في زمن ناء ببضاعة مزجاة ، وكثرت فيه منابر الإعلام ، وسهل نشر ما يكتبه الإنسان على صفحات التواصل الاجتماعي ، ظنا من بعضهم أن ما يكتبه أدب راق ، وما هو في معظمه إلا ترهات ، وشطحات خيال لم يكتمل ولم تصقله موهبة أو تزينه لغة فصيحة، في مثل هذا الزمن ، يخرج علينا فارس مارد يتقن اللغة ، يملك ناصيتها ؛ ليعبر عن مراده في ثوب قشيب، إنه الدكتور سيد شعبان، هذا السارد الممتلئ بحكايات الجدة ، لسرده طابع متميز ، تتعدد قصصه وحكاياته.
إزاء هذا السرد ، أصيب قلمي بالحيرة ، فلم يعد يدري ماذا يكتب؟ ولا من أين يبدأ؟، وكل قصة تحتاج إلى وقفة نقدية مختصة ، عن ماذا أكتب ؟ عن لغة متفردة لفظا وأسلوبا ومعجما ، طالما سميته فارس الميدان في اللغة ، فلا تجد لفظا نابيا عن موضعه ، بل كل لفظ يأتي في مكانه فتخرج قصصه في بناء محكم اللبنات .
ويتنوع أسلوبه ليجذب قارئه ويشوقه للقراءة في ظل نصوص تنوء برمز يكاد يعيي الذكي فهمه ،يخيل إلي أن أبا تمام أحد جدوده، إذ يعمد إلى جعل المتلقي واعيا شاحذا ذهنه ليفهم عنه.
ولا يعتمد السارد على هذه التقنية فحسب بل ينوع أسلوبه يجذب القارئ ويمتعه، يحذف متقابلا ليعمل المتلقي ذهنه ، يتخذ أحيانا من السجع عاملا موسيقيا يعلي من شعرية السرد في قصصه منه على سبيل المثال في قصة جحا وامرأة البهلول : (( له مسمار في كل جدار ، يضحك منه الصغار، ويتسلى بحيله الكبار ، دائما نقول عنه : إنه رجل غريب الأطوار)).
يمتاح من معين التراث الثري النابض يطعم قصصه، وأسلوبه ، يعصف بالأذهان، وينضد أسلوبه ومعجمه بشتى ألوان اللآلئ.
وهو مع كل ذلك صاحب إبداع متجدد لا ينضب معينه ، لا يكاد يطالعنا الصبح إلا مع قصة جديدة وحكاية مغايرة ، خيال منطلق العنان يمرح في أجواء الكون.
حكايات الجدة نهر متجدد عطاؤه ينهل منه ثم يعيد صياغتها بما يناسب روحه وهمومه. تحمل حكاياته وعيا يحاول بثه ونشره في أبناء جلدته.
امتلك زمام السرد ، فأحسن التعبير ، يسعى ليتفرد وأراه قد فعل ؛ فمعجمه اللفظي لا تخطئه الأذن.
الجنية ، السرداب ، النهر ، القرية ، التائه ، البهلول ، وأولياء الله الصالحين : ملامح لا تخطئها عين في قصصه ، تتكرر في كل قصة ، تحمل دلالة جديدة في كل مرة ، يحتاج كل منها لدراسة تتبعية.
قد يقول القارئ الكريم : ألا من عيب ؟
النقد وجهات نظر ، وإن كان ثمة عيب فأرى أنه الإغراق في الرمز أحيانا ، وهو ما يحاول السارد في قصصه الأخيرة التخفف منه .
وإن كان في قصته ( الجنرال في كوبر) سارع لكشف الرمز في النصف الثاني من القصة ، بعد أن كان النصف الأول منها محملا برمز مكثف، مراعيا في ذلك طبيعة الأشخاص المكتوب عنهم القصة.
ولا يسعني إلا أن أدعو القارئ الكريم لقراءة هذه القصص ليكتشف بنفسه عناصر إبداع الكاتب التي أشرت لها من طرف خفي.
وأؤكد أن هذه المقالة كتبت في عجالة أخشى أن تكون سببا في عدم الكشف عن قدر الكاتب وقصصه التي تتبوأ في عالم السرد مكانا عليا، أو تكون سببا في غمط الكاتب حقه .
أخبار متعلقة :