بوابة صوت بلادى بأمريكا

المدقريّ.. صورتان متناقضتان (7) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني

تعود الأفكار في غفوة الذكريات إلى أيام دراسة الثانوية الأزهرية، فتقتحمنا ذكريات الطفولة والتعليم؛ محملة بأحداثٍ وتجارب ترسم لوحات حية عن تباين الشخصيات وتأثيرها على مسارات حياتنا. تتجلى صورتان متنافرتان لأستاذين وسط هذا الحنين الذي يعكس صوراً متناقضةً للتربية والتعليم، كل منهما يحمل عالماً مختلفاً، وأسلوباً فريداً في التواصل مع الطلاب، وتنبثق من الدروس رؤيةٌ واضحةٌ عن طبيعة الإنسان وتأثيره في بناء شخصيته وتطويرها.
يبرز في الأستاذ الأول الجد والاجتهاد، ويُشكل صورةً للمعلم الذي لا يضيع لحظةً من الحصة الدراسية، فيعتبر كلّ دقيقةٍ فرصةً لنقل المعرفة، ولا يفوت فرصةً لاختبار فهم الطلاب ومتابعتهم بدقة واهتمام. ورغم ذلك يختلف تقدير الطلاب له، حيث يراه البعض صارمًا، فهو غير محبب لديهم، يحملون ذكريات مريرة عن حصصه الصعبة والمتعبة، ويرى البعض الآخر فيه شخصًا يهتم بتقديم المعرفة وتطوير قدرات طلابه، معتبرين أنه كان يمثل القدوة في العمل.
أما الآخر فيظهر بصورة مختلفة تمامًا، يمتزج حديثه بالحكايات والتجارب الشخصية، يضيع الحصص في كلامه الطويل عن نفسه وحياته خارج الدراسة، مما يؤثر على فهم الطلاب للمادة على المدى البعيد، لكنه يتمتع بشخصية محببة للطلاب، ينظرون إليه كصديق ومرشد، ويستمتعون بحصصه رغم قلة المعرفة التي يتم نقلها فيها، وقد يصل الأمر إلى انعدامها.
حين يلتقي الطلاب بمعلميهم بعد سنواتٍ عديدة يتغير مفهومهم عن الأساتذة، فيدركون قيمة الذي كان يضع الجد والاجتهاد في تعليمهم، ويشعرون بالضعف أمام الذي لم يراع الأمانة ولم يحرص على تطويرهم، فالحياة تظهر لنا أحيانًا قسوة الحقائق، وتجبرنا على تقدير الأشخاص والأمور بعد فوات الأوان؛ إذ التعليم ليس مجرد نقل المعرفة، بل هو تأسيس الشخصية وتوجيهها نحو التفوق في الحياة.
تظهر لنا هذه الشخصيات واقعيةً لا يمكن تجاهلها في مسارات حياتنا، وتكشف لنا تأثير المعلمين على شخصياتنا ومساراتنا التعليمية. إنها رحلة تتخللها تجارب مختلفة، وتأثيرات تترك بصماتها العميقة في ذاكرتنا. نستخلص العديد من الدروس القيمة، أولها أن الحكم على الأشخاص يجب أن يكون بعد فترة زمنية كافية لتقييم تأثيرهم وتأثيراتهم علينا، كما تظهر أيضًا أن التقدير للمعلمين قد يتغير مع مرور الوقت، وتبرز أهمية التقدير للجهود التعليمية التي تتجاوز حياتنا الأكاديمية.
 وفي غرفة الصف يمتلك الأستاذ الحريص روحًا متحمسة، وعيناً تتلألأ ببريق الاهتمام والاستعداد، يجلس الطلاب في صفوفهم، يترقبون بفارغ الصبر بداية الحصة، يعلمون أنها مليئة بالنشاط والتحدي. يبدأ الأستاذ بالترحيب الحار، يلتقط أنفاسه قليلاً، ثم ينطلق بصوتٍ واثقٍ في تقديم المادة، يشرح بوضوح وبإيماءات معبرة، يضع الأمثلة والتمارين؛ ليحفز تفكير الطلاب وينمي قدراتهم. 
إنّه مدرس لا يتوانى في تكرار الشرح إذا لزم الأمر؛ ليضمن أنّ كلّ طالب قد فهم المفاهيم الأساسية.
وبينما يمضي الزمن لا يتراخى الأستاذ في استغلال كل لحظة، يقوم بتوزيع المهام الصفية والواجبات المنزلية بشكل دقيق، محافظًا على توازن الحصص وتنوع الأنشطة. لا يتردد في إجراء الاختبارات المفاجئة لقياس مدى استيعاب الطلاب للمادة؛ مؤكدًا على أهمية المذاكرة اليومية والمتابعة المستمرة، وفي ختام حصته يستعرض مع الطلاب ما تم تعلمه، ويشجعهم على المضي قدمًا والاستمرار في التعلم والتطوير. ينثر كلمات الإشادة والتشجيع، مؤكدًا أن النجاح ليس مجرد تحصيل درجات، بل هو نتاج جهود مستمرة، وإصرار على التفوق.
هو معلمٌ متفانٍ حريصٌ على عدم تضييع وقت الحصة، يبذل الجهد الكامل في تعليم طلابه؛ ليخرجوا من صفه بمعرفةٍ متينة، وثقةٍ عالية بقدراتهم، مستعدين لمواجهة تحديات الحياة بكلّ ثقة وإيمان بقدرتهم على التميز.
وتتشكل في ذاكرتي أيضاً صورة معلمٍ بلا اهتمام، يتوارى في زوايا الصف، ويضيع بين صفحات الدروس، دون أن يلقي بصره على طلابه الذين ينتظرون بفارغ الصبر قطرات المعرفة. هو ذلك المعلم الذي لا يشعر بأهمية تعليم الطلاب أو توجيههم نحو الفهم الصحيح للمادة، بل يتركهم يسبحون في بحر الجهل، مكبلين بقيود عدم الفهم والاستيعاب.
تطل علينا تحية الصباح، وتتراقص بهجة الدروس في الأفق، لكنّه يظل جالسًا على كرسي مكتبه، كأنه محاصر بجدران اللامبالاة، لا يشعر بالحماس الذي يعم المكان، يتجاهل أسئلتنا واستفساراتنا، ويبدو أنّه غارق في عالمه الخاص، لا يهتم إلا بانتهاء الحصة دونما بذل جهد يذكر.
ما يفقده من قيمة في عيون الطلاب يتضح بوضوح في ضيق الفهم وتباين المستويات الدراسية بين الطلاب، فالبعض يضيع وقته في محاولة فهم المفاهيم بمفرده، بينما يبحث البعض الآخر عن مصادر تعلم بديلة لسدّ النقص الذي يعانون منه، ثم يمضي في نهاية الحصة دون أن يلقي بصره على طلابه، لا يشعر بثقل المسؤولية التي حملها على عاتقه. 
أدرك الآن أنّ مرحلة الطلب قد انتهت، وأن التقدير للمعلمين يجب أن يكون بناءً على جودة تعليمهم ورعايتهم، ليس فقط بناءً على إظهار التقدير والحب لطلابهم دون اهتمام حقيقي بالعملية التعليمية، لكن بعد هذه السنين يجب علينا أن نتجاوز هذا المعلم بأفعاله، وننظر دائماً إلى التطوير من خلال الاستفادة من تجاربنا، ومواجهة التحديات بكلّ ثقة؛ إيماناً بأننا قادرون على تحقيق النجاح في مساراتنا الخاصة.

أخبار متعلقة :