بوابة صوت بلادى بأمريكا

المدقريّ ... مسارات متعددة (9) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني

 
 
حين ننظر إلى ماضينا بعين الحاضر نجد أحيانًا أن خياراتنا لم تكن بالضرورة خاطئة، بل ربما كانت تنبثق من حكم خفية لم نكن وقتئذٍ لندركها. كنت منذ نشأتي العلمية ميالًا إلى دراسة اللغة العربية بفروعها المتنوعة، شغوفًا بأسرارها وجمالياتها، في حين كان والدي يرى في داخلي شيئًا آخر، شيئًا أعمق، فقرر أن يوجهني نحو تخصص شرعي، هو الآخر بعيد عن ميولاتي الفقهية. لم أكن مقتنعًا تمامًا بما أدرسه، لا استهانة به، وإنما للقلب فيما يدرسه رغبات يجب أن تتوفر أولًا. كنت أحمل في قلبي مقاومة خفية لتلك الرغبة، لكنني رضخت لرأيه احترامًا وطاعة.
كانت روحي -خلال سنوات دراستي الجامعية وقبلها في المراحل التعليمية- تميل إلى اللغة العربية وآدابها، ثم تليها رغبة مؤكدة للدراسة في كلية "الشريعة والقانون" للجمع بين التراث وحاجات العصر، لكنني انصرفت إلى الدراسة في كلية أصول الدين. كان الانتقال أيضاً إلى القاهرة لمتابعة دراسة الشريعة أمرًا صعبًا في ظل ظروف معيشية معقدة وتكاليف باهظة، فاستقر بي الأمر في كلية أصول الدين بمدينتي "المنصورة". رضيت بذلك ظاهريًا، لكن قلبي كان يتوق إلى ميولي الأصلية.
رغم ذلك، حين التحقت بالكلية وجدت نفسي منكبًا على حضور محاضرات كلية اللغة العربية والانخراط في حلقات الفقه وأصوله، ولم أتوانَ عن طلب العلم بكلّ ما أوتيت من شغف.
وجدتُ نفسي خلال هذه الرحلة الجامعية أتعلم في مجالات متعددة، وأقرأ في أكثر من تخصص في آن واحد. وبفضل اهتماماتي المتنوعة تعرفتُ على أساتذة ومتخصصين وأدباء ومثقفين، واكتسبت من خبراتهم ومعارفهم الشيء الكثير. هذا الأمر المتشابك بين أمور مختلفة أكسبني خبرات كثيرة، أقلها أنني صرت أكتب في أكثر من مجال، من الفقه والفرائض إلى الأدب والتراجم، لذا أشعر بامتنان عميق لوالدي الذي وجهني إلى هذا الطريق.
بعد أن نُشرت لي منذ سنوات قليلة مقالات في الصحف والمجلات القومية والعربية والعالمية في مجالات متعددة دعاني والدي وسألني: "هل أدركتَ الآن لماذا حرصتُ على أن تدخل تخصصًا آخر غير اللغة العربية أو الشريعة؟" فأجبته: "أظن أنني فهمت ذلك، لكني أود أن أسمع منكم". فقال لي: "أردتُ أن يكون لك أكثر من تخصص تكتب فيه. كنت أعلم أنّك محب للغة العربية وموهوب في الكتابة، وصاحب الموهبة لا يمكن أن ينقطع عن موهبته مهما حصل. أردت لك أن تدرس شيئًا جديدًا تنتفع به في حياتك العملية."
وبفضل تلك الرؤية أجد الآن نفسي قادرًا على الكتابة في مجالات كثيرة، بدءًا من النصوص النثرية والقصص القصيرة، وصولاً إلى المقالات القصصية والاجتماعية والأدبية والشرعية والنقدية. أكتب الرثاء والرسائل وتراجم الأعيان، وأجد أن هذا التنوع المعرفي هو أحد أسرار نجاحي في عالم الكتابة، فبينما يقتصر البعض على فن واحد، أجد نفسي ممتلئًا بحياة متعددة الأوجه، قادراً على أن أتبحر في بحور مختلفة من المعارف وفنون الإبداع.
هذا هو ما أوصلني إليه توجيه والدي وحكمته، وهو السبب نفسه الذي جعلني مدينًا له بكلّ فضل، فبحكمته الخفية التي لم أدركها ساعتئذٍ صرتُ أكتب في فنون معرفية كثيرة، وأعيش حياة مليئة بالتنوع المعرفي، وهو ما أعتبره سرًا من أسرار نجاحي في عالم الكتابة.
على أني أدركتُ شيئاً آخر لا يقل أهمية عما سبق، وهو أن النجاح ليس مسارًا محددًا أو طريقًا مستقيمًا يسلكه الإنسان بثبات مطلق، بل قد يكون في كثير من الأحايين مجموعة من الطرق المتشابكة، تلك المسارات المتنوعة هي التي تتيح لنا أن نستكشف جوانب متعددة من المعرفة والحياة، فقد تبدأ رحلتك بطريق واحد، تضن أنك تعرف نهايته، ولكن سرعان ما تكتشف أن هناك آفاقًا عظيمة تنتظرك لم تكن تراها في البداية. 
لعلّ التنوع في التعلم والتعرف على تخصصات مختلفة يضفي على عقولنا ثراءً معرفيًا لا يُقدّر بثمن. هو الذي يجعلنا نجمع من كل بستان زهرة، فتتكامل معارفنا وتتنوع مهاراتنا، مما يسهم في إغناء تخصصاتنا الأصلية بطرق غير متوقعة. 
وأنتَ حين تفتح عقلك لأكثر من علم وفن تكتسب بذلك قدرات جديدة، وتطوّر فهمًا أعمق للعالم من حولك. تلك الرحلة المتعددة الأوجه بما تحمله من تجارب وخبرات هي التي تصقل روحك ومهاراتك، وتفتح لك أبوابًا لم تكن تدرك وجودها من قبل، فكل تجربة، وكل علم، وكل كتاب قرأته أو شخص التقيتَ به يضيف إلى بناء شخصيتك لبنة جديدة. وهكذا، تدرك أن نجاحك ليس نتاج طريق واحد، بل حصيلة طرق عديدة سرتَ فيها، حتى لو بدت متفرقة في البداية.
ولا ريب أن الشخص سيكتشف أن هذا التنوع هو الذي يمنحه النجاح المتكامل الذي لا يقتصر على الجانب المهني فحسب، بل يمتد ليشمل حياته الشخصية والروحية، وسيدرك أن ثراء العقل والمعرفة، وتعدد المسارات التي سلكها هي التي قادته إلى عظمة لم يكن ليصل إليها لو أنّه بقي في طريق واحد ضيق. 
في التنوع المعرفي يجد المرء نفسه قد بلغ أفقًا واسعًا من الفهم والإنجاز، مستمتعًا برحلة الحياة بكلّ ما تحمله من مسارات واكتشافات.

أخبار متعلقة :