أهم ما فى معرض الكتاب هذا العام، الذى تبدأ فعالياته فى ٢٢ يناير الحالى، هو الاحتفاء بجمال حمدان كشخصية محورية لأول معرض بعد مرور نصف قرن على تدشينه، ومن العزلة والاختفاء إلى الوجود والاحتفاء هناك رحلة طويلة، نبدأها بسرد مظاهر التكريم لاسم جمال حمدان فى معرض ٢٠٢٠ للكتاب، يتم الاحتفاء بجمال حمدان من خلال:
١- إصدار كتاب «شخصية مصر» كاملاً فى مكتبة الأسرة.
٢- التعاون مع مؤسسة دار الهلال لعمل طبعة مشتركة من مجموعة عناوين لجمال حمدان.
٣- الهيئة تصدر ٤ كتب عن جمال حمدان:
الأول: دراسات فى كتبه.
الثانى: شهادة عنه شخصياً وسيرته.
الثالث: كتاب «على طريق جمال حمدان».
الرابع: كتاب كوميكس للأطفال عن حياة جمال حمدان مبسطة.
٤- هناك محور ندوات كامل عن جمال حمدان أعدته مجموعة من تلاميذه ومتخصصين فى أعماله تناقش أعماله من وجهات نظر مختلفة.
5- فى حفل توزيع الجوائز سيتم تقديم درع لاسم جمال حمدان يتسلمها ممثلو الأسرة.
هذا باختصار ما قاله لى د. هيثم الحاج على، رئيس هيئة الكتاب، فى حوارى معه، وأشكره على هذا الجهد الرائع برعاية ودعم وزيرة الثقافة د. إيناس عبدالدايم، والجميل أن إدارة معرض الكتاب لم تحبس «حمدان» فى دائرة الجغرافيا فقط، فأنا لا أستطيع مناداة جمال حمدان بلقب الجغرافى فقط، فهذا يقلل من حجمه وقامته الأسطورية، ويحبسه فى إطار أكاديمى متخصص ضيق، ولكنى أناديه بالفيلسوف الذى استطاع صياغة الجغرافيا وتكثيفها وتقطيرها فى قارورة عطر خاصة جداً يفوح عطرها إلى الأبد، ألقاها فى حجر وحضن الوطن ليتعطر بها عند اللزوم، ويتذكر هويته أثناء المواجهات المصيرية، وبرغم أنه كتب فى مواضيع كثيرة قبل هذا الكتاب مثل كتبه عن الثورة وعن البترول وعن اليهود وحرب أكتوبر والاستعمار، فإن كتابه «شخصية مصر» هو درة هذا العقد الفريد، وملخص مشروعه الفكرى كله، وبصمته المتميزة التى لن تتكرر، وظروف كتابة هذه المجلدات الأربعة هى التى جعلته بحثاً فى الهوية وليس بحثاً فى الجغرافيا، فقد صدر ملخصه الأول عن «دار الهلال» إبان هزيمة 1967، التى شرخت الجميع وكسرت أرواحهم إلى شظايا تحتاج إلى عملية تجبير أسطورية شبه مستحيلة، وتصدى جمال حمدان للمهمة الصعبة، وكما كانت العزلة دافعاً لاستكمال هذا الإنجاز بعد الهزيمة كانت أيضاً حاجزاً وسبباً لتشويش الرؤية قبلها، وقد كان الراهب جمال حمدان فى صومعته لا يدرك كم تغيرت الأمور فى الخارج، وكم نخر السوس فى المؤسسة العسكرية، ولذلك كتب بتفاؤل مفرط قبل هزيمة 67 بشهور قليلة فى جريدة «الأهرام» ثلاث مقالات، وتحدث عن كيفية مواجهة إسرائيل وتصفيتها، مستهيناً فيها بقوة إسرائيل العسكرية، ومضخماً من قدرة قواتنا المسلحة التى تستطيع فصل الجزء الشمالى عن الجزء الجنوبى من إسرائيل، وكان فى هذه المقالات يكتب بروح الفنان عما يتمناه ويأمل فيه ويحلّق بخياله بعيداً عن أرض الواقع الذى للأسف كان بعيداً عنه حين ذاك، ولم يعرف أن قواتنا المسلحة فى هذه الأحيان كانت غارقة فى مشكلات جانبية أبعدتها عن مهمتها الأساسية، ولذلك كانت صدمة جمال حمدان فى منتهى العنف حين استيقظ على هزيمة 67 فوجد جيشنا يتقهقر فى صحراء سيناء؛ بعضه يموت من العطش، وبعضه يتوه فى دروبها الثعبانية، والبعض الآخر يسقط فى أيدى الجنود الإسرائيليين أو فى أيدى الإحباط والانكسار، وزادت عزلة الراهب، وراح جمال حمدان يلملم أوراقه ويعيد ترتيبها، ويتساءل: هل تمتلك مصر بالفعل مقومات النصر؟ هل فى مقدور الإنسان المصرى أن يكسر دائرة الإحباط الجهنمية ليبعث من جديد مقاتلاً شرساً قادراً على كسب معركة المصير؟ وجاءت الإجابة بـ«نعم»، وأتى نصر أكتوبر ليؤكد صدق حدسه وجدوى بحثه ليتشجع ويكتب كتابه التالى عن نصر أكتوبر وأهميته الاستراتيجية.
وظل جمال حمدان عاكفاً طوال هذه الفترة على بحثه يواصل الليل بالنهار، لدرجة أنه كان يصل فى بعض الأحيان إلى 18 ساعة يومياً من العمل المتواصل، والمدهش أنه كتب قصيدة العشق الملحمية هذه وهو محروم من المعاش، بسبب الروتين الغبى الذى تسمح لوائحه بالمعاش لمن قضى عشر سنوات فأكثر فى الجامعة، وكان المذكور أعلاه، بلغة أوراق شئون العاملين، لم يقض هذه المدة المذكورة أعلاه، والأكثر إدهاشاً أن جمال حمدان خاصم أحمد بهاء الدين حين طالب الدولة بمعاش استثنائى له، وكأنه كان مصرّاً على استكمال ملحمته من لحمه الحى، ويقتات بالكفاف حتى لا يضطر ليكتب غير ما يقتنع به إرضاءً لسلطة ما أو تملقاً لجهة، مهما كانت هذه الجهة، وكما تمرد على نظام المؤسسة تمرد أيضاً على نظام التدجين الثقافى ورفض التعيين وقتها فى أى جهة صحفية أو أى مجالس تابعة لوزارة الثقافة، حتى لا يضطر إلى أن يصبح دجاجة ضعيفة الذاكرة تبيض بالأمر لتفقس بعدها كتاكيت النفاق والمجاملة لمن يمنحه المرتب الشهرى، فقرر أن يصبح موظفاً فى مؤسسة جمال حمدان للإبداع!!
أخبار متعلقة :