بوابة صوت بلادى بأمريكا

تشويهاتٌ على جدارِ الذاكرة بقلم أنور ساطع أصفري

أشجارُ الزيزفونِ تنتظمُ على جانبيَّ الشارع ، تمتدُّ إلى حيثُ يلتقيانِ وزرقة السماء في نقطةٍ واحدة .
الجو خانقٌ ، الصمتُ ثقيلَ الوقعِ ، عصافيرُ بلا صوتٍ ، غصّةٌ يتيمةٌ عالقةٌ في الحلق ، طلاسمُ تنتشرُ بلا وعيٍ في أضلعي ، هدوءٌ صاخبٌ يلفُّ المكان .
لا أسمعُ إلاّ صوتَ أقدامنا وهي تُلامسُ الأرضَ وترتفعُ في إيقاعٍ منتظم رتيب . إحساسٌ مُبهمٌ ينتابني ، أحاولُ أن أرفعَ يدي قليلاً فأخفق ، أُحاولُ أن أتكلمَ ، أشعرُ بالحروفِ تُغتالُ في حنجرتي .
أشعرُ أنني أُضغطُ من كلِ جوانبي ، أتضاءلُ بتواترٍ كالنابضِ المضغوط عنّوة بقدمٍ حاقدة . أتضاءلُ حتّى صرتُ وإسفلتِ الشارع واحداً . مددتُ يدي مستنجداً ، ذُهلّتُ عندما وجدتُ أصابعي تعبثُ بحذاءِ صاحبي .
كدتُ أختنق ، أخذتُ أتحرك لكسرِ هذه الحالة المرعبة ، قفزتُ ، صرختُ ، صرختُ بقوةٍ أكثر ، تلاشى صُراخي ، ضحِكتُ حتى إنقلبتُ على قفاي ، فاجأني صاحبي قائلاً :
- لقد وصلنا ! .
هدأتُ ، تمتمتُ بفوضى ، كلماتٌ تراكمت في فمي ، فتساقطت نازفةً على التراب ، إختفت الأشجار ، الطريق ، تلاشت رائحةُ الزيزفون ، وجدتُ نفسي أمامَ قاعةٍ ضخمةٍ شبيهةٍ بالكنائسِ الأثرية ، تعجُّ بالناسِ داخلين وخارجين ، كُلٌ يهمسُ في أُذنِ زميلهِ بحذر .
أخذتُ أُدققُ في الوجوهِ ، وجدتها متشابهة ، بحيثُ تعذّر عليَّ تمييزُ أحدهم من الآخر .
تعفّرَ وجهي برائحةٍ نتنةٍ ، إهترأ نسيجُ ذاكرتي ، إنتشرت نارٌ في أحشائي ، دخلتُ القاعةَ ، أحسستُ أني قزمٌ صغيرٌ أمامَ إرتفاعِ جدرانها ، الشاهقةِ المُزخرفة ، تخيّلتُ نفسي نقطةً صغيرةً حمراء .
كانت قبةُ القاعةِ ملوّنةٌ مُضاءةٌ بقسوة ، مؤطَرةٌ بحدودٍ هندسية برّاقة ، بينما كان الظلامُ يُهيمنُ على أرضيةِ القاعة ، ويتبددُ جزءٌ منه في إنعكاسِ أنوار القبة .
مكثتُ مكاني قليلاً حتّى ألِفتُ هذا الضوء الخافت ، بدأت تتضح أمامي معالمَ الوجوهِ أكثر ، تبيّنتُ نماذج مختلفة للوجوه ، كل نموذجٍ يقفُ في تكتّلٍ خاصٍ به .
سرتُ بينَ الحشد والمقاعدِ ، سمعتُ أصواتاً خافتة ، ضِحكاً مُتقطّعاً ، حدّقتُ في الجدارِ بإمعانٍ ، إقتربتُ منه ، تفحّصتُ البابَ ، فتحته قليلاً وببطءٍ وحذر ، فاجأتني إضاءةٌ متناوبةٌ ، نماذج بشرية متداخلة ، تموجُ بإيقاعٍ صاخب ، الرأسُ بين القدمين ، الآذرعُ تمتدُّ من الرأسِ ، ، شفاهٌ مبعثرةٌ ، جثثٌ تتناوبُ عليها الأصابعُ ، أثرُ دمٍ ينتشرُ بشكلٍ عشوائي .
كانت هذه النماذجُ تتهامس ، تضحكُ ، تتأوّهُ ، حتى يصير همسها ضجيجاً ، يتحوّل ضجيجها هُتافاً ، شعرتُ بحركةٍ خفيّةٍ ، تواريتُ مسرعاً تحتَ أحدِ المقاعد ، خرجَ رجلان وامرأة بأشكالٍ طبيعيةٍ ، وجوههم ملوّثةٌ بالغدر ، إنطلقت نظراتهم تبحث بشكلٍ دائريٍ في كلِ مكان ، كمحطاتِ رادارٍ صغيرة .
لحظات ثُمَّ عادوا إلى الداخلِ ، وسرعانَ ما سمِعت صوتَ الضحكِ المتقطّع من جديد ، والعيونُ تحدّقُ عاتبةً ، شامتةً بي من كلِ صوب .
تعصرني الحقيقة ، تتكسّرُ أوهامي ، أطأطىء رأسي ، ألجُ ذاتي ، ألتصقُ بالمقعدِ ، أرتمي على نفسي ، نداءاتٌ خرساءُ على ألسنةِ إنكساري تتوسّل ، وفي نشوةِ الوهمِ أُصارعُ سعادتي ، فهرعتُ أُخبىءُ نفسي بين كفّيَّ .
إستيقظتُ عندما أتاني صوتُ صاحبي قائلاً :
- لقد بحثتُ عنكَ طويلاً ، إنظر إلى ذلكَ الكرسي الذي يحملُ الرقمَ السابعة والستين ،
اذهب واجلس هناك ، لا تنسى رقم المقعد ، لا تنسى أنت السابع والستون .
رمى إبتسامةً ساخرة ، ألحقها بإنصرافٍ مُفاجىٍ غريب ، الإنتظار يُمزّقُ الجسد ، غُبارٌ يرقدُ بالأعماق ، عنكوبتُ تنسجُ خيوطاً وهي تُغني إنشودةَ " الحاضرِ - الغائبِ " وصداها يُمزّقني ، فأهيمُ في دوّامةٍ تبعثرني .
الدوائرُ تتسع ، الزوايا تضمحلُ ، الرؤى تنداحُ في لا مبالاةٍ مُقرفة ، المقاعدُ تنتفخُ فتطمسَ وجوهِ كل الجالسين عليها ، صوتٌ جهْوَريٌ يبدأُ العدَّ ، واحداً ....، إثنين ...، ثلاثةً....، يتوالى العدُّ بإيقاعٍ مُثيرٍ للرعبِ ، المقعدُ ينتفخُ من كلِ الجوانبِ أكثر ، أرجلُ المقعدِ تورّمت ، المساندُ تطاولت مُعانقةً سقف القبّةِ ، أقمشةُ المقعد تتمزّق كتمزّقِ الجسد .
شعرتُ أني جزءٌ من المقعدِ ، إتّحدَ المقعدُ بي ، دوّى صوتٌ جَهْوَري :
- سبعةٌ وستون .
لقد صرتُ رقماً .
نهضتُ بآليةٍ ، وقفتُ أمامَ الزوايا الخشبيةِ بذاكرةٍ مُشتتةٍ مُشوّهه ، ردّدتُ بلا وعيٍ ما سمعتهُ من زعيمِ القاعةِ كما بدا لي ، ساقوني إلى غرفةٍ مجاورة ، أغيبُ ، أصحو ، أصابعٌ تنهش ذاكرتي ، طويتُ الزمنَ ، أعادوني ، تابعتُ مسيري إلى بابِ القاعةِ وأنا أتحسسُّ رأسي ، صدري ، وكُلَ عضوٍ في جسدي .
ضجيجُ الشوارعِ الصاخبِ يسخرُ مني ، أُناسٌ يتراكضون فرحين ، سمعتُ صياحاً يُناديني ، لم أشعرُ بأيةِ رغبةٍ للاستجابة ، إني إنسانٌ آخر ، إنّي سبعٌ وستون .
انطفأت كلماتي ، انتابني شعورٌ غريبٌ ، أسرعتُ ، تمتمتُ بآيةِ الكرسي ، تمتمتي تطاردُ فلولَ دمعي ، إستنّجدتُ بالبازِ والخضرِ ، أصابتني برودةٌ تسللت من أطرافي وعمّت جسدي . غرِقتُ في بحرِ أحزاني المُزنّرِ بأرقام تطاردني ، آويتُ إلى فراشي ، صرختُ بعنفٍ ، بكيتُ ، ونماذج بشرية متداخلة تُلاحقني .
رسمتُ إبتسامتي على مرآةِ الذاكرة ، فتراءت لي وردةٌ خمريةٌ تنبتُ في الدم .

أخبار متعلقة :