بوابة صوت بلادى بأمريكا

جيتوهات مدن العزلة الجديدة بقلم : مدحت بشاي

 
 
في موقف شهير وبرؤية وطنية جُبل عليها كان رد قداسة البابا شنودة الثالث على إحدى الادعاءات الغريبة حول سعيه إلى وجود دولة منفصلة للأقباط في صعيد مصر ، فأكد أن ذلك التوجه ضد مصلحة الأقباط ففي وجودهم وسط إخوانهم المصريين يمثل الأمن والأمان لهم وللوطن الحبيب..
إنها مصر وطني العظيم الذي ماعرف بنيه عبر التاريخ الوطني الحضاري أسوارًا وسياجات ومناطق يستقل بها مواطنين على أي أساس تمييزي يعوق حالة الاندماج الوطني والإنساني مهما عصف بالوطن والمواطن الكوارث والمحن والخطوب الطبيعية أو الإنسانية بكل ما تفرضها من تحديات صعبة ..
وعليه ، كان أمر الإقبال على إنشاء المدن الجديدة بأعداد كبيرة ، والتي باتت تمثل مجتمعات مستقلة لبشر بعينهم من الأمور المدهشة والتي تتلاحق رؤيتها في مشاهد سينمائية أو تليفزيونية لفنانين وفنانات يتم تصويرهم حول حمامات سباحة قصورها المنيفة وبين مروج الحدائق الغناء الاسطورية المحيطة بها أو في صالات الاستقبال الملكية الداخلية التي تعج بها دراما الحواديت الرمضانية الخيالية ، وتستفزنا بتكرار عرضها الممل في إعلانات تصاحبها تعليقات متجاوزة كل إحساس بمعاناة مواطن المساكن الشعبية وأخوه قاطن العزب الملحقة بالكفور الملحقة بقرى أهالينا الطيبين.. 
في المنطقة التي أعيش فيها قامت مؤسسة كبيرة منذ ربع قرن من الزمان تقريبًا ببناء ما يقرب من عشرين عمارة في منطقة مجاورة لسكننا ، وعلى مدى زمن المعايشة لسكانها تشاركنا وتقاربنا معهم عبر المعاملات اليومية الحياتية مع المكوجي والجزار والفرن والترزي والحلاق والنجار والكهربائي .. حتى كان قرار إدارة تلك المؤسسة بتحديث وتجميل منطقة العمارات الجديدة بمساحات خضراء ومناطق كموقف لسيارات السكان ، ثم كان قرار بناء سور مرتفع فاصل بيننا وبينهم دعمًا لفكرة استقلالية وفصل وجود السكان الجدد عن السكان القدامى بالمنطقة ، وتسبب ذلك السياج في فصلنا وابتعادنا عن الشارع الرئيسي ، وفصل وابتعاد أهالينا الجدد عن كل مناطق ومحلات وسوق الخضار في الحي القديم ..حدث ذلك الفصل الاجتماعي بعد زمن من التواصل الإنساني والاجتماعي الجميل ، فهل ستتبدل مشاعر أهل الاندماج الاجتماعي الإيجابية إلى أخرى سلبية قد تتسم بالحقد والحسد من جانب والعنجهية والتفاخر من الجانب الآخر ؟.. ننتظر لنرى ..
في الواقع ، لا أعرف من صاحب فكرة إنشاء تلك المدن المغلقة بمتاريس وحراسات وقوات أمن ، وبيوت ــ أقصد قصور طبعًا ــ وحدائق محيطة وسيارات ومناطق خدمات تتشابه جميعا في الألوان والقيمة المادية .. نحن في تلك المدن أمام نسخ تتكرر حتى لتتشابه وجوه ساكنيها وأحلامهم وتطلعاتهم ونظرتهم للدنيا وللناس خارج مدنهم الفسفورية اللامعة الأسطورية !! 
وفكرة الفصل والاستقلالية إلى حد العزل لسكان تلك المدن لم تكن مطروحة عند إنشاء أحياء جديدة مثل حي مصر الجديدة أو مدينة نصرى على سبيل المثال في الماضي القريب .. فهي أحياء غير معزولة ولها امتدادات وتواصل مع الأحياء المجاورة ..
لقد أكد الباحث الأثري "تامر المنشاوي" أن حي "مصر الجديدة" من أرقى ضواحي القاهرة الكبرى التي أسسها البلجيكي البارون أمبان صاحب قصر (البارون) الأثرى، والذي حرص الرئيس عبد الفتاح السيسى رئيس الجمهورية على افتتاحه مع مشروعات تطوير شرق القاهرة بعد انتهاء مشروع ترميمه وتحويله لمعرض أثري يحكي تاريخ حي مصر الجديدة ومظاهر ونمط الحياة في تلك الفترة الزمنية المميزة. وأضاف أن الهدف الرئيسي كان إنشاء خط سكة حديد وخطوط ترام لربط منطقة وسط القاهرة بالمدينة الجديدة في مقابل بناء حي جديد على مساحة 25 كم مربع، وأطلق عليه (هليوبوليس) ، وهو اسم يوناني أطلقه اليونانيون على مدينة (أون) المصرية القديمة، التي تعني مدينة "الشمس" ، وكانت تجمع حيي"المطرية وعين شمس" المتاخمين لمصر الجديدة.و أكد أن مصر الجديدة تضم مجمعًا للأديان متكامل (مساجد وكنائس أثرية ومعبد يهودي) تدل جميعها على التسامح السمة الأساسية للمصريين، حيث يوجد بها (مسجد عباس) في ميدان الجامع، وهو أول مسجد في حي مصر الجديدة تم افتتاحه عام 1911 ويطلق عليه حاليا اسم( مسجد جمال الدين الأفغاني)، كما يوجد (مسجد حفيظة الالفي) ثاني مسجد في مصر الجديد الذي تم إنشاؤه عام 1930 وهو مسجد السيدة حفيظة رستم حلمي الألفي حرم يوسف بك نجيب ويقع في شارع بيروت. وأضاف أنه يوجد (مسجد السلطان حسين كامل) بالقرب من قصر السلطانة ملك وتم تغيير اسمه إلى (مسجد الثورة) ،و يحتوي بداخله علي منبر يحمل اسم الملك أحمد فؤاد الأول. وبالنسبة للكنائس الأثرية، اشار الى ان اشهر تلك الكنائس (كنيسة البازليك) ،التي قام بإنشائها مؤسس مصر الجديدة البارون امبان ،وهو مدفون داخل قبو أسفلها في 17 فبراير عام 1930،وتعتبر من أشهر المعالم التاريخية و التراثية في منطقة هليوبوليس،كما يوجد ( كنيسة مارمرقس) الواقعة في شارع كليوباترا ، والتي تم وضع حجر أساسها عام 1922. وأما عن المعبد اليهودي في مصر الجديدة، قال إنه يوجد في شارع المسلة ويطلق عليه إسم (معبد فيتالي ماجار) وتم بناؤه عام 1927 ولذلك تعد مصر الجديدة مجمعا تراثيا يضم ثلاثة أديان سماوية تعبر عن عظمة التسامح والتعايش في هذه المنطقة التاريخية.
تذكرنا فكرة إنشاء المدن الجديدة بجيتوهات اليهود في الماضي ، وجيتو) تُسْتخدم بشكلٍ خاص للإشارة لأحياء اليهود في أوروبا ) ، وقد أُقيم أول جيتو يهودي في " روما " عام 1516
وللجيتو أسماء مُتعددة؛ من بينها ما أُطلق عليه:الحي الرابع وهو عبارة عن جزء من المدينة تعمد الدولة إلى إسكان اليهود فيه؛ لتسهيل معرفة تحرُّكاتهم والوقوف على أحوالهم، وسبب التسمية أنَّ المدينة كانتْ تُقَسَّم إلى أربعة أقسام، أو أربعة أحياء، وكان أحد هذه الأحياء يُخَصَّص لليهود.وكانتْ هذه الأحياء مُحَاطَة بالأسوار العالية، وقد انتشرَ الجيتو المغْلَق جدًّا في نهاية العصور الوسطى في إسبانيا وإيطاليا وأوروبا الشرقيَّة، وغالبًا ما أُجبِرَ اليهود على التجمُّع في أسوأ الأماكن من المدينة، وكانوا يضعون حارسًا على باب كلِّ جيتو؛ لمنع اليهود من مغادرته في ساعات الليل، أو في الأعياد المسيحيَّة، وكان اليهود يستأْجِرون حُرَّاسًا خصوصيين منهم؛ لحراستهم في الليل، وغُرف هذه الحراسة تقعُ فوق الأسْطُح وتُوزَّع على الحي كلِّه.
أخيرًا ، لعل مقالي يستثير بيوت التفكير ومراكز البحث الاجتماعي والنفسي وإدارات استطلاع الآراء للإجابة عن الكثير من الأسئلة حول ظاهرة الانتشار الهائلة لبناء مدن الأحلام والعزلة ..
• ماهو تأثير مدن العزلة حول تراجع حالة الاندماج الوطني والاجتماعي والإنساني ؟
• لماذا لا نطالب أصحاب تلك المشاريع العملاقة وملاك الوحدات العقارية بها في المساهمة بأموالهم وخبراتهم في دعم المبادرات الرئاسية الرائعة وفي مقدمتها " حياة كريمة " والمشاريع الوطنية التي يقيمها صندوق "تحيا مصر " بنسب يتم تحديدها والالتزام بتسديدها بعد أن خرجت كل تلك المليارات لدنيا المشاريع والاستثمارات لتشييد المدن العملاقة ؟!!
• كيف يمكن مقاومة الثقافة الجديدة التي يمكن أن تشمل توجهات وسلوكيات أبناء مدن العزلة ؟
وللمقال تتمة في عمود قادم بإذن الله..
 
 
 

أخبار متعلقة :