انطفأ الأمل داخل عزرائيل وسأل حائراً خائفا :
- هل أجرؤ سيدي وأسأل ، ما دمت لن أسجن في سجون البشر ، ولا بين الأرض والسماء ، إلى أين سينتهي مصيري ؟!
- داخل جوف سمكة من أسماك الحوت الكبير ، ستكون هناك لأجل غير مسمى ، سأحدده في الوقت المناسب ، ستعيش معزولاً عن وظيفتك ، ستشاهد بعينيك هؤلاء المقدر لهم أن تبتلعهم هذه السمكة ، وستسأل وليس من حقك السؤال ، لماذا يموتون هذه الميتة ، ولكن هذا هو حكم القدر الذي لا يفهمه أو يدركه أحد سواي . صاح الحضور:
- مستوجب الحكم عزرائيل . حاول عزرائيل أن يتمالك نفسه سائلاً :
- عدل سيدي يدفع الجرأة إلى لساني لأسأل .. هل ستترك كل البشر يعيشون منذ الآن ، عدلك يعلم أن وظيفة قابض الأرواح ، لا ينفذها أحد سواي !!
- لقد تم تعيين من سيأخذ وظيفتك خلال فترة سجنك .
- هل من حقي أن أسأل من هو سيدي ؟ - سيلفيا والدة الطفل رونالد التي تقاعست عن أخذ روحها .
- أستغفرك سيدي عن سؤالي .. ما ذنبها ؟! صرخ الحضور بصوت عظيم :
- أنت تحت العقاب وليس من حقك السؤال عن حكمة العادل . انتفض عزرائيل :
- ومن الذي سينفذ بي عقاب السجن سيدي وأنا الذي كنت أنفذ حكم الموت على البشر؟
- أنت الذي ستنفذ العقاب في نفسك . - كيف سيدي ؟! - كان من المفروض أن تموت بنفس الطريقة التي كان من المفروض أن تموت بها سيلفيا ، لكن كما قلت أنت لست بشراً ، فاخترت لك السجن لأجل غير مسمى في جوف حوت كبير ، وستنفذ الحكم في نفسك بنفس الطريقة التي كان مقدراً لسيلفيا أن تموت بها ، أن تحلق بالطائرة وتسقطها في الماء وستجد في انتظارك سمكة الحوت ستقودك إلى زنزانة جوفها .
- فلتكن مشيئتك سيدي .
**********
اكتمل ركاب الطائرة البوينج الضخمة ، المتجهة من نيويورك إلى كاليفورنيا ، أُُغلقت الأبواب ، القائد ومساعده يتفقدان المسافرين قبل أن يدلفا لكابينة القيادة لتلقي أمر الإقلاع . فجأة تحركت الطائرة بسرعة مذهلة وبدأت في اتخاذ طريقها للفضاء ، اعترت الجميع نوبة من الذهول ، هرول القائد ومساعده نحو كابينة القيادة ، كادا أن يفقدا توازنهما عندما اكتشفا أن الكابينة مغلقة من الداخل . اضطرب المطار وشاع الذعر ، برج المراقبة يؤكد أنه لم يُصدر أمر الإقلاع للطائرة ويؤكد الأغرب بأن كابينة القيادة لا يوجد بها أحد ، وأن الطائرة تطير دون طيار . فشلت المحاولات المستمرة للإتصال بها ، الطائرة ترتفع بسرعة مذهلة لأعلى ولا يوجد بها من يجيب على محاولات برج المراقبة ، الذي لا يعلمه أحد أن عزرائيل هو قائد الطائرة .
رعد صوت داخل كابينة القيادة :
_ ما هذا الذي فعلته أيها الغبي !!
_ سيدي .. أنني أُنفذ أمرك ، ألم تأمرني بأن أنفذ في نفسي حكم السجن بنفس الطريقة التي كان من المفروض أن تموت بها سيلفيا .
_ نعم أمرتك بهذا ، لكني لم آمرك بأن تقبض أرواح هذا العدد الهائل من البشر الذي يحتل مقاعد الطائرة !!
_ أليست هذه وظيفتي سيدي ، أن أقبض أرواح البشر ؟
_ كانت وظيفتك أيها الغبي وجُردت منها ، ووقعت في الخطأ ثانية ، فهؤلاء الذين تطير بهم للموت لم تحن ساعة ولا واحد منهم بعد ، أنت تعلم بأنك تتلقى الأوامر للتنفيذ فقط ، وليس لك حق تحديد الأجل ، لن أعاقبك بعقاب آخر لأنك في طريقك إلى السجن ، لكن آمرك أن تعود بالطائرة لأرض المطار ثانية ، واحذر أن تصيب أحد الركاب حتى بخدش.
_ أمرك سيدي ، لكنك العدل ، ألا تعطيني هؤلاء الركاب أقبض أرواحهم كمكافأة لي بعد خدمتي الطويلة التي قضيتها في قبض أرواح البشر !! . لقد قلت لي بأن عدالة البشر تعفي أي محكوم عليه بالموت لو أخطأ منفذ الحكم في التنفيذ ولم يتمكن من أزهاق روحه ، وبأن عدالتك لا تقاس بجانب عدالة البشر ولهذا أنعمت على سيلفيا بأن تستمر في الحياة لأجل غير مسمى لأنني أخطأت في التنفيذ . أيضاً ياسيدي البشر يكافئون من أنهى خدمته ، وعدلك لن يغفل عن مكافأتي .
_ أنت تقول أنني العدل أيها الغبي ، فهل من العدل أن أسلمك أرواح لم تأت ساعتهم بعد ، وهل من العدل أن أكافئك على خدمة أنهيتها بمخالفة أمري ، مما سيترتب عنه أمور كانت لا يجب أن تحدث !! _ أرجوك سيدي ، أنعم علىَّ بهذه المكافأة البسيطة ، ودعني أهوي بالطائرة إلى المياه وأقبض أرواح هؤلاء الركاب ، حتى أذهب للسجن وأنا راض عن نفسي بأني ظللت لآخر لحظة أؤدي واجبي على خير ما يكون .
_ أهبط بالطائرة أيها الغبي بسلام لأرض المطار ودع هؤلاء البشر يعودون لأعمالهم وأسرهم.
_ لتكن مشيئتك سيدي .
عادت الطائرة ثانية للأرض وسط موجة من الذعر لركابها والعامليون بالمطار. بمجرد توقفها اندفع إليها رجال الشرطة والأمن وهم في دهشة لا يُعبر عنها ، احتلت دهشة أعمق فوق الوجوه عندما وُجد باب الكابينة مفتوحاً ولا يوجد بداخلها أحد ، المنظر المثير للضحك للقائد ومساعده وهما يجلسان مع المسافرين.
لم يستطع أحد تقديم جواباً مقنعاً لما حدث ، اندفع الركاب وهم يقسمون بأنهم لن يعودوا إليها ، تصدرت الصحف عناوين تجمع بين الدهشة والتهكم ، بأن العفاريت أصبحت تقود الطائرات .
*******
عودة إلى سيلفيا وطفلها رونالد ، التي كان من المفروض أن تنتهي حياتها ، لولا سنة نادرة من العاطفة والشفقة دفعت عزرائيل أن يتركها لطفلها مخالفاً الأوامر . تم إنزال مقعدها الذي علق بقمة شجرة من أشجار الغابة ، تم نقلهما سريعاً إلى أقرب مستشفى ، لتبرز هناك علامات دهشة أكبر فوق وجوه الأطباء ، الكسر الذي أصاب ساق سيلفيا نتيجة اصطدام المقعد بقمة الشجرة التحم ولم تبق منه سوى أثار ، التحمت العظام تماماً كما لو كان هذا الكسر مضت عليه سنوات ، ظن الأطباء في البداية أنها أثاراً لكسر قديم ، إستولت الدهشة على الجميع ، عندما أخبرتهم سيلفيا أنها أبداً لم تصب بأي كسر ، عجزوا عن تقديم أي تفسير أو إجابة ، لكن التعليق المازح لأحد الأطباء أثار في داخلهم موجة من الارتياح وكأنهم وجدوا فيه الإجابة الشافية عندما هتف بصوت عال : تتعجبون لالتحام الكسر في ساعات معدودة ولا تتعجبون لمعجزة بقاءها على قيد الحياة هي وطفلها . عادت سيلفيا وطفلها رونالد في نفس الليلة إلى المنزل ، بعد أن أكد تقرير الأطباء بأن ليس بهما ما يستدعي المكوث بالمستشفى . جورج تيري زوجها ووالد رونالد كان كشخص مغيب عن الوعي ، غير مصدق لما حدث ، كشف له هذا الحادث عن حقيقة شعوره نحو زوجته وبأنه لا يزال يحبها ، وأن الخلافات بينهما في الفترة الأخيرة لم تؤثر على هذا الحب . صارحها ببساطة بحقيقة شعوره ووجد لديها نفس المشاعر ، تغيرت نظرتها تماماً نحو صديقها الأناني وقررت قطع علاقتها به تماما ، عادت إليهما السعادة مضاعفة. بدأت سيلفيا عهداً جديداً . إستيقظت في الصباح التالي وكلها نشاط ومرح . من يقابله الموت ويفلت من براثنه ، يكون إحساسه بالحياة مضاعفاً ، وقد تتغير حياته بالكامل ، هذا ما حدث مع سيلفيا ، نبذت كل أخطاء الماضي ، أقبلت على بيتها وزوجها بروح متجددة ً.
استقلت سيارتها للذهاب للسوق ، تاركة طفلها وزوجها يغطان في النوم ، قررت أن تسهر على سعادتهما ، يجب أن يستيقظ جورج فيجد أنها بكرت بالذهاب إلى السوق لتعد له إفطاراً رائعاً ، انتهت من تسوقها وعادت لسيارتها ، احتقنت الدهشة فوق وجهها وهي تشاهد رجلاً غريباًُ يجلس بداخلها ، تذكرت أنها أغلقت أبواب السيارة جيداً فكيف نفذ هذا الغريب إلى داخلها ، اقتربت من السيارة وأطلت من زجاج النافذة المفتوح بجانبه وقالت بصوت غاضب مندهش :
_هل لك أن تخبرني بحق السماء ماذا تفعل داخل سيارتي ؟!
_ يمكن أن أكون ضيفاً خفيفاً ، ويمكن أن أكون ضيفاً ثقيلاً ، فأيهما تختارين؟
أجابت سيلفيا وصوت غضبها يزداد حدة :
_ لا هذا ولا ذاك .. فقط أخرج من سيارتي .
_ وإذا رفضت .. قال الغريب بهدوء !!
_ أعتقد أنه يمكنني أن أنادي الشرطي الذي يقف على قارعة الطريق ، لتصبح ضيفاً على الزنزانة ففيها متسعأ أفضل من سيارتي .
حدق الغريب في عينيها وقال وهو لا يزال على هدوئه :
_ إصعدي إلى السيارة وقوديها ولا تكثري من الثرثرة . شعور انتابها بأنها مسلوبة الإرادة تماماً ، رفعت نظرها عن وجهه بصعوبة وكأنه مشدودا إلى عينيه ، دارت حول السيارة صامتة وجلست إلى عجلة القيادة وأدارت المحرك ، لم ينتظر الغريب وأصدر أمره فوراً :
_ توجهي إلى الغابة التي تقع على طرف المدينة .
كأنها في حلم ، لم تلفظ بكلمة واحدة ، قادت السيارة ووجهتها نحو الغابة كما أمرها الغريب ، سمعت صوته الآمر كما لو كان قادماً من عالم آخر يأمرها بالوقوف والهبوط والتوغل داخل الغابة ، أطاعت دون أدنى اعتراض مشلولة العقل والتفكير ، قطعت مسافة قبل أن يأمرها الغريب بالتوقف والجلوس فوق العشب . وجدت في داخلها بعض القوة وسألته :
_ من أنت ؟! ابتسم الغريب لأول مرة وأجاب بصوته الهاديء : _أنا لست بشراً ، وليس لك الحق أن تعيدي سؤالك .. من أكون !! شعرت سيلفيا بخوف طاغ يلفها بعباءة من الرعشة ، تكورت على نفسها فوق العشب وكأنها تحمي بعضها ببعضها ، لم تستطع أن ترفع بصرها نحوه ، سمعت صوته وكأنه آت من واد سحيق : _التمس لك العذر في خوفك ، خاصة أنه لم يمض سوى يوم واحد وزمككعلى نجاتك من الموت عندما اصطدمت الطائرة التي كنت بداخلها بأشجار الغابة ، كان من المفروض أن تكوني خارج الحياة الآن ، الحظ حالفك محالفة لأول مرة يحدث مثلها منذ بداية البشرية . أخطأ عزرائيل في حساباته ، ظن أنه بإبقائك على قيد الحياة من أجل طفلك رونالد يفعل خيراً ، بالرغم من أن رونالد هو الوحيد الذي كان من المفروض أن ينجو من حادثة الطائرة . لحظة غاب فيها عقله ونسى حكمة الخالق و تصرف على هذا النحو وكان سلوكه وبالاً عليه ، عوقب عقاباً شديداً ، أوقف عن وظيفته وسينفذ حكم السجن في نفسه . نجوتِ أنتِ وسيأخذ مكانك في عربة الموت ، فالعزل من وظيفته حتى لو كان مؤقتاً يعتبر حكماً بالموت بالنسبة له والعدل يقول أنك تأخذين وظيفته .
وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة :
أخبار متعلقة :