الناس فى بر مصر ثلاث فئات: طبقة فقيرة مطحونة فى الفقر وآفاته، وأخرى مشغولة بالثراء وعلاته، وتبقى طبقة متوسطة تصارع من أجل البقاء وأسبابه، وهذا هو الجهاد الحقيقى، والبطولة المطلقة اللذان تبذلهما تلك الفئة، رغم الضربات التى تتعرض لها منذ السبعينيات.
جراء ذلك، أصبح يوجد فعليا، لا نظريا، فى المجتمع عندنا طائفتان لا ثالث لهما, الطائفة الأولى التى تعيش فى الثراء الفاحش, وتسكن القصور المنيفة, والشاليهات الفخمة, والفيلات الأنيقة. أما الفقر المدقع, فهو من نصيب الطائفة الثانية، الأكثر عددا، والأكبر حجما, مما ترتب عليه اختفاء وتلاشى وذوبان الطبقة الوسطى.
* من هي الطبقة المتوسطة بمصر ؟
تشمل الطبقة المتوسطة فى مصر المهندسين، والأطباء، والمدرسين، والمحاسبين، والأسر التى يعمل فيها الأب والأم، والتى تمثل قطاعا عريضا من الشعب، وتشمل كذلك الفئة التى تعمل فى الأنشطة الاقتصادية والخدمية الحديثة فى البنوك وتكنولوجيا المعلومات، وأصحاب المشروعات والأعمال الصغيرة، والعاملين فى الدرجات المتوسطة فى الجهاز الحكومى، والأجهزة القضائية، والأكاديميين.
الطبقة المتوسطة ببساطة هى الحلقة الوسط بين الطبقة الدنيا والطبقة العليا لأى مجتمع، وتُمثل سلة الصواب، والخطأ، والقيم والمبادئ الاقتصادية والاجتماعية والدينية، ويمكن الاستدلال عليها من شرائح الدخل.
من مآسى المجتمعات الرأسمالية تآكل هذه الطبقة الفاضلة, حيث يزداد الأغنياء غنى, والفقراء فقراً, وبالتالى تتحول الساحة إلى حلبة مصارعة بين النقيضين, بين القوى الناهب, والضعيف المنهوب, والذى لايمانع فى استعادة حقوقه بطرق غير شرعية, ويغذى هذا الصراع على الدوام افتقاد أطرافه للقيم التى هى من سمات أفراد الطبقة الوسطى, المشبعة رغباتهم الأساسية في العادة.
* اثر الطبقة المتوسطه وضرورة وجودها لحفظ توازن المجتمع :
على مر التاريخ، يكون لأفراد هذه الطبقة المتوسطة دورها المؤثر العظيم والفاضل أكبر الأثر فى التنوير, وكم انبثقت منها حركات التحرر الوطنية, وحركات تدعو لصنع مستقبل أفضل للوطن, على عكس الطبقات الأخرى المشغولة بمعارك جانبية. لكن من المؤسف بدء تآكل هذه الطبقة فى مجتمعنا, وبالتالى تعجيل الصراع بين الرأسماليين والكادحين, حيث ألقت عوامل اقتصادية واجتماعية أخيرا بظلالها على الساحة, ودفع ولايزال أفراد الطبقة الوسطى الثمن باهظا.
وجود الطبقة المتوسطة ، ضرورة لحفظ توازن المجتمع ، ولان القوى المسيطرة لن تستطيع أن تبسط نفوذها إلا فى مجتمع به خلل، وهذه الطبقة تعانى الان ، لأن الدخل الحقيقى لها لم يعد يرتفع إلى المستوى المأمول فى السنوات القليلة الماضية.
* كيف نحافظ علي الطبقة المتوسطة في ظل التعامل مع المواطنين بمبدأ الصدمة ؟!!!
اولا : زيادة الدخل الحقيقى لهذه الطبقة بما يتيح لها الحصول على أكبر قدر من السلع والخدمات، والثانية زيادة البدائل المتاحة أمام هذه الطبقة بما يكفل لها الاستمرار، لأنها عصب المجتمع. ففاتورة الزيادات، وارتفاع الأسعار الان بمصر تتحملها الطبقة المتوسطة ومحدودة الدخل بشكل أساسي. أن نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر ترتفع ، وهذا الوضع سيؤدى إلى تراجع فئات المجتمع، لان ارتفاع الأسعار في صر يحدث بشكل يتنافى مع الواقع الاجتماعى. قرارات السادات الاقتصادية الخاطئة فى 1977 أدت إلى انتفاضة شعبية، وقرارات على لطفى رئيس الوزراء فى الثمانينيات برفع الدعم عن بعض السلع، كانت سببا رئيسيا فى الإطاحة به من منصبه.
أن قرارات رفع الأسعار أخيرا تسير على النهج نفسه، وإن سبقها عملية تخدير فى صورة العلاوة السنوية التى تجعل الناس ترتاح «نفسياً»، والذي ثمنه يكون سرعان ما تكشر الحكومة عن أنيابها لاسترداد ما أعطته ، فالحكومة اعتادت أن تتعامل مع المواطنين بمبدا «الصدمة»، بما يتنافى مع أبسط قواعد الشفافية التى تتحدث عنها، لأن المجموعة التى تصنع القرارات منطقها دائما وأبدا، هو فرض سياسة الأمر الواقع. إن استقرار أوضاع تلك الطبقة ضرورة مُلحة للاستقرار المجتمعى، ولابد ادراك أن الأنظمة السابقة تعمدت تهميش تلك الطبقة على مدى أكثر من ثلاثة عقود، بعد أن عاشت عصرها الذهبى فى فترة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، قبل أن «تُسحق» فى عهدى «السادات» و»مبارك»
* اهمية الحفاظ علي هذه الطبقة التي أصبحت قنبلة موقوتة تهدد استقرار المجتمع :
أن أهمية تلك الطبقة تتجلى فى كونها الطبقة التى قادت الحراك المجتمعى، وأشعل شبابها فتيل ثورة 25 يناير، مُبلورين أزماتهم فى شعارات «عيش - حرية - عدالة اجتماعية» ان الاستمرار في تجاهلها بمنزلة «قنبلة موقوتة» داخل المجتمع المصرى.
إنها لا تزال قائمة، وإن كانت فى طريقها للانهيار بفعل سياسات الدولة الخاطئة، وقد نشأت تلك الطبقة فى عهد محمد على باشا، مؤسس مصر الحديثة، منذ أن أنشأ المدارس المدنية، وجعل التعليم فيها بالمجان، وكان الذى ينتهى من دراسته يتم تعيينه، وإرسال أبناء القرى إلى البعثات فى الخارج، وفيها دخل الكثير من أبناء الفلاحين والعمال فى المهن الحرة، ثم إلى الطبقة المتوسطة بعد إقرار مجانية التعليم فى المدارس والجامعات، التى كبحها الإنجليز، حتى قيام ثورة يوليو 1952.، وبلغت عصرها الذهبي خلال فترة تولى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر.
التى تبلورت كنتيجة طبيعية للمساواة بين الأغنياء والفقراء فى مجانية التعليم، وانخراط أبناء تلك الطبقة فى الجامعات المصرية، ثم تقلدهم لوظائف الجهاز الإدارى للدولة ، أن ثورة يوليو 1952 هى التى أنصفت تلك الطبقة، وانتصرت لها بسلسلة من الإجراءات الكثيرة، بدءاً من الإصلاح الزراعى، ومنع الفصل التعسفى للعمال، وتسهيل إجراءات المساكن، ثم مجانية التعليم وبناء القطاع العام، وتعيين الخريجين، وكان للطبقة الوسطى دور كبير فى تدشين العديد من مؤسسات المجتمع المدنى، والنقابات المهنية والأحزاب، ووضع القوانين والدساتير وقيادة منظومة التعليم والخدمات العامة، وتعبر تلك الطبقة عن الحالة العامة للمجتمع .
* بداية انهيار الطبقة المتوسطة :
مع بداية سياسة الانفتاح الاقتصادى فى عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، بدأت الطبقة الوسطى أولى مراحل الانهيار، خاصة مع بداية رفع الدعم عن السلع فى نهاية السبعينيات، استجابة لشروط صندوق النقد الدولى «المجحفة»، فارتفعت أسعار السلع الأساسية، واندلعت المظاهرات، وخرج أبناء الطبقة المتوسطة للمرة الأولى ضد ارتفاع الأسعار والغلاء، فتراجع « السادات»، واستمرت سياسة الدولة فى رفع الدعم عن السلع الأساسية، ومع تولى الرئيس محمد حسنى مبارك، استجابت الدولة للرأسمالية العالمية، بطرق غير مباشرة، الأمر الذى انتهى إلى انهيار تلك الطبقة، ثم أجهز عليها القطاع الخاص بدخوله كشريك للدولة فى الاقتصاد وخصخصة المؤسسات، وطفت على السطح آفات الرأسمالية ونظام السوق الحر، وعلى رأسها الغلاء والتضخم، وكانت السبب الرئيسى فى تآكل الطبقة المتوسطة، حيث حدث انكماش فى مرحلة الانفتاح، زاد الفجوة ما بين الطبقة العليا والطبقات الفقيرة. وعندما تزيد الفجوة إلى حد كبير بين طرفى المجتمع، يتخلخل الوضع الاجتماعي .
الطبقة الوسطي في مصر الان في صراع مع الحياة بسبب السياسات الاقتصادية وفرض الأمر الواقع ( ارحموا عزيز قوم ذل يا حكومة)
عى. أن أبناء الطبقة المتوسطة ينتمون إلى الجهاز الإدارى للدولة، والوظائف الحكومية وبعض المهن الحرة ذات الدخل المنخفض، مثل السباكة، والنجارة، والحدادة وغيرها، وفى ظل ثبات الدخول وارتفاع الأسعار، والغلاء، الذى يعد العدو الأول لأبناء الطبقة المتوسطة، يأكل التضخم الزيادة البسيطة السنوية التى قد يحصلون عليها، وتسمى بالعلاوات الاجتماعية، خاصة فى الوظائف الحكومية.
أن الطبقة الوسطى تفككت ولم تتآكل للان ٬ قد يكون هذا خبرا جيدا لكن غير الجيد هو أنها فقدت حماسها الذي كان رأس حربتها وجواز مرورها إلى عهد عبدالناصر، حيث ازدهرت وقادت نهضة.
إنها غير قادرة الان على القيام بدورها التاريخى٬ لأن الشللية والفردية والخوف على الذات٬ أمراض ضربت غالبية أفرادها٬ لذلك اقترح الدكتور أحمد زايد، أستاذ علم الاجتماع السياسى، والعميد الأسبق لآداب القاهرة، يرى من جانبه أن يتولى أبناء هذه الطبقة إصلاح التعليم٬ بفرض ضريبة، أو إنشاء صندوق للتعليم يموله أعضاء الطبقة الوسطى، معتبراً أنها مهمتهم الأولى.
ويختلف د. مراد وهبة، أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس، عن الآراء السابقة، حيث يرى أنه لا توجد طبقة وسطى، وأنها قد تلاشت. فبدون طبقة وسطى، يقع المجتمع فريسة للأصولية الدينية والرأسمالية الطفيلية، فهى العمود الفقرى لأى مجتمع. وإذا أردت أن تهدم مجتمعا، «فنشن» على المثقفين فيه من الطبقة الوسطى.
أخبار متعلقة :