بوابة صوت بلادى بأمريكا

تخاذل وخنوع ؟؟؟ بقلم :ماهر اللطيف


يقولون إن غزة - فلسطين كاملة تحديدا - مستعمرة ومحاصرة، منكوبة وتخضع لأقسى أنواع التقتيل والتشريد والتجويع والتهجير الطوعي والقسري وغيرها من المظاهر القاتمة الأخرى التي يندى لها الجبين ، ويقولون إن العالم العربي حر ينعم بالرخاء والصفاء والسخاء وطيب العيش وغيرها من صفات البذخ والترف  و "النعم" التي أنعم بها الله على هذه الأمة... 
وفي الحقيقة، فإن هذه الأقوال صحيحة مائة بالمائة نظريا وظاهريا وتاريخيا وجغرافيا وحتى سياسيا كما يترآى الحال للناظرين والمشاهدين وحتى المنظوين تحت راية دول هذه الأمة - وأنا منهم -.
وسأضرب الأدلة على ذلك على أكثر من مستوى عساني أشرح وأقنع قارئي بما سأعرضه في هذا المجال تصديقا وتأييدا لما سلف ذكره أنفا في هذا المقال. 
فقد بدأت الهجرة الصهيونية منذ 1882 على أساس سياسي، ويمكن تقسيم المراحل التي مرت بها منذ ذلك الحين حتى 1948 إلى مرحلتين رئيسيتين:
مرحلة أولى امتدت من 1882  إلى 1918 حيث دخلت بلدان شرق أروبا (أين كان يقيم أكبر تجمع لليهود في العالم) مرحلة الإنتقال من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي ورافقت ذلك تحولات عاصفة في المجالات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية انطوت على القضاء على المهن التقليدية اليهودية كأعمال الوساطة والسمسرة والربا وغيرها.
 فأدى ذلك إلى انتشار البطالة والخراب الإقتصادي في أوساط اليهود، كما رافقتها بعض أعمال الاضطهاد الموجهة ضدهم بسبب دورهم الإقتصادي والإجتماعي، وقد حاولت القوى الإستعمارية استغلال ضائقة اليهود هناك في مخططاتها الرامية إلى تهجيرهم كغيرهم من اليهود إلى فلسطين لإقامة هذا الكيان الغريب في قلب المنطقة العربية (حوالي 25 ألف يهودي معظمهم ينحدرون من أسر محدودة الإمكانيات من رومانيا وروسيا خاصة، وبعد الحرب العالمية الأولى وصلوا إلى 85 ألف يهودي، علما وان الهجرة الصهيونية إلى فلسطين توقفت في سنوات الحرب العالمية الأولى وتناقص عدد اليهود وبلغ سنة 1918  قرابة 55 الفا ) .
أما المرحلة الثانية فقد امتدت من 19 19 إلى 1948، وهي مرحلة فتحت آفاقا جديدة أمام حركة الهجرة هذه، فقد أدمج "وعد بلفور" بصك الإنتداب البريطاني على فلسطين الذي نصت المادة السادسة منه على أن الإدارة البريطانية سوف تلتزم بتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين بشروط مناسبة وسوف تشجع بالتعاون مع الوكالة اليهودية استيطان اليهود في الأراضي بما في ذلك الأراضي الحكومية والأراضي الخالية وغير اللازمة للإستعمال العام، كما نصت المادة السابعة على ضرورة تسهيل إعطاء المهاجرين اليهود الجنسية الفلسطينية.
 وفي 26/08/1920 أصدرت السلطات البريطانية نظاما جديدا للهجرة وتسهيل عودة اليهود الذين كانوا قد خرجوا من فلسطين أثناء الحرب، ولم يضع هذا النظام أية قيود على دخول اليهود الذين يريدون الهجرة إلى فلسطين لغايات دينية ولا دخول عائلات اليهود وأقاربهم المقيمين في فلسطين، وقد خولت المنظمة الصهيونية بموجب صلاحياتها احضار 16،500 يهودي آخر سنويا شريطة أن تكون مسؤولة عن إعالتهم لمدة سنة.
ثم توالت الفترات والقوانين الخاصة بهذه الهجرة وهذا الإستعمار القسري لهذه الأراضي العربية  وصولا إلى الفترة الممتدة من 1939 (الحرب العالمية الثانية) إلى 1948 ووصفت بالانحدار المباشر إلى فلسطين والإبحار إلى موانئ محايدة في تركيا (زمن الإمبراطورية العثمانية) والبلقان ثم الانتقال إلى فلسطين بحرا وبرا.
 وقد كشفت الوثائق السرية البريطانية النقاب على أن الأسطول البريطاني كان مكلفا بمراقبة الشواطئ الفلسطينية لمقاومة الهجرة "غير الشرعية"، فكان يقوم بإرشاد سفن المهاجرين الصهيونيين وإمدادها بالماء والمؤن والوقود وقيادتها إلى السواحل الفلسطينية حيث يجري عملية استيلاء وهمية عليهم.
 وفي صائفة 1943 أصدرت الحكومة البريطانية تعليمات إلى سفارتها في تركيا بإعطاء تصاريح دخول إلى فلسطين لليهود" الفارين من الأراضي التي يحتلها النازيون". كما بدأت الولايات المتحدة الأمريكية عام 1944 عمليات إخراج اليهود من الأراضي التي تحتلها ألمانيا النازية.
وهكذا، دخل فلسطين بين 1940 و 1948 نحو 120 ألف مهاجر يهودي، ومع فترة انتهاء الانتداب البريطاني كان عدد اليهود قد وصل إلى 625 ألف نسمة (ما يعادل ثلث سكان البلاد الأصليين). ومنها، "أقيمت" دولة اليهود عام 1948 وفتحت أبواب فلسطين على مصراعيها أمام الهجرة الصهيونية إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم للأسف الشديد، وعمل بني بنو صهيون بالمقولة المعروفة "تمسكن حتى تتمكن" بعد أن كانوا "ضعافا" فتقووا وقلبوا الصورة إلى أن بات الفلسطيني "غريبا" على أرضه وغير مرغوب فيه هناك، بل إنه أمسى "حيوانا" وغيرها من الأوصاف البشعة التي أطلقها عليه هذا المستعمر الغاشم الذي استولى على كل شيء  في  هذه البقعة المقدسة.
أما بقية العالم العربي الممتد من المحيط إلى الخليج، فقد نعم بالحرية بعد استقلال كل دوله من براثن المستعمرين الأوروبيين ومطامعهم واستغلالهم الفاحش وغير المحدود لكل الثروات والمدخرات والمعادن والخيرات وغيرها(بريطانيا وفرنسا خاصة)، وأقام دولا (وممالك وسلطنات) وأنظمة جديدة سرعان ما اندمجت مع الأنظمة العالمية وتعاملت معها لكسب الخبرات والمعارف وآلايات الإزهار والتقدم وما إليه....
فتطورت وازدهرت وباتت من أغنى الدول في العالم ورائدته في العديد من المجالات على غرار النفط والغاز والفسفاط وبعض الزراعات ونحوها.
وبالتالي ،أمسى  للوطن العربي قيمة ومكانة بين الدول يفتخر ويتباهى بها أمام الكل، بل إنه أضحى أساسا من أسس هذا العالم ومرجعا من مراجعه أحيانا وخاصة فيما يخص الطاقة والمناجم وأحيانا الفلاحة وسنوها.
لكن، ما دخل هذا العرض بمفتتح المقال، وهل هناك شك فيما عرضته من معلومات؟ ثم، لماذا طرحت هذا الموضوع أصلا في هذا الوقت بالذات وقد مر على هذه الحقائق التاريخية أكثر من قرن من الزمن؟
لهذا، فإني سأعكس الصورة وأقلب هرم الإشكاليات لأنطلق من خاتمتها لما لهذا السؤال من أهمية وقيمة بالغة بالنسبة لي بكل تأكيد (وقد يخالفني الرأي قارئي في هذا التوجه، وهذا من حقه طبعا)
فقد طرحت هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات والحرب قائمة في فلسطين بين "الكيان الصهيوني" المستعمر وشعب فلسطين المناضل الذي يناضل من أجل الحرية والانعتاق وحقه في الحياة وإثبات الذات والتنعم بأرضه وما تحتوي عليه من خيرات ومقدسات وغيرها - غزة تحديدا-.
فإخواننا على هذه الأرض المقدسة يعانون أبشع المظاهر والصور غير الإنسانية التي يمكن أن يراها أي بشر عاقل على وجه الأرض من تقتيل وتدمير ممنهجين، ضرب مقصود ودحر للمنشآت الرسمية الأساسية مثل المستشفيات والمراكز الأمنية والطبية والجوامع والكنائس وغيرها، تشريد وتجويع للشعب وتهجير طوعي وقسري،محاصرة كل الأماكن ومنعهم من الأكل والشرب والتدواي وحتى الحياة و حرمانهم من المساعدات والمعونات من خلال غلق المعابر وكل الطرق الموصلة للمنكوبين (بالتعاون مع الجيران - كما يتداول هنا وهناك -، ووصفهم  ب "الحيوانات" ونحوها، معاملتهم معاملة غير آدمية والتنمر عليهم وعلى ممتلكاتهم وحتى أمواتهم والعبث بجثثهم....
فكل هذا يقع منذ السابع من أكتوبر 2023 والعالم يشاهد و"يستمتع" بما يقوم به هذا العدو الغاشم على أبناء ملتنا وإخواننا في العروبة والإسلام، بل إن معظم هذه الدول تساند بني صهيون  وتدعمهم على جميع الأصعدة بدعوي "الحق في الدفاع عن النفس" وكأن لهذا الكيان دولة مستقلة قائمة الذات ومعترف بها من طرف الجميع وتناسوا أنها "دولة مستعمرة" ومن حق الشعب الفلسطيني النضال من أجل تحقيق إستقلال وطنه من وطأة واستعمار هذا الكيان المستبد، فهذه الدول الداعمة هي أصلا دولا إستعمارية قامت بنفس العمل تقريبا مع مستعمراتها السابقة وسفكت الدماء واستباحت أعراض النساء واعتدت وافتكت خيرات البلدان وهجرت شعوبها طوعا وقسرا مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي أبادت الهنود الحمر وهجرتهم إلى المكسيك مثلا عند قيام هذه الدولة.
أما العرب (بمن فيهم الجامعة العربية وجامعة الدول الإسلامية وغيرها من المنظمات وما شابهها)، فقد اكتفوا بالمشاهدة والمتابعة في أغلب الأحيان (مع بعض الإستثناءات) وحتى مناصرة العدو ومده بالمعونة والمؤنة وكل ما يحتاجه ليقضي على إخواننا هناك ويحقق مشروعه الازلي "إسرائيل الكبرى" الممتدة من الخليج إلى المحيط ...
وهذا ما يدعونا إلى التساؤل حقا عما إذا كانت غزة محتلة والعالم العربي حرا، أم إن العكس صحيح؟
فكما بدأنا المقال فإن الطرف الأول من السؤال صحيح كما بينا سلفا، لكن الواقع الذي نراه ونعيشه يثبت العكس فعلا ويدمي القلوب في الواقع فيما يخص الشطر الثاني من السؤال .
فهذا العالم العربي (حكام وسياسيون أساسا ) ليس حرا ولا يملك حرية اتخاذ أي قرار في هذا الموضوع، بل إنه ينفذ أوامر "السادة" ويلتزم الصمت أو يقف مع العدو ضد الأخ ويسهم في الفتك به ووأده من الوريد إلى الوريد، أو يطبع معه تطبيعا كاملا دون قيد أو شرط ، وما أكثر المطبعين ( وفيهم من يمنع حتى التظاهر السلمي من أجل دعم القضية الفلسطينية، وبالتالي منع الشعوب من التعبير عن آرائها المخالفة تماما لتصورات الحكام وقراراتهم وتوجهاتهم خلال هذه الحرب غير المتكافئة) .
أما الغزاويون ورغم ما يكابدونه من ويلات و إبادة جماعية ومنع المعونات عنهم و إسعاف المصابين والمرضى وغيرها، فإن المقاومة أبلت البلاء الحسن وقامت بالواجب على أكمل وجه ولقنت العدو دروسا لن ينساها دفع من أجلها عشرات الأموات من الجنود (أما المحتجزون الذين ماتوا لديهم، فقد قتلهم العدو بقصفه المتواصل ودكه لكل البنايات والمنشآت ومنعه عنهم الأكل والشرب والدواء وغيرها) وخسائر لا تحصى ولا تعد من العتاد والآليات وما شابهها، و أثبتت بالتالي حريتها وانعتاقها وحرصها على افتكاك حقوقها ونيل مرادها وهو فك الحصار وفرض الإستقلال عاجلا أم آجلا رغم الداء و الأعداء وعزوف القريب والبعيد عنها وعن قضيتها العادلة.
ومن هنا ومن خلال هذه الحرب غير المتوازنة بين جيش كيان يعتبر الأقوى عالميا مدعوما بقوى الشر والإستعمار والإعتداء على البشر مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وحتى ألمانيا التي تريد أن تكفر عن ذنوب هتلر بعد الذي فعله مع اليهود بعونهم اليوم غير المشروط بكل ما أوتوا من قوة و أسلحة ومال وجنود وغيرهم، وبين مقاومة لا تكسب غير بعض الأسلحة (معظمها تقليدي) وعدد قليل من المقاومين مقارنة  بجيش العدو ومناصريه، فإن هذه الحرب فضحت العالم وعرته تعرية كاملة وأظهرت أسوأ ما فيه من حيوانية وظلم واضطهاد واستبداد وغطرسة وغيرها.
كما أثبتت سيطرة "اللوبي الصهيوني" على مفاصل الحياة وكل مكوناتها في كل مكان وغزوها للأجساد والعقول والقدرات وما إليه، وخنوع استسلام وتبعية الحكام العرب وجنوحهم إلى المحافظة على "كرسي" الحكم إلى أطول فترة ممكنة ولو بتوريثه إلى توابعهم قصد كنز وافتكاك أكبر قدر ممكن من الثروات والامتيازات وغيرها ولو على حساب شعوبهم وتصوراتهم وانتظاراتهم، لذلك عم الإستبداد في هذه المنطقة وانتشر الظلم  والفساد والضيم والطغيان فيها، فتاهت البشرية وفقدت كل إنسانية إلى أن علا الظلم والقمع والشر وقبع الحق والخير في قاع الحياة البشرية.....
وهذا حال يزداد قتامة وصعوبة يوما بعد يوم، بل إن الحياة على وجه هذه الأرض باتت صعبة إن لم نقل مستحيلة في بعض المناطق وأصبحت جحيما لا يحتمل....
وما يهمنا في هذا الإطار هو الأمة العربية ودورها في مثل هذه المصاعب والمآزق وموقفها وقراراتها وغيرها ، وهو ما يجعلنا نذكر بقوله تعالى  "إن الله لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (الرعد11).

 

أخبار متعلقة :