بوابة صوت بلادى بأمريكا

د. محمد فتحي عبد العال يكتب : قصة النسر المصري ونجاح أول محاولة مصرية للطيران في رمضان

مثّل الطيران حلمَا للفلاسفة عبر العهود الماضية، فقد قام الفيلسوف الإغريقي "أرخيتاس" بتجربة آلة طائرة هي نموذج على شكل طائر مدفوعة بالبخار أطلق عليها "الحمامة" قطعت مسافة 200 متر وفي الأساطير أن "إيكاروس" وأباه  "دايدالوس" اليوناني المعماري طارا بأجنحة من الريش والشمع مثبتة على ظهريهما هربا من  “مينوس“ ملك جزيرة "كريت" الذي كان يحتجزهما وأن "إيكاروس" عصى أبيه واقترب من الشمس فأذابت الشمع المثبت لجناحيه فسقط في البحر صريعا وابتلعته أمواجه في المنطقة التي هي الآن تسمى ببحر إيجة قرب إيكاريا. 
وكذلك أظهر الطيران  تحديَا كبيرَا للعلماء وفي مقدمتهم العرب المسلمون والذين سعوا سعيَا حثيثَا لبلوغ هذه الغاية، ولعل أشهر تلك المحاولات ما قام بها "عباس بن فرناس"(810-887م)، وقد كان  عالمًا في ضروب شتى من العلوم، فعلاوة على الفلك الذي اقترن به ومحاولته الطيران فقد برع في الشعر والموسيقى والطب والصيدلة وصناعة الساعات أيضا أو "الميقاتة"، وهي ساعة تعمل بالطاقة المائية، وهو أول من صنع النظارات الطبية بعدسات لتصحيح الإبصار،  وأول من صنع الزجاج الشفاف من الحجارة فكان يستخدم أحجار المور والكريستال الصلب في صناعة العدسات والمناظير الفلكية، كما كان ملهمَا لصناعة أقلام الحبر عبر صناعة اسطوانة بها حاوية للحبر وبنهايتها طرف مدبب للكتابة..
لقد كان سابقا عصره بحق ..وقد ذاع صيته في العصر الأموي بالأندلس، حيث عاش بقرطبة إلى حد أن أطلقوا عليه حكيم الأندلس، أما قصته مع الطيران فبدأت حينما  تأمل قوله تعالى في سورة الملك الآية 19 : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَـنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) وتفتق ذهنه أنه لو قلد الطيور في طيرانها عبر صناعة جناحين من الريش وكساهما بالحرير بقياسات علمية دقيقة ليسر للناس طرق السفر والترحال وبالفعل نفذ فكرته ونجح في الطيران مسافة قصيرة بالقرب من قصر الرصافة عام 875م، لكنه سقط وأصيب ببعض الجروح لكنه تعافى منها؛ ذلك أنه لم يعد لمسألة الهبوط عدتها وأهمل محاكاة الطير بشكل كامل، فلم يصنع ذيلاً يساعده على الهبوط فسقط، وشاع أنه مات جراء هذه المحاولة، والحقيقة  أن خلط قد  حصل  بين محاولته ومحاولة لاحقة عليه قام بها عالم لغوي يدعى "أبو العباس الجوهري" بخراسان على سطح منزله وقيل المسجد، حيث صنع شراعَا خشبيَا حول نفسه وفشل ومات من جرائها حوالي عام 1003م.
أتبع ذلك  محاولة غير موثقة من الراهب  "إلمر المالمسبوري" للطيران بطائرة شراعية في إنجلترا بين عامي 1000-1010م وفشلت لأنه نسي هو الآخر وضع ذيل في الجزء الخلفي. 
وفي عام 1632م قام العالم العثماني "هزارفن أحمد جلبي" بمحاولة جديدة للطيران بأجنحة اصطناعية من أعلى برج غلاطة ( القسم الأوروبي) في مدينة إسطنبول إلى "دوغانجيلار" في منطقة أسكدار الواقعة في القسم الآسيوي من نفس  المدينة  ويفصل بينهما مضيق البسفور وذلك وسط حضور كبير من السلطان العثماني مراد الرابع والصدر الأعظم والوزراء وأهالي المدينة..
تحقق الحلم الذي ساور العرب وجاهدوا في الوصول  إليه  ولكن هذه المرة عبر الغرب وتحديدا  بواسطة الأخوين الأمريكيين "أورفيل وويلبر رايت" حينما نجحا في اختراع أول طائرة والقيام  بأول تجربة طيران ناجحة بواسطة  آلة أثقل من الهواء وذلك في 17 ديسمبر 1903م، وكانت أطول رحلة طيران حققها "أورفيل رايت" قد استغرقت 75 دقيقة على ارتفاع قرابة المائة متر.
 
لم تكن تجارب الغرب في الطيران الحديث  لتمر مرور الكرام في عالمنا العربي دون محاكاتها ومنافستها خاصة بين أوساط  المصريين منهم ، كانت المحاولة الأولى من جانب "حسن انيس باشا" أول مصري يتعلم فن الطيران بشكل عملي وبحسب حديث معه بمجلة "العالم" في ٢٦ يوليو ١٩٢٦م، فقد بدأ اهتمامه بفن الطيران عام ١٩٠٨م بعد لقاء جمعه بباريس بزميله "هوبير لاتام" من أيام الدراسة بجامعة أكسفورد بإنجلترا، وكانا قد افترقا قبلها بعامين حيث تطرق الحديث إلى مشروعات الأخير ومجهوداته في الطيران، ومنها محاولته الفاشلة لعبور المانش  مما آثار حماس "حسن أنيس باشا" فظل على تواصله معه وفي عام ١٩١١م جمعهما اللقاء مرة أخرى وبدأ حسن أنيس باشا رحلة التمرين العملي حتى حصل عام ١٩١٢م على التصريح بقيادة الطائرة ووسام من جمعية الطيران بباريس في أواخر عام ١٩١١م في السنغال، كما ساعد الطيار "مارك بورب" في الترتيب لرحلته من مصر للخرطوم ذهابا وايابا عام 1913م .
 
خاض حسن أنيس باشا أولى محاولاته العملية للطيران عام ١٩٢٤م وكان وكيلا لوزارة الخارجية وأحيل للمعاش المبكر وحصل على تعويض قدره ثلاثين ألف جنيه بعد دعوى قضائية أقامها، وسافر إلى أوروبا واشترى طائرة ألمانية أسماها "أنيسة"وخاض رحلة شاقة من لندن في طريقه إلى مصر استغرقت ثمانية عشرة ساعة في خضم طقس أوروبي متقلب وغير آمن، غير أنه وما أن وصل جزيرة "كريت" في نوفمبر 1924 وأصبح على مسيرة ساعات بطائرته المائية قاب قوسين أو أدنى من مدينة الإسكندرية صدرت الأوامر بمنع هبوطه بطائرته لمصر فقضى بجزيرة "كريت"  أربعة أيام في انتظار  باخرة تقله لأرض الوطن والحزن يعتصره، ومما ضاعف من ألمه تركه  لطيارته "أنيسة" بالجزيرة هذا بحسب روايته. 
 
ثمة رواية أخرى تناقض رواية "حسن باشا أنيس" في بعض تفاصيلها أوردها "محمد زيور" سكرتير عام ومراقب وزارة المواصلات سابقاً بمجلة المصور عام 1957م من أن "حسن أنيس باشا"  حضر بالفعل بطائرته المائية إلى مصر، ونزل بها فى النيل بالقرب من سراى محمود فخرى باشا ضاربا عرض الحائط بأوامر وزارة المواصلات له بعدم القدوم بها، حيث جرى التحفظ عليها بواسطة  قوة بوليس من بندر الجيزة ثم الإفراج عنها لاحقا والسماح لحسن  أنيس باشا بالعودة بها من حيث أتى ..وهكذا أجهض حلم أول طيار مصري في نيل هذا السبق الفريد.
 
لكن هذا التعثر لم ينل من عزيمة مصريين آخرين داعبت أنفسهم الرغبة في المغامرة وارتياد نفس السبيل الوعر ..
 
وفي عام ١٩٢٩م قرر الطيار "محمد رشدي أفندي طبوزادة" القدوم بطائرته الخاصة من إنجلترا إلى مصر وكان محمد رشدي أفندي من الدفعات الأولى التي درست الميكانيكا في مدرسة الهندسة الملكية بالجيزة، وأوفدته الحكومة المصرية للحصول على إجازتي الطيران الخاص والتجاري وهندسة الطيران، ورغم أن الحكومة المصرية رصدت في سبيل إنجاح رحلته ثلاثة آلاف جنيه إلا أنها باءت بالفشل هي الأخرى ذلك أن الخبيرين الإنجليزين الموكل بهما تدريبه أوصيا بعدم قيامه بالرحلة؛ لأنه لم ينل التدريب الكافي للاضطلاع بهذه المهمة. 
 
أما المحاولة الفاشلة الثالثة فكانت من نصيب "أحمد حسنين باشا" حيث أرسله الملك فؤاد عام ١٩٣٠م لشراء طائرة ذات مقعدين من نوع "موث" من لندن أطلق عليها اسم الأميرة "فايقة" ابنة الملك فؤاد لتكون نواة لنادي الطيران المصري الوليد لكن سوء الطالع كان ملازمًا لحسنين باشا في هذه المغامرة، إذ انفجر الإطار الأمامي للطائرة على مدرج مطار "هيوستون" قبل إقلاعها ومع إعادة التجربة تعطلت في سماء إيطاليا وسقطت بأحمد حسنين باشا والذي أصيب إصابات بالغة كادت تودي بحياته ..
 
أحمد حسنين باشا لمن لا يعرفه هو خريج أكسفورد،  والبطل الدولي في لعبة الشيش، وقد خاض عام 1920م تجربة جريئة؛ لاستكشاف الصحراء الغربية برفقة السيدة الإنجليزية (روزيتا نوريس)، حيث تمكنا من  اكتشاف واحتي العوينات وأركنو للمرة الأولى، ولقب بعدها بـ"الرحالة العظيم"، وقد أقام له الملك فؤاد حفل تكريم بفندق سان استيفانو بالإسكندرية عام 1923 أنشد فيه أمير الشعراء أحمد شوقي أبياتا تقول :
 
"أَكبَرتُ مِن حَسَنَينٍ هِمَّةً طَمَحَت  تَروُم ما لا يَرومُ الفِتيَةُ القُنُعُ
 
وَما البُطولَةُ إِلّا النَفسُ تَدفَعُها   فيما يُبَلِغُها حَمداً فَتَندَفِعُ
 
وَلا يُبالي لَها أَهلٌ إِذا وَصَلوا  طاحوا عَلى جَنَباتِ الحَمدِ أَم رَجَعوا
 
رَحّالَةَ الشَرقِ إِنَّ البيدَ قَد عَلِمَت  بِأَنَّكَ اللَيثُ لَم يُخلَق لَهُ الفَزَعُ"
 
وحسنين باشا، هو نفسه رئيس الديوان الملكي في عهد فاروق والزوج العرفي لأمه الملكة نازلي زوجة الملك فؤاد الثانية !، والطريف أن أحد شهود هذا الزواج العرفي كان فنانا الكبير "سليمان نجيب بك" الصديق المقرب من أحمد حسنين باشا !!..
 
ضياع هذه  المحاولات سدى  لم يخفت الحلم في نفوس المصريين التواقين إلى منافسة الغرب المستعمر ومحاولة التفوق عليه..
 
النجاحات الغربية في هذه الآونة كانت عنصرا إضافيا في استنهاض همم المصريين في كل مرة يخفقون فيها فالصحف وكتب الرحلات تكتب  عن البلدان المتقدمة التي تستخدم  الطائرات   لرش الحشرة التي تصيب لويزات القطن محصولهم الاستراتيجي بمادة سامة  وتقضي على كثير من أمراض النبات ومصر البلد الزراعي الرائد منذ عهد الفراعنة العظام لازالت تستخدم وسائل قديمة أو تحتاج المستعمر لحل مشاكلها ..وهاهم يرون أيضا الطيار الإنجليزي  "السر آلن كوبهام " يحلق بطائرته الشراعية عام ١٩٢٨م في سماء مصر  عند "أبيدوس" بسوهاج وواحة سيوة حيث قطع المسافة من القاهرة لأسوان في بحر  أربع ساعات لتسقط طائرته لعطل بها في "أبيدوس" ويتجمع حوله الأهالي ويستضيفه عمدتها..وهاهو أيضا المنطاد الالماني جراف زبلن يمر بسماء مصر في مارس ١٩٢٩م دون النزول على أراضيها أو المرور بقناة السويس نتيجة للمعارضة البريطانية باعتبار المسألة أمن قومي ..
 
مع اقتراب شهر رمضان الكريم عام ١٩٣٠ م كان المصريون على موعد مع أول سبق لهم في مجال الطيران وبداية تحقيق حلمهم الطويل حينما غادر الطيار "محمد صدقي" مطار برلين في ١٢ يناير عام ١٩٣٠م  بطيارته الرياضية  الخاصة الصغيرة والألمانية الصنع ذات المحرك الواحد والمكشوفة بدون غطاء زجاجي وفي مقعدها الخلفي تمساح صغير كان يتفاءل به ووجهته مصر ...كانت الطائرة تحمل اسم الأميرة "فايزة" تيمنا باسم ابنة الملك فؤاد ملك مصر آنذاك التي ولدت قبل نحو سبع سنوات من هذا التاريخ.
 
تحدى النسر المصري كل المعوقات التي صادفته وفي مقدمتها الطقس غير المستقر حيث قطع رحلته المثيرة والخطيرة عبر ربوع أوروبا فحلق في  تشيكوسلوفاكيا ثم إلى مملكة يوغسلافيا ثم البحر الأبيض المتوسط الذي طار فوقه وبرنديزي بإيطاليا إلى أن وصل للسلوم داخل مصر.
 
وبعدها واصل طيرانه إلى الإسكندرية حيث وصل مطار أبوقير في ٢٥ يناير ١٩٣٠م  ثم إلى القاهرة ليصلها يوم 26 يناير 1930م في مطار هليوبوليس ( كان المطار الوحيد في مصر وكان تابعا للإنجليز وحل محله مطار ألماظة العسكري المصري ، حيث كان في استقباله اللواء محمد صادق يحيى باشا كبير الياوران مندوبًا عن الملك فؤاد ملك مصر آنذاك، ورئيس الوزراء آنذاك مصطفى باشا النحاس، ووزير المواصلات محمود فهمي النقراشي باشا، وحسن حسيب باشا وزير الحربية والبحرية، ومحمد نجيب الغرابلي وزير الحقانية، والأمير عباس حليم، والبارون فون شتورر وزير ألمانيا المفوض. 
 
ومنذ ذلك التاريخ اعتبر يوم 26 يناير من كل عام عيدا قوميا للطيران المدني تحتفل به مصر ..كان في طليعة المحتفين بالبطل المصري أيضا  "محمد طلعت حرب باشا" الاقتصادي المصري الكبير، والذي رأس لجنة الاحتفالات لتكريم صدقي ومنحه ألف جنيه هدية، والطريف أن صدقي كان أحد موظفيه في بنك مصر في الماضي  وفي كلمة له في تياترو حديقة الأزبكية قال طلعت حرب: "إننا إذا احتفلنا اليوم بصدقى فإنما نحتفل به تكريما لشخصه ولصفات البطولة التى انطوت عليها نفسه، ونحتفل به؛ لأن ما قام به يعتبر رمزًا جليلاً على اقتدار  المصرى فى مغالبة الصعاب، والتغلب عليها  ومطارحة المجد بثمن الحياة للفوز به فى سبيل الوطن.. كنا قبل وصوله نشعر بنقص  فى استكمال أدواتنا القومية لا لعجز عن استكمالها ولكن لأسباب قهرية، وكنا نشعر بأن الأمم الأخرى اسبق منا فى ميادين الطيران، ونحن أحق بأن نجاريها فى استعمال الهواء كما تستعمله هى سواء بسواء، وكان يزيد المنا بهذا النقص أن الطيران واسطة  بريئة للنقل  التجارى يتقدم بسرعة هائلة، ونحن مع  هذا محرومون من حق الانتفاع بهذه الواسطة فى جونا الصافى، حتى ومحرومون من تحضير أبنائنا فى مطارات لنا خاصة !.. أما وقد وصل إلينا صدقي فإن وصوله يعتبر فوزا للمصريين ودليلا ناهضا على إمكان تكوين أمثاله من الطيارين المصريين وباعثاً منشطًا  على تذليل الصعاب  لإنشاء أسراب من الطيارات المصرية لتسهيل النقل الجوى أسوة بما تقوم به الأمم الأخرى !!". 
كما أعد كبار الشعراء قصائدهم إكبارا لعمله  الذي  أبطل "استعلاء الغرب عليهم"  بحسب وصف الكاتب الروائى يحى حقى، فى كتابه "صفحات من تاريخ مصر" حيث شدا شاعر القطرين "خليل مطران" بقصيدة مطلعها :
 
عائدًا برعاية الرحمن.. النيل راض عنك والهرمان
 
وقال أمير الشعراء أحمد شوقى
 
لِمَ لا يُفتَنُ فِتيانَ الحِمى. ذَلِكَ الإِقدامُ أَو ذاكَ الطِماح
 
مِن فَتىً حَلَّ مِنَ الجَوِّ بِهِم. فَتَلَقّوهُ عَلى هامٍ وَراح
 
إِنَّهُ أَوَّلُ عُصفورٍ لَهُم. هَزَّ في الجَوِّ جَناحَيهِ وَصاح   
 
وكتب عبدالغنى حسن:
 
تخذ السماء إلى علاه مطارا.. ورمى بأجواز الفضاء وطارا
 
وفي ٢٩ يناير ١٩٣٠م أقام له أول نادي للطيران المصري حفلة في قصر الأمير عمرو إبراهيم بدعوة منه احتفاء بأول طيار مصري حضرها صفوة المجتمع المصري وفي مقدمتهم حسن أنيس باشا الذي وصف عمل صدقي بالجرىء، كما ألف الأمير عمر طوسون جمعية للاحتفال بالنسر المصري في الإسكندرية ومنحها له خمسمائة جنيها.
 
بقي أن نعرف من هو بطل هذه المحاولة الناجحة عن كثب والتي حولت احتفال المصريين بقدوم شهر رمضان المعظم  عام ١٩٣٠ م إلى احتفالين ؟!..بحسب المعلومات عنه فالطيار المصري الباسل "محمد أفندي صدقي" خاله الوجيه الأديب الأستاذ "بهجت بك البتانوني" ووقت الرحلة كان في عمر الثلاثين ( من مواليد ١٨٩٩م لأب من ضباط المدفعية بحي سراي القبة)، وهو حائز على دبلوم التجارة العليا ولقب الدكتوراه فيها من إحدى جامعات ألمانيا، وقد أتم دراسة الطيران على يد (الهرببتر) من أعلام الطيران في مطار كاسل بألمانيا، ونال شهادته عام ١٩٢٨م وقدمها إلى سلاح الطيران البريطاني في لندن ونال تصديقه عليها، وزوجته سيدة ألمانية هي حفيدة الموسيقي الشهير "باخ" (السيدة فرانسيسكا فيلهلم باخ تزوجها عام ١٩٢١م ) "وله ولد منها هو "أسامة صدقي ( أصبحا طيارًا فيما بعد )، وهذا بحسب ماجاء عنه في "اللطائف المصورة" في عددها ٧٧٦ في ٢٣ ديسمبر ١٩٢٩م.
وفي حديث معه على مجلة "مصر الحديثة" العدد ٣٠ في ٣٠ يناير ١٩٣٠م تحدث عن الأثر الطيب في ارتياد الصعاب الذي تركه في نفسه معلم اللغة العربية في مدرسة الناصرية إذ كان يردد :
 
لأستسهلن الصعب أو أدرك المُنى ..فما انقادت الآمال إلا لصابر 
 
كما تطرق في الحديث حول مستقبله كطيار في مصر فهو كالتاجر الذي يعرض بضاعته فإذا استحسنها الجمهور وأقبل عليها فهو توفيق من الله وإن أعرض عليها فليس على المرء أن تتم المقاصد وهو يرى بصيص من النور مع رغبة وزارة الشعب ( يقصد وزارة الوفد ) وحدسه من أن ميجر "لونج" مستشار الطيران في وزارة المواصلات لن يمانع أن يكون لمصر طيارين يحلقون في أجوائها وأن تكون مصر في مصاف الدول المتحضرة .
 
تزعم بعض الروايات أنه سرعان ما تبخرت آمال صدقي وأحلامه وفي ٢٧ يونيو من نفس العام عاد  من حيث أتي حيث انطلق من مطار هليوبوليس راجعا لألمانيا، حيث شعر بعدم التقدير من جانب الحكومة المصرية التي عرضت عليه وظيفة صغيرة براتب متواضع لا يعادل ما يحصل عليه طيار في ساعة واحدة ولا يكفي للعناية بطائرته،لكن وتبعا لموسوعة "الأعلام" لخير الدين الزركلي فإن صدقي  عمل في شركة مصر للطيران، فكان كبير طياريها، ثم اختارته مصلحة الطيران المدني مفتشا عاما لها، وتوفي بالقاهرة عام 1944م، وهو ما يمكن أن نستنتج منه أن جهود  طلعت حرب باشا لم تتوقف فقط عند  صدور المرسوم الملكى فى يوم 7 مايو 1932م بانشاء شركة مصر للطيران، بل تعدت ذلك لضم صدقي إلى طاقمها والذي توارت سيرته بشكل كبير ومما يروى أن صدقي أهدى طائرته "الأميرة فايزة" للشركة وسجلت في السجلات المصرية عام ١٩٣٢م.
 
العنصر النسائي لم يكن غائبًا أيضًا عن المحاولات الأولى للطيران المصري ولنا في "لطيفة النادي" مثالاً رائدًا فقد اصطدمت الفتاة العاشقة للحرية والطيران بمعارضة والدها الموظف بالمطابع الأميرية، حينما أرادت دخول عالم الطيران عقب تشجيع "طلعت حرب" للفتيات المصريات لاقتحام المجال والتدريب عليه، ومن ثم العمل  بشركة مصر للطيران  الوليدة، وقد استطاعت "لطيفة" تحقيق حلمها عبر السيد "كمال علوي"( تعلم قيادة الطائرات في فرنسا،وهو صاحب أول طائرة يتم تسجيلها في مصر كان قد اشتراها وشحنها) مدير عام شركة مصر للطيران، والذي رحب بطموحاتها ورتب لها عملا كسكرتيرة بالشركة؛ نظير راتب شهري حتى تتمكن من الاعتماد على نفسها في تدبير نفقات الدراسة، واستطاعت بمهارة وفي غضون سبعة وستين يوما أن تتمكن من قيادة الطائرة بمفردها  بعد ثلاث عشرة ساعة من الطيران المزدوج مع "مستر كارول" كبير معلمي الطيران بالمدرسة في مطار ألماظة (افتتحه الملك فؤاد في 2 يونيو 1932م كأول مطار مصري) . 
 
وفي اكتوبر  ١٩٣٣م، وفي عمر السادسة والعشرين أصبحت أول كابتن طيار من الجنس اللطيف وصارت الطيار رقم   ٣٤ في تعداد الطيارين المصريين الحاصلين على إجازة الطيران بالمملكة المصرية، ومع حديث الصحافة عنها وعن نجاحها الغير مسبوق بأقلام كبار الصحفيين مثل الاستاذ "فكري أباظة" في المصور والاستاذ "أحمد حسن الزيات" في الرسالة وغيرهم علاوة على تكريم مدرسة مصر للطيران لها في احتفال حضرته السيدة "هدى شعراوي"، والتي أهدتها قلادة من الذهب المرصع بالماس صنع خصيصا لها وحجر من العقيق الأحمر عليه آية الكرسي من جمعية الإتحاد النسائي،  كما أهداها طلعت حرب باشا عشر ساعات طيران مجانا تحمل قيمتها  كل هذا  جعل الأب يرضى  أخيرًا عن ابنته وتبدل غضبه الناتج عن خوفه عليها إلى فخر وانبهار.   
 
شاركت لطيفة في سباق  الطيران الدولي للسرعة من القاهرة إلى الإسكندرية في ١٩ ديسمبر ١٩٣٣مم، وكادت لطيفة أن تقترب من الحصول على المركز الأول في السباق، لكن التحكيم الإنجليزي اعترض على تأهلها للمركز الأول وحجب النتيجة بحجة أن  الطائرة لم تمر إلا على خيمة واحدة في المكان المحدد للعودة من الأسكندرية والموجود خيمتان، لكن إعجاب المجتمع المصري بإقدامها وخاصة الملك فؤاد رائد النهضة التعليمية في مصر على جميع الأصعدة، علاوة على توصية لجنة المسابقة دفع في اتجاه  صرف جائزة شرفية لها وقدرها مئتي جنيه تشجيعا لها على الاستمرار.
 
كما بعثت لها هدى شعراوي ببرقية فخر واعتزاز تقول فيها: "شرّفت وطنكِ، ورفعت رأسنا، وتوجت نهضتنا بتاج الفخر، بارك الله فيكِ"..كما دعت هدى شعراوي إلى مشروع اكتتاب من أجل شراء طائرة خاصة للطيفة تجوب العالم بها باسم مصر وسفيرة لها واهتمت الصحافة بهذه الدعوة باعتبارها أدنى ما تهديه أمة عظيمة كريمة كالأمة المصرية لفتاتها وكانت "هدى شعراوى" أولى المتبرعات بمائة جنيه ..لكن الجلي أن المشروع لم يكتمل ربما لقلة التبرعات وإحجام أغنياء مصر عن تمويله ..حصلت لطيفة النادي عى الجنسية السويسرية وتوفيت عام 2002م بمصر .

أخبار متعلقة :