بوابة صوت بلادى بأمريكا

أ.د صبري أبو حسين يكتب: الشيخ الإمام عبدالمجيد سليم: تكوينه وتأثيره(2)

   

في المقال السابق علمنا أن الشيخ عبدالمجيد سليم[13/10/1882-7/10/1954م] إمام أزهري رزق موهبة فذة في تلقي العلوم الأصيلة، وأخذ العلم عن كبار الشيوخ في زمانه أمثال الشيخ أحمد أبو خطوة(ت 1906م)، والشيخ حسن الطويل (ت1899م)، والشيخ والزعيم والإمام محمد عبده(ت1905م)، رحمهم الله تعالى.ومن ثم صار شيخنا نسخة فريدة متطورة منهم، فلم يكن بالمقلد المتوقف على ما قاله شيوخه، بل كان المجتهد المستنير بآراء السابقين والمعاصرين إياه، على النحو الذي نلحظه في تتبع مسيرته العلمية عبر جهوده وجهاده في مجالات التعليم والقضاء والإفتاء والبحث، والأدلة على ذلك في السرد الآتي لمراحل حياته مع علوم الفقه والشريعة:

  1. الفقيه الشاب الماهر:

تدرج الإمام الشيخ عبدالمجيد سليم-رحمه الله تعالى- في مراحل التعليم الأزهري حتى حصل على شهادة العالمية، وعيِّن بعد تخرجه مدرسًا للفقه والأصول. و لا ريب في أن تدريس أصول الفقه من معلم ناشئ ليس بالأمر الهين، وإنما يدل على نبوغه العلمي المبكر ومدى رسوخ قدمه فيه. وقد ذاع صيته فاختاره عاطف باشا بركات -ناظر مدرسة القضاء الشرعي- لتدريس الفقه والأصول بهذه المدرسة العالية، حيث لم يكن ثمة كلية شريعة ولا جامعة، وبذلك صار زميلاً لمن كانوا أساتذة له بالأمس ولكنه نال احترامهم وتقديرهم.

  1. الفقيه الوسطي المنفتح:

كان الإمام الشيخ عبدالمجيد سليم-رحمه الله تعالى- ذا موهبة تشريعيَّة قائمة علي العلم العميق، وعلي الإلمام بآراء كبار الأئمَّة والفقهاء ورجال القانون،وحينما سئل عن منهجه في الإفتاء أجاب (يرحمه الله): "أنا لا أتقيد بالمذاهب الأربعة، ولكني لا أخرج فيما أفتي به عن مذاهب العلماء من السلف، والسبب في ذلك أن الفقه الإسلامي غني جدًّا بأقوال العلماء وآرائهم، فلا تكاد مسألة من المسائل إلا قد تعددت فيها آراء الفقهاء، بحيث لا تستطيع أن تجزم بأن رأيًا تراه لم يقل به أحد من العلماء من قبل، فليس على الناظر في هذه الثروة الطائلة إلا أن يختار أرجحها مصلحةً، وأقواها دليلاً، وأشبهها بروح الشريعة، وهذا الذي أسير عليه".

وهذه الإجابة تدل على منهج جديد طريف حيث الالتزام بهذا الثلاثي السمح الجميل المريح في الفقه والفتوى: (المصلحة والدليل وروح الشريعة) ، وقد ازداد حضور هذا المنهج بعد شيخنا-رحمه الله- وصار نهج الأزهر الشريف مؤسسة ومشيخة وشيوخًا، جامعًا وجامعًا ومجمعًا؛ فقد انتقلنا من الفقه المذهبي الأحادي، والتعصب للمذهب، إلى الفقه الوسطي المعتمد على تعدد الرؤى، والانفتاح على كل مقولات السلف الصالح الصحيحة، والمنطلق من مرجعية عتيقة والمستنير بقراءة الواقع والمستجدات، والناظر في الأولويات، وما يؤول إليه كل حكم وكل قضاء وكل فتوى وكل رأي، بهدف إصابة الحق واختيار الأفضل!

قال الإمام الشاطبي في آخر كتاب الاعتصام: "إِذًا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ الرجال، فالحق أيضاً لا يعرف دون وساطتهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلة على طريقه" ففي ذلك العلاج الناجع لأمراض وعلل أصابت الفكر الديني، بسب  محاولة فرض المذهب الواحد الذي قضى على مكمن القوة في أمة الإسلام، ووضعها في ذيل الأمم، وجمد برسالة الإسلام وعلومه ودعوته عند حدود التعبد بمذهب واحد، واعتقاد معين، وأشكال ورسوم يراها المتعصبون الدين الذي لا دين غيره.وهؤلاء يهددون سماحة هذا الدين الحنيف وشريعته التي تأسست على التعددية، واختلاف الرأي في حرية لا نعرف لها نظيرًا في الشرائع الأخرى، كما يقول ويقرر ويكرر شيخنا الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، حفظه الله، في غير حوار من حواراته الصحفية، وفي غير حديث من أحاديثه الإذاعية والتلفازية، وفي غير مقال بكتبه العديدة.

 

  1. الفقيهُ المُعلِّم المُطوِّر:

 شغل شيخنا –رحمه الله-مناصب التدريس في المعاهد الدينيَّة، مع التدريس لطلبة مدرسة القضاء الشرعي لمادتي الفقه وأصوله، كما ولي القضاء ثم الإفتاء، ثم عُهد إليه بالإشراف على الدراسات العليا في الأزهر الجامعي، ثم عُيِّن مفتيًا للديار المصرية في 22 من مايو 1928م، وظل يباشر شؤون الإفتاء قرابة عشرين سنة. ثم تولى مشيخة الأزهر أول مرة في 8  أكتوبر سنة 1950م، ثم استقال من منصبه في 4 سبتمبر 1951م، غضبا لكرامة المشيخة بعد خفض ميزانيتها دون علمه، ثم تولى المشيخة ثانية في 10 فبراير 1952م، واستقال في 17 سبتمبر 1952م. وقد تُوفى صباح الخميس، 7 أكتوبر 1954م.

ولا ريب أن كل هذه الوظائف والأعمال الفقهية والعلمية كونت منه شخصًا خاصًّا؛ فقد استفاد من التدريس غزارةَ العلم، ومُداومة البحث والاطِّلاع، وبراعة الأداء، كما استفاد من القضاء دقَّةَ البحث وتحرِّي الحق، والاعتماد علي الأدلَّة العقلية والعلمية، واستفاد من الإفتاء عمق الدراسة وتتبُّع الآراء الفقهيَّة في شتَّي المذاهب أو الأخذ منها بما يتَّفق وروح الشريعة الغرَّاء.

وفي هذا يقول رئيس محكمة الاستئناف محمد محمود في رثاء الإمام: “لقد كان المرحوم الشيخ عبدالمجيد سليم في هذه اللجنة –لجنة تشريعية لإصلاح قانون الأحوال الشخصية- هو القطب اللامع، والحركة الدائمة، وكان يأخذ الكلمة فيتولى شرح الموضوعات والمسائل الواحدة بعد الأخرى، مستعرضًا شتَّى الآراء، ومختلف الصور في كل مذهب، مقررًا حكم الشرع، ذاكرًا رأي الأئمَّة والمجتهدين والفقهاء المؤلِّفين، مسايرًا روح العصر، وهو في هذا كلِّه بحر متدفِّق، متحريًّا أسس الشريعة الغرَّاء وأهدافها، مع مُراعاة أحوال الناس، وظروف العصر، مؤيِّدًا رأيه بالأدلَّة العقليَّة، والبراهين المنطقيَّة؛ فلا يدع مجالاً لأحدٍ أنْ يُعقِّب بشيء.
فصار الشيخ –رحمه الله- الفقيه الأكبر في زمانه، لا سيما في مرحلة شيخوخته، ذلك الذي يمثل لمعاصريه وطلابه المرجعية العليا، والشيخ الذي يحضر الفقه في عقله وينطلق على لسانه، ويعرف أسراره ومفاهيمه ومصادره ومراجعه، ويدرك مفتاح ما انبهم من نصوصه وما انغلق منها!

  1. الفقيه المفتي:

 كانت شهرة شيخنا –رحمه الله- العلمية سببًا في توليه منصب "مفتي الديار المصرية" زهاء سبعة عشر عامًا، أصدر خلالها عددًا هائلاً من الفتاوى، [جاء في الإحصاء المدون في الجزء الأول من الفتاوى الإسلامية(صفحة 32)،مما يدل على أن الشيخ عبدالمجيد سليم كتب (15792) فتوى مدونة في السجلات الخاصة على مدى سبعة عشر عامًا. ثم تولى بعدها رئاسة لجنة الفتوى بالأزهر فأصدر عشرات الفتاوى، منها ما نشر في مجلة الأزهر ومنها ما لم ينشر، بخلاف فتاواه الخاصة لمن يطلبها من معارفه ومحبيه، وهذا ما جعل قارئًا هذا الكم من فتاويه يقول متعجبًا: "أيّ فقيه كان ذلك الرجل! وكم أفاد عباد الله بما أفتى في دين الله على المذاهب المتعددة؟!".
وإن قراءة متعمقة في نصوص هذه الفتاوى لَتُوقفنا على شيخ ضُلَعة ثبْت فذٍّ، متمكِّن من تخصصه العلمي، صريح أصيل جريء، لا يخشى في الله -تعالى- لومة لائم، ولا يقول إلا الحق، ولا يفتي إلا بالحق أمام البشر جميعًا، بلا تفريق بين حكام أو محكومين، أو سادة أو مسودين!

إن شيخنا –رحمه الله- عبر فتاويه كلها- ينطلق مما قرره العلماء الأسلاف من أن مسؤولية المفتي مسؤولية عظيمة؛ فالمفتي إناء للعلم الشرعي، وهو أمانة وكله الله –تعالى-بحفظها ونشرها، وأمر عباده أن يسألوهم عما أشكل عليهم، قال الله -سبحانه-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43]، فالمفتي موقِّع عن رب العالمين، وقائم في الأمة مقام سيد المرسلين- صلى الله عليه وسلم- ونائب عنه في تبليغ الدين، وبيان الأحكام، فجدير بمن اختاره الله وعلَّمه وأقامه في هذا المنصب أن يستعين بالله، ويُعِدّ للأمر عُدته، ويأخذ له أهبته، حتى يقول الحق ويقرره بكل ثبات ووضوح وجهارة...وهذا ما نتعرف على أدلته من فتاوى شيخنا-رحمه الله- في المقال الآتي، إن شاء الله تعالى.  

 

   

أ.د/صبري أبو حسين

أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات

 

 

أخبار متعلقة :