بوابة صوت بلادى بأمريكا

المدقريّ كرم أهل "عليان" (8) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني

تبرز في عالمنا المتنوع أهمية الاستفادة من عادات الآخرين وثقافاتهم كوسيلة لتعميق فهمنا للبيئات الأخرى، فالتعرف على التقاليد يكشف لنا كنوزاً من القيم التي قد لا نكتشفها بوسائل أخرى. هذا التواصل المجتمعيّ يوسع مداركنا، ويعزز مِن قدرتنا على الإبداع، واستلهام أفكارٍ جديدة.
كنتُ عائداً من مكة بعد شهر رمضان المعظم إبان إقامتي في مدينة الرياض للعمل برفقة صديقي العزيزين د. محمد هليل العصيمي وابن خالته عاصم العصيمي. يعمل د. محمد الآن في منصب رفيع بوزارة الصحة السعودية، أما الأستاذ عاصم فهو محامٍ بارع. 
في شخصيتهما تتجسّد كلّ أنواع الأخلاق العزيزة، سواء كانت معروفة لنا أم بقيت غير مدركة بعد، فهما ينبعان من أعماق الوجدان كأمواج عذبة تتلاطم على شواطئ العقل والقلب، يمتزج فيهما النقاء بالصفاء، والعطاء بالسماحة. كلاهما من أفضل مَن عرفتُ في حياتي كأصدقاء، ولا تزال العلاقة والتواصل بيننا متينة.
كانت الخطة أن أعود إلى مدينة "الرياض" لأمضي أيام العيد بمفردي، لكن لم تكن تلك هي النهاية المتوقعة، فسمو روح الرجلين حال دون ذلك. ألقت دعوة كريمة من الرجلين بظلالها الدافئة، مدعومة بحب وسخاء، لأقضي الوقت معهم في قريتهم "عليان" الجميلة بنجد. تلك القرية الساحرة التي تزخر بالتقاليد العريقة، وتقع بين جمال الرياض وسحر الطائف على طريق مكة.
أجل! في قلب صحراء نجد الشاسعة قررتُ أن أخوض مغامرة تأخذني إلى عالم الضيافة البدوية. محملاً بحقائب الصبر والاستعداد انطلقتُ في رحلة لا تضاهى، حيث تتلاشى الرمال الذهبية في الأفق البعيد، وتلتقي الأرض بالسماء في لوحة متناهية السحر والجمال.
دخلت تلك القرية الصغيرة المحاطة بالتلال الرملية، وكأن الزمن قد توقف هنا. البيوت التقليدية البسيطة متناثرة بين الأشجار القديمة، تروي قصصًا عريقة عن البدو وتراثهم العظيم. استقبلني أهل القرية بابتسامات حارة وأهازيج مرحة، تعكس روح البساطة والسعادة التي تغمر حياتهم. 
دُعيت للجلوس تحت خيمة، حيث تمتزج رائحة القهوة العربية بعبق الأعشاب الطيبة. شاركت في طقوس الضيافة الأصيلة، حيث تم تقديم التمر واللبن وسط أجواء دافئة من الأحاديث الودية. كان الكرم هنا طبيعياً، ينبع من قلوب صادقة، مذكراً بأخلاق العرب الأوائل.
ثم انطلقنا في جولة عبر الصحراء، حيث الرمال الهادئة تغطي الأرض بخطوات ترتعش على نغم الهدوء. رأيت كيف يتقن البدو فن البقاء والاستمتاع بجمال الصحراء بكلّ ما تحمله من تحديات. كانت السماء زرقاء صافية، والنسيم يحمل معه رائحة التاريخ. كانت الرحلة إلى صحراء نجد لحظة لا تُنسى، اتسمت بالبساطة والدفء، مما جعلها مغامرة تحمل بصمة الطيبة والكرم البدوي، فكانت الأيام التي قضيتها بينهم مثل صفحات من كتاب تاريخي، مليئة بالدروس والعبر.
هذه التجربة أضاءت لي جوانب جديدة من حياتي، أدركتُ أن البساطة والكرم هما جوهر الحياة. أصبحت الرحلة إلى نجد بين كرم البدو وضيافتهم ذكرى لا تُمحى، تحمل في طياتها دروساً في الإنسانية. هم قوم يجددون حفاوتهم كل ساعة، وينبع كرمهم من قلوب نقية، كأنّما هو جزءٌ مِن نسيج حياتهم اليومي!
تتهادى في قلب هذه الصحراء الواسعة الكثبان الرملية في امتداد لا نهائي، ويتجلى جمال الحياة البدوية بأبسط صورها. هنا، في هذا العالم البعيد عن صخب المدن وضجيجها يعيش أهل البادية حياة تتسم بالبساطة، والكرم، والشجاعة. إنّها حياة مفعمة بالقصص والتقاليد العريقة التي تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل!
ولعلّ الكرم هو السمة الأساسية لهم، فهم يعتقدون أنّه ليس فضيلة فحسب، بل واجباً مقدساً يجب الوفاء به في كلّ الأوقات. يجسد البدو هذا الكرم في استقبالهم الحار للضيوف، بغض النظر عن هويتهم أو وجهتهم. فلا يكاد يصل غريب إلى ديارهم حتى يُستقبل بترحابٍ كبير، ويقدم له أفضل ما لديهم، في بادرة صادقة تعبر عن أصالة نفوسهم.
حين تحل ضيفاً على أحد بيوتهم تبدأ رحلة الكرم منذ اللحظة الأولى. يستقبلك أهل الدار بوجوه مبتسمة ونفوس مرحبة، تتوهج فيها معاني الضيافة العربية الأصيلة. يدخلونك إلى خيامهم الواسعة التي تتزين بأجمل الأقمشة التقليدية، وتتوزع فيها الوسائد المزخرفة بمهارة يدوية فائقة. تُقدم لك القهوة العربية برائحتها الزكية ونكهتها الفريدة، في طقسٍ احتفالي يعكس مدى التقدير الذي يحملونه للضيف.
تتوالى الأطباق الشهية، بدءاً من التمر واللبن، وصولاً إلى الأكلات التقليدية التي يتم إعدادها بمهارة. يجلس أهل البادية حولك، يتبادلون معك الأحاديث الودية والقصص الممتعة، وينقلون لك حكمتهم التي اكتسبوها من الحياة في الصحراء. يتحدثون عن مغامراتهم مع الطبيعة، وعن التحديات التي يواجهونها في هذا العالم القاسي، وعن الفرح الذي يجدونه في أبسط الأشياء.
وفي الليل عندما يهدأ الصخب وتغرق الصحراء في سكونها المهيب، تجلس بجوار النار المتوهجة، التي تُعدّ رمزاً للدفء والأمان في حياة البدو. تتلألأ النجوم في السماء الصافية، وتغدو السماء وكأنها بساط مرصع بالجواهر. يتسلل صوت الرياح الخافت، ليضيف لحناً طبيعياً إلى أجواء السمر. يروي الشيوخ حكايات عن الماضي، عن البطولات والمغامرات، وعن الأجداد الذين عاشوا في هذه الأرض قبل سنين. تشعر حينها بأنّك جزء من هذه الحكايات، وأنك تعيش تجربة فريدة تعيدك إلى أصول الإنسانية وجوهرها.
يتسم أهل البادية بالشجاعة، فهم يواجهون قسوة الحياة ببسالة نادرة، ويجدون في التعاون سبيلاً لتجاوز الصعاب. يعملون معاً في رعي الإبل والغنم، ويحرصون على تعليم أبنائهم القيم؛ كالوفاء والكرم. يعلمونهم أن إكرام الضيوف واجب لا محيد عنه.
وبالرغم من قسوة الظروف، إلا أنّ الفرح يظل رفيقهم الدائم. تجد الأطفال يلعبون ببراءة بين البيوت، ويركضون خلف أغنامهم مستمتعين بالحياة. كما أنّ المناسبات الاجتماعية كالأعياد تُعد فرصاً للاحتفال والبهجة، حيث تجتمع العائلات وتتبادل التهاني والأماني الطيبة.
تلك هي حياة البادية، حياة تتسم بالبساطة والجمال، تعكس روح الإنسان في أصدق حالاتها. إنها حياة تعلمك أن الكرم هو لغة عالمية، وأن الضيافة هي وسيلة للتواصل والتقارب بين البشر. في رحاب البادية، تتعلم أن السعادة ليست في الأشياء المادية، بل في العلاقات الإنسانية الصادقة، وفي اللحظات التي تشعر فيها بالانتماء والاحترام المتبادل.
حين تغادر ديار البادية تحمل معك ذكريات جليلة عن قلوب نقية تغمرها المحبة والسلام. تلك الذكريات تبقى معك، تضيء دروب حياتك، وتذكرك دائماً بأنّ في قلب الصحراء، حيث يبدو كل شيء ساكناً وصامتاً، ينبض عالم مليء بالحياة والحيوية، عالم البدو الكرام.

أخبار متعلقة :