الموقع الجغرافى البعيد عن الهرج والمرج، والتركيبة الشخصية والذهنية للقيادة التى تنأى بنفسها وشعبها عن الانخراط فى مغامرات هنا أو تحديات غير محسوبة هناك، بالإضافة إلى طول بقاء القيادة فى الحكم بشرط «راحة» الشعب الاقتصادية مكونات الخلطة السحرية لاستقرار من نوع فريد وراحة بال لا تعجب كثيرين، لا سيما من أصحاب التركيبات الثورية والرغبات فى التغيير والتجديد، وهذا لا يفسد لحزن وأسى رحيل السلطان قابوس قضية.
سلطنة عمان والسلطان قابوس لطالما ظلا مسميين مرتبطين ببعضهما البعض. أحبته ملايين المصريين، لا سيما من الأكبر سناً ممن عاصروا بداية حكمه فى عام 1970. نعوت الحكمة والهدوء والتعقل والرؤية الواضحة السليمة لأولويات بلده وتوازنات علاقاته الخارجية بهدوء ودون حنجورية أو عنترية ارتبطت بالراحل طيلة حياته. وبالإضافة إلى هذه الصفات التى قلما ينعت بها قائد، لا سيما فى منطقتنا الملتهبة والعامرة بالصراعات الطائفية والسياسية والاقتصادية. حتى صراعات عمان الداخلية والقائمة بشكل رئيسى على القبلية، والتى قاربت حد الحروب الأهلية على مدار سنوات طويلة، نجح السلطان قابوس لدى توليه الحكم فى عام 1970 فى نزع فتيلها بذكاء بالغ.
ويشهد التاريخ بكثير من التبجيل ما ورد فى خطاب الراحل فى يوم 9 أغسطس عام 1970 حين قال: «لا فرق بعد الآن بين الساحل والداخل وبينهما وبين المقاطعة الجنوبية، فالكل شعب واحد مستقبلا ومصيرا... تتجه أفكارنا الآن إلى إخواننا الذين أجبرتهم ظروف الماضى التعس إلى النزوح إلى خارج الوطن، فلأولئك الذين بقوا على ولائهم لوطنهم ولكنهم اختاروا البقاء فى الخارج نقول: سنتمكن فى وقت قريب من دعوتكم لخدمة وطنكم، أما الذين لم يكونوا موالين لوالدى فى الماضى أقول: عفا الله عما سلف.. عفا الله عما سلف».
وقد أوفى الراحل بالفعل لما قال، وتوجه نحو بناء الدولة ونهضتها ورفاه مواطنيها، محافظاً على الحياد «المستحيل» فى عالمنا العربى ذى الطبيعة الانحيازية منذ مطلع التاريخ. لكن هذا لم يمنع مواقف بالغة الوطنية والقومية له، لا سيما فيما يختص بمصر. ومن منا لا يذكر قراره التبرع بربع رواتب الموظفين العمانيين لدعم مصر إبان حرب اكتوبر 1973؟ وحين وقعت مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، تلك المعاهدة التى تعجز الغالبية المطلقة من الدول الآن الحصول على ربعها، حافظت عمان – عكس غيرها من الدول العربية التى هرعت إلى مقاطعة مصر – على علاقاتها الوثيقة معنا.
ومع رحيل السلطان قابوس، نتابع ما يكتبه عنه الإعلام العالمى، فنتعلم درساً جديداً من دروس السياسة. هى من المرات النادرة التى يقف فيها الإعلام حائراً غير قادر على تصويب سهام نقاط الإثارة والقيل والقال والمواقف التى تحسب عليها وتلك التى تحسب لها. غالبية التغطيات اضطرت للحفاظ على خط الحياد حيث الاضطرار إلى الاكتفاء بسرد محطات حياته، وما بعد مماته.
أخبار متعلقة :