" إن سوريا لم توصد أبوابها دون الأمم الغريبة , فقد امتزجت بالغرباء دماً وطباعاً "
*Pliny
وردت أخبار سكان سوريا القدماء , في الكتاب المقدس (التوراة والانجيل) وفي تفاسيرهما وشروحهما . وتحدثت عنهم كتابات الشعوب المجاورة لهم من أشورين وكنعانيين وحثيين ومصريين وما كتبه المؤرخون اليونان ومنهم بشكل خاص هيرودوت (القرن 5 ق م ) وثيوفرات ( القرن 3 ق م) وسترابون ( القرن الأول ق م ) وما كتبه الكاتب الفينيقي فيلون الجبيلي (100 ق م ) كما أن المكتشفات الأثرية من نصوص مكتوبة ونقوش ومعابد وغيرها , تمدنا بالكثير من المعلومات عن أولئك السكان .
الاستيطان الاول
كانت بلاد كنعان مسكونة منذ أقدم العصور , وتدل علي ذلك الأثار المكتشفة في التلال والكهوف وبقايا المدن الدراسة في مختلف المناطق .
وأول وجود مؤكد للإنسان في سوريا يعود إلي حوالي مليون سنة خلت وقد وجدت أثار هذا الأنسان في موقع (ست مرخو) في حوض النهر الكبير الشمالي علي الساحل السوري قرب مدينة اللاذقية ومنذ ذلك الزمان يستمر الانسان في العيش في منطقة الساحل السوري عبر مراحل ما قبل التاريخ وتدل علي ذلك المواقع الكثيرة المنتشرة علي ضفتي النهر الكبير الشمالي وبمحاذاة الساحل نفسه وهي تقارب الخمسين موقعاً.
وقد مر زمن طويل بقي فيه انسان سوريا الاول مكتفياً بمنطقتي الساحل السوري وحوض نهر العاصي ثم بدأ بالانتقال شرقاً بأتجاه حوض نهر الفرات وباقي المناطق السورية وقد ساعد المناخ المعتدل وخصوبة الارض وتوفر المياه علي نشوء القري الأولى التي تطورت منذ الألف العاشرة قبل الميلاد بوتائر متجانسة من فلسطين جنوباً حتي جنوب الأناضول شمالاً حيث تدخل المجتمعات في طور الزراعة وتدجين الحيوانات وذلك في الالف الثامنة قبل الميلاد ورافق ذلك نزوح الانسان من الكهوف الي البيوت المصنوعة من الطين والخشب والحجارة واقدم المستوطنات البشرية في التاريخ , كانت في سوريا وهي تعود الي الالف السادسة والالف الخامسة قبل الميلاد في أريحا وجبيل وأوغاريت .
وفي العصر الحجري الحديث منذ نحو 6000سنة قبل الميلاد وخلال ألفي سنة تالية, حصل تقدم ملحوظ في ميادين الزراعة , وتربية الحيوان , زاستعمال الادوات الحجرية , وقد اكتشف المعدن , واختراع دولاب الفاخورة , نحو 4000 سنة قبل الميلاد , وقد انتشر استعمال النحاس في الالف الرابعة قبل الميلاد , ونحو 3000 سنة قبل الميلاد عاصر النحاس ظهور الكتابة واكتشاف الحديد.
أصل الكنعانيين
الكنعانيون والفينيقيون تسميتان لشعب واحد واسم (كنعان) يعني (بلاد الارجوان ) وكان الارجوان (اللون الاحمر القاني ) صباغاً ثميناً , استخرجه الكنعانيون من نوع من الاصداف البحرية يسمي (الموريكس) وقد اطلق الاغريق علي الكنعانيين اسم ( فينيقيين) وعلي بلادهم اسم ( فينيقيا ) بعد أن احتكوا بهم عنصرياً وتجارياً وثقافياً , نحو عام (1200 ق.م) وقد ذكر الشاعر اليوناني القديم ( هوميروس) ( القرن 9 ق . م) اسم ( فينيكس) وقد استعمل اليونان هذا الاسم للدلالة علي الكنعانيين في سوريا وفي (انجيل مرقص 26:7 ) وردت كلمة (فينيقيا) عند الحديث عن امرأة (أممية في جنسها , فينيقية سورية)
ويسمي ( انجيل مني 22:5) تلك المرأة ( امرأة كنعانية ) وهناك قطعة نقدية اكتشفت في بيروت , تصف المدينة باللغة الكنعانية بأنها في (كنعان) وباللغة اليونانية بانها في ( فينيقيا ) .
استوطن الكنعانيون كل الساحل السوري وقسماً من الداخل , وقسماً من كينيكيا , وقسماً من جزيرة قبرص التي كانت جزيرة ( فينيقية – يونانية ) ويعتقد بعض المؤرخين , ان الكنعانيين نزحوا من بلاد اليمن الي الشمال .
وقد ذكر هيرودوت (القرن 5 ق م ) انهم جاؤوا من سواحل أرتيريا علي البحر الاحمر , الي سواحل البحر المتوسط .
وهناك اليوم نظرية حديثة ترجع أن هذا الشعب لم يصل مهاجراً من الخارج وانما تكونت الحضارة الكنعانية نتيجة اتحاد اقوام سامية عدة كانت تسكن هذه المنطقة أما المؤرخ فيلون الجبيلي ( 100 ق م ) فيؤكد ان الكنعانيين أصليون في ارضهم ليس فقط الاشخاص وانما الالهة ايضاً ويري ( استرابون وبليني ) أن الموطن الاصلي للكنعانيين , يقع علي ساحل الخليج العربي حيث وجدت أثار لمدن ومعابد كنعانية ويرى ( جوستينوس ) ان الكنعانيين شردوا من وطنهم بسبب هزة ارضية , واستقروا اولاً علي البحر السوري ( البحر الميت او بحيرة طبريا ) ثم انتقلوا الي سواحل البحر المتوسط .
ومن المعروف ان الكنعانيين انتشروا من الجنوب باتجاه الشمال وتشير النصوص المكتشفة في ( أوغاريت ) والتي تعود الي القرن (14 ق م) الي ان الكنعانيين قد نزحوا من شبه جزيرة سيناء أو النقب وتوسعوا باتجاه الشمال وهذا ما يقول به هيرودوت ايضاً انهم نزلوا في خليج العقبة قادمين من منطقة البحر الاحمر .
إن تنقلات الجماعات البشرية هنا وهناك وهجراتها القريبة أو البعيدة , او معروف منذ أقدم الازمنة وان نظرية ما يسمي ( موجات الهجرة السامية ) من شبه الجزيرة العربية , ( الي الهلال الخصيب ) وبالشكل الذي تم تصوره .
لدي بعض المؤرخين ومنهم الدكتور ( فيليب حتي ) بقيت تفتقر الي الادلة المادية القاطعة , ماعدا هجرة الأنباط والمناذرة , والهجرة الكبيرة التي تمت مع الفتح العربي الاسلامي , اما الباقي فهو حديث خرافة.
الموانئ الكنعانية
قبل الميلاد بالفين وخمسمائة سنة الموانئ الكنعانية التي هي الان في سوريا ولبنان وفلسطين , تتوالي كحبات العقد وكل منها مملكة مستقلة لها تاريخ وحضارة ويبدوا هذا الامر غريباً في تاريخ الانسان ومواقعها الجغرافية هي اساس هذه الحالة فهي قائمة علي شريط ضيق ممتد علي طول لا يتناسب مع العرض ويقول العالم الفرنسي ( أرنست رينان ) في كتابة (بعثةفينيقيا ص 836) عن الساحل السوري : -
" ان هذه البقعة من سوريا , لم تكن سوي سلسلة من المؤاني لكل منها ضاحية ضيقة " . فعلي الشواطئ السورية خلجان صغيرة وألسنة قصيرة وقد تأسست المدن حول الخلجان أو فوق الصخور مقطوعة الواحدة عن الاخري ( اوغاريت – داميتا – ارواد – جبيل – بيروت – راميتا - صيدا- صور- عكا ) وقد امتدت المدن الكنعانية الهامة في الداخل ( ادنة – طرسوس – حاصور- مجدو- بيسان – اريحا – اورشليم ) وقد ذكرت هذه المدن الساحلية والداخلية في رسائل تل العمارنة المصرية القديمة وفي كتاب العهد القديم ( التوراة).
التجارة البحرية
تاجر الكنعانيون بالصباغ الارجواني , والاقمشة المصبوغة به من الصوف والكتان وكان الكنعانيون اول امة بحرية في التاريخ وبين عامي ( 1200- 241 قبل الميلاد ) حول الكنعانيون البحر المتوسط الي بحيرة كنعانية سورية وبنوا اثنتين وسبعين مدينة منتشرة من تونس حتي شواطئ اسبانيا وشواطئ الاطلنطي وبني الكنعانيون المحطات التجارية في قبرص ومالطة واسبانيا وجنوب فرنسا وشمال افريقيا وحملوا اليها الخشب والقمح والزيت , والنبيذ والانسجة ,والصموغ والفخار ,والأدوات المعدنية, والأصبغة والعاج , اما مراكبهم فقد صنعوها باتقان واكتشفوا نجم الشمال واستخدموه في اسفارهم البحرية الليلية ووضعوا مصورات للخطوط البحرية وبحث الكنعانيون عن القصدير في اسبانيا والبرتغال والساحل الفرنسي ووصلوا الي ارلندا وبريطانيا وما الحجر المنقوش عليه باللغة الكنعانية ( ابجدية جبيل ) المكتشف في البرازيل الا دليل وصولهم الي امريكا في القرن السادس قبل الميلاد اي قبل ( كولومبس ) بالفي عام .
ديانة الكنعانيين
ان المصادر التي تتحدث عن ديانة الكنعانيين متنوعة منها ما اكتشفه علماء الاثار من نقوش كثيرة وجدوها في فينيقيا وهناك مصدر هام مباشر هو ماكتبه ( سنخونياتون ) الذي كان كاهناً فينيقياً من مدينة بيروت عاش في القرن الحادي عشر قبل الميلاد ويخبرنا ( فيلون الجبيلي ) المؤرخ والكاتب الفينيقي الذي ولد حوالي عام 42 للميلاد ( نقلاً عن سنخونياتون ) ان هذا الاخير قد عرض للعقائد الفينيقية المتعلقة بخلق العالم وقد وصف الالهة والميثولوجيا الفينيقية وصفاً مستفيضاً حيث تحدث عن اصل الكون واصل الثقافة ونسب الالهة .
وقد اثبتت مكتشفات ( اوغاريت ) مؤخراً صحة روايات كثيرة وهي تحتوي علي معلومات غزيرة , عن ديانة الفينيقيين واساطيرهم وكانت ألهتهم الرئيسة هي ( إيل ) ومعناها ( إله ) و ( بعل ) ومعناها ( الرب او العلي ) و( عشتار) التي اصبحت ( افروديت ) عند اليونان و( عناة ) التي كانت لها مكانة مرموقة في اساطير اوغاريت و( ملكرت ) اي ( ملك المدينة) و( ادونيس) ومعناها ( السيد ) .
وقد كانت عبادة الكنعانيين تقام عادة في الجبال وكانت الحجارة المخروطية تقام فوق مذابح تدعي ( بيت ايل ) اي ( بيت الله ) كما تذكر النقوش الكنعانية اسماء كائنات من العالم الاخر يسمونها ( رفائيم ) اي ( ظلال ) مما يؤكد ايمانهم بالعالم الاسفل والارواح التي تقطنه وقد وردت الكلمة ايضاً في نصوص اوغاريت وفي كتاب التوراة ( راجع سفر اشعيا 9:14) وما ( هيكل سليمان ) الا بناء شيده معماريون فينيقيون .
التمازج الحضارى
لم ينعم الكنعانيون في تاسيس دولة موحدة بسبب طبيعة بلادهم وموقعها بين مراكز الدول الكبري في ذلك الحين ( بلاد النهرين واسيا الصغري ومصر وبسبب عدم اتحادهم وقعوا تحت رحمة جيرانهم الاقوياء ورغم التشتت فقد كان الكنعانيون يدخلون بين وقت واخر تحت قيادة موحدة .
لقد كان الساحل السوري ولا يزال مركزاً فريداً لتلاقي وتمازج الحضارات فشعوب كثيرة قدمت إليه فمن الجنوب ( المصريون والعرب ) ومن الشمال ( الحثيون والارمن والاتراك ) ومن الشرق ( الاشوريون والفرس والمغول ) ومن الغرب ( اليونان والرومان والفرنج ) ... وقد ترك كل شعب في هذه الشعوب قطعة منه في الساحل السوري وعلي شكل تقنيات واقاصيص وألهة وأساطير وغيرها .
أما المواطنون الأصليون فقد عرفوا كيف يحافظون علي أصالتهم ويغذونها وقد وجدت في مدينة ( أوغاريت ) نصوص عديدة بلغات عديدة منها ( الحثية والاكادية والمصرية وغيرها ) إضافة إلي اللغة الكنعانية وما اللغة العبرية سوي لهجة كنعانية اطلقت عليها التوراة اسم ( شفة كنعان ) .
نهاية الحضارة الكنعانية
انتهت الحضارة الكنعانية علي وجه التقريب , مع بداية الحضارة الهلنستية في أوائل القرن الثالث قبل الميلاد التي قضت تدريجياً ثم كلياً علي ما كان للمدائن الفينيقية من استقلال ثقافي .
أما في الغرب فقد بقيت المستعمرات الكنعانية مدة اطول قليلاً وكان علي روما هذه المرة أن تقضي عليها بما باشرته من فتوحات.
سكان الساحل السوري اليوم
في الساحل السوري اليوم مجموعات اثنية عديدة فمنهم السكان الأصليون من الكنعانيين والاراميين (السريان ) ومنهم العرب واليونان والرومان , والارمن والاكراد والتركمان وقد كانت هناك اقلية من اليهود الذين هاجروا منذ أواسط القرن الماضي .
إن هذا التنوع يسمح لنا بأن نطلق علي هذه المجموعات اسم ( الفسيفساء السورية ) وهو نفي الاسم الذي أطلقته مارجوري ساندرسون Margorie Sanderson علي كتابها الذي تحدثت فيه عن الساحل السوري من خلال عملها ضمن البعثة البشرية الامريكية التي كانت تعمل في الساحل السوري منذ عام (1860).
والكتاب صادر في مدينة بيتسبرغ Pittsburgh بولاية بنسلفانيا Pennsylvania عام ( 1476) ولا توجد له ترجمة عربية .
وفي دراسة قامت بها مجموعة من العلماء الألمان بالتعاون مع علماء لبنانيين في علم الاجناس البشرية anthropology ودراسة اخري مشابهة قام بها علماء أمريكيون برعاية مجلة national geographic magazine اعتمدت علي ال DNA وقد بينت هاتان الدراستان علي ان (23%) من سكان الساحل السوري اليوم يحملون دماء كنعانية \ فينيقية , بغض النظر عن معتقداتهم الدينية.
أخبار متعلقة :