيا و عالميا ؛ فللأرمن تاريخ طويل يمثل جزء أصيل من التاريخ والنسيج المصرى، حين احتضنت مصر الأرمن منذ قدومهم إليها وأصبحت وطنًا ثانيًا لهم، وكان لهم بصمات مؤثرة في نسيج المجتمع المصري ؛ لذلك نجد أن الأرمن لعبوا دورا هامًا فى الحياة الفنية فى مصر عندما أخذت المفاهيم السينمائية تنمو تدريجيا في مصر وطبيعيا لم ينفصل الأرمن القاطنون مصر عن هذه المنظومة ، ناهيك عن تمتعهم بالاستقرار النسبي والثراء والوعي الثقافي والحمية القومية والعلاقات الحميمة مع السلطات الحاكمة مما كانت عوامل دافعة للاستفادة منها ، بل وتوظيف الاختراع السينمائي كأداة صياغية تربوية – مع البعد الترفيهي- في وقت تتبلور فيه نزعتهم القومية و أقيم أول عرض للسينما الأرمنية في 13 مارس 1913 بالقاهرة ، وثاني عرض في 22 مارس بالإسكندرية كجزء من الأمسية الأدبية الثقافية بمناسبة تأسيس المسرح الأرمني، وخلال الاستراحات الفاصلة بين عرض فصول الفيلم غنت تاكوهي نجاريان بعض الأغنيات بمصاحبة الممثل أونيج فولتير ، وعزفت الأختان زابيل وشاكيه هودليان علي البيانو، والقي المؤرخ المسرحي شارسان محاضرة عن " المسرح الأرمني" وتحدث الممثل أرشاج بنجليان عن ممثلي المسرح الشرقي، وأنشد الممثل ينوفك شاهين شعرا.
فقد استفادت السينما الأرمنية من توافر بعض عوامل النجاح في الجالية الأرمنية المصرية مثل المصورين الفوتوغرافيين المهرة وأسطوات الزنكوغراف الذين يهيمنون علي سوق هذه الحرفة في المحيط المصري ومن هنا بدأت سيطرة الصبغة الأرمنية الخالصة قلبا وقالبا علي محتويات باكورة الذاكرة السينمائية الأرمنية التي كانت مصر محلا لميلادها، والجالية الأرمنية المصرية أبويها الشرعيين، وعاما 1912- 1913 تاريخا لميلادها، واتت هذه السينما أكلها وأثمرت عن نتائج أرمنية طيبة حيث ركّز أرمن مصر على العمل والتفوق في مجال صناعة السينما، وأسس هرانت ناصيبيان استديو يحمل اسمه وخصصه لتصوير الأفلام. كما نجح أوهان هاجوب في صناعة معدات التصوير السينمائي، أما في مجال هندسة المشاهد السينمائية فبرز اسم هاجوب أصلانيان الذي ارتاد حقل الإنتاج السينمائي مؤسساً شركة "أفلام نجمة الشرق".
لا ريب أن هناك علاقه تبادلية و طرديه بين الفن والمجتمع ، فالفن يساهم في صياغة روح وهوية المجتمع والعكس أيضا فالإثنان يؤثران علي بعضهما البعض… إن حضارات الشعوب وتقدمها تقاس بمدي الاهتمام بالفنون ولاشك أن الاهتمام في المرحلة القادمة بإثراء الوعي الفني والثقافي بات ضرورة في مواجهة أهل التشدد وأصحاب الفكر الظلامي و الطائفى ؛وعليه أرى أهمية العمل على زيادة عدد دور العرض السينمائي حتى تتناسب مع عدد السكان ، وزيادة عدد الأفلام المنتجة بنسبة 50% سنويًا ، و أنتقاء الموضوعات الهادفة و التى تخاطب العقل و الوجدان كما من شأنها الارتقاء ثقافيا فى قوالب فنية متنوعة كوميدية أو تراجيدية ؛ و الابتعاد عن افلام المقاولات الرخيصة للارتقاء بالذوق العام ؛ والاهتمام في المرحلة القادمة بإثراء الوعي الفني والثقافي و عودة التعاون المثمر مع الفنانين الأرمن لما لهم من نجاحات عظيمة فى هذا المجال ؛ علينا دعم الفنون ونشر قيم التسامح و العطاء و الإخاء و المساواة .
أخبار متعلقة :