" السوريون هم شعب الآلهة ، ولغتهم لغة الآلية " .
هوميروس Homer *
تنتمي الحضارة السورية إلى حضارات البحر المتوسط، وهي تستحق أن تكون إلى جانب حضارة اليونان والرومان.
ومن المعروف أن أعمال التنقيب الأثري ، التي جرت في مواقع عديدة من الأرض السورية مثل ماري، إبلا أوغاريت أرواد . جبيل. صيدا وصور وغيرها . إضافة إلى مئات التلال الأثرية المنتشرة على الأرض السورية ، قد كشفت عن مدن وحضارات، وعن نصوص أدبية . دينية وميثولوجية عديدة، وأن بعضها يعود الى مطلع الألف الثانية قبل الميلاد، وهذه النصوص خليقة بأن تصبح ادباً عالمياً وإنسانياً خالداً . علماً أنها لا تشكل غير قسم من تراث سوريا الحضاري . و أن هناك كنوزاً تاريخية وأثرية لم يتم الكشف عنها بعد ، وأن هناك نصوصاً عديدة ، لم تتم ترجمتها ودراستها إلى اليوم ....
النتاج الأدبي السوري
لم يكتب النتاج الأدبي السورية القديم بطريقة واحدة. بل كان معظمه قد كتب على ورق البردي ، الذي كان يتم استيراده من مصر عن طريق البحر. وبسبب عدم تحمل حرارة الجو والرطوبة على الساحل السوري ، فقد تعرض معظمه للتلف وضاع بما كان يحمله من كنوز أدبية وميثولوجية وغيرها، أما الباقي ، فقد تمت كتابته على ألواح الطين الطرية التي تتصلب بفعل الشيء على النار، وقد حفظت لنا هذه الألواح جُلّ ما كتب عليها ، وقد وجد منها الآلاف في المواقع الأثرية في ماري وابلا و اوغاريت. حيث تمت ترجمة الكثير منها إلى لغات متعددة. ويمكننا القول هنا، أن صورة الأدب السوري القديم بالنسبة لنا، ما زالت غير معروفة تماماً في بعض النواحي. ومجهولة في نواح أخرى ...
اهمية الأدب السوري القديم
عرفت الحضارة السورية الفنون الأدبية ومارستها إلى درجة عالية من الوعي والوضوح ، وبلغت مستوى رفيعاً من الاتقان والنضج. ومن هذه الحضارة تعلم الاغريق وغيرهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة دروساً هامة في مضمار المدنية والتحضر.
وقد بلغ من اهمية مدينة أوغاريت - على سبيل المثال - أنها قدمت للعالم أول ابجدية في التاريخ - كتبت بالخط المسماري، كما وجدت في هذه المدينة كتابات متنوعة، بثماني لغات مختلفة منها الأكادية والحيثية والهيروغليفية ، وهذا دليل على ما بلغته من اهمية في ذلك الزحف البعيد.
ويقول المؤرخ اليونائي الكبير هيرودوت Herodotus : " وهؤلاء الفينيقيون ، الذين جاؤوا مع قدموس Cadmus في جملة العلوم الأخرى، جاؤوا بالحروف الأبجدية إلى بلاد اليونان وكانت غير معروفة لدى الاغريق ، على ما أحسب حتى ذلك الحين .
الأدب الكنعاني ( الفينيقي )
تظهر المكتشفات الأثرية بأن الأدب في سوريا ، قد عرف منذ أكثر من خمسة آلاف عام. ومن خلال ترجمات الرقم الفخارية، تبين أن هذا الأدب تميز بالحكمة والاستجابة لظروف البيئة في الزمان والمكان، والعوامل الفكرية والدينية والاجتماعية.
ان بعض الآداب السورية ، قد بقيت مجهولة مدة طويلة ، خاصة الأدب الكنعاني، الذي نشأ وتطور في الساحل السوري ، وحتى الذين كتبوا عن الكنعانيين ، كانت كتاباتهم مطبوعة بطابع يوناني . مثل كتابات (فيلون الجبيلي Philo of Byblus) في مطلع القرن الثاني للميلاد، أو عن مصادر اغريقية ومثل كتابات هيرودوت ( القرن 5 ق.م) وقد بقي هذا الأدب مجهولاً نسبياً ، إلى أن تم اكتشاف نصوص أوغاريت في عام (1929) وهذا هو أحد أهم الاكتشافات الاثرية، التي غيرت معرفة البشر بالتاريخ.
نصوص الوغاريت والتوراة
تبدو أهمية نصوص أوغاريت ، أنها قد كشفت عن تاريخ وحضارة الحقبة الكنعانية فى تاريخ سوريا، و ردمت الهوه بين عصر هوميروس والتوراة " كما ذكر العالم سايروس غوردون Syrus Gordon ) كما بينت أن الأفكار الدينية والكثير من وجدانيات التوراة وأناشيدها هي اقتباس لثقافة الكنعانيين، وثقافة بلاد ما بين النهرين . ويرجع تاريخ معظم هذه النصوص إلى القرن ( 14 ق.م) وأكد ذلك العالم الفرنسي (كلود شيفر) الذي رأس بعثة التنقيب الأثري الفرنسية في سوريا لحوالي نصف قرن، وكذلك العالم الفرنسي (شارل فيرولو) الذي فك رموز الكتابة الأوغاريتية.
- ورد في نصوص أوغاريت: " أعلم أن السيد العلي حي. وأنه موجود مخلص الأرض " وفي سفر أيوب : " إني لعالم أن فادي حي" ..
- في نصوص أوغاريت :" تمطر السماوات سمناً، وتسيل السواقي عسلاً"، وفي مزمور (716) يسيل الحليب والعسل وفي ذلك اليوم تقطر الجبال سلافاً ، وتفيض الآكام لبناً ". وفي نصوص أوغاريت : " راكب السحاب هو بعل " و في التوراة ،عاموس وأشعياء : " هو ذا يهوه على سحابة " ، ومن يريد المزيد يمكنه مراجعة كتاب (مكتشفات رأس شمرة والعهد القديم ) العالم الفرنسي ( رينيه دوسو R.Dussaud) والحوليات الأثرية السورية (291 لعام 1952 ).
ويتضح من قراءة النصوص الاوغاريتية. أن الأدب الكنعاني كان مزدهراً، عندما دخل العبرانيون أرض كنعان . وقد أثر هذا الأدب على الأمثال والحكم في سفر الامثال وسفري المزامير ونشيد الأنشاد ، وسفر التكوين وأخبار الانبياء ، حتى أن ( لغة كنعان) افاد منها العبرانيون بشهادتهم عندما ذكروا انهم تعلموا (شفة كنعان) أي (لغة كنعان) ويعتبر بعض العلماء أن اللغة العبرية هي لهجة كنعانية .
من آداب أوغاريت ( رأس الشهرة )
نعرض هنا مقطعاً من رسالة ( الاله بعل Baal) اله المطر والخصب ، إلى الالهة (عناة Anat) إلهة الحب والجمال ، ونحن نلمس في هذه المقاطع، غنائية النص ، وجمال صوره، ولطف إيقاعه :
إجعلي الأرض تنتج طعاماً
ضعي في التربة بذوراً
انشري السلام على الأرض
وكثري الخيرات في الحقول
.......
تعالي ... أسرعي..
لأن لدي ما أقوله للك
كلمات أبلغك اياها ..
حديث الشجر وهمس الحجر
وما تهمس به السموات في اذن الأرض
وما تقوله المهاوي للنجوم
.......
أنا أعرف البرق الذي تجهله السموات
وأعرف كلاماً يجهله البشر
ولا تفهمه جموع الارض
.......
تعالي ... وأنا أكشف لك في وسط جبلي (صافون)
المقدس .. (صافون: الجيل الأقرع ) .
في جبل ميراثي .... في النعيم
و على مشارف النصر"
الشاعرة السورية بلتيس Bilitis
لم نقرأ عنها في مناهجنا الدراسية، ولم نعرف عن تفاصيل حياتها أي شيء. ونعود لنتساءل : لماذا كل هذا التعامي عن شعرائنا الأوائل بجنسيتهم السورية والأمر ليس وقفاً على شاعرتنا (بلتيس) بل عن أسماء عظماء سوريين عالميين ، كان لهم تأثير كبير على هويتنا المحلية تلك التي صارت ، بما قدمته من نتاج فكري وأدبي وفلسفي خارج حدود التصنيف الضيق لمفهوم الانتماء ، فالفكر والفن عموماً لا تنتمي لزمان ومكان بعينه ، بل هي عابرة للتاريخ والحدود.
عاشت الشاعرة السورية بلتيس في القرن السادس قبل الميلاد ، وكان والدها يونانياً، ووالدتها فينيقية سورية ، وقد عاشت بلتيس بين سوريا وقبرص واليونان، وكانت فخورة جداً بأرض سوريا المقدسة، وللشاعرة بلتيس ديوان شعر مطبوع بعنوان ( أغاني بلتيس) يضم (143) قصيدة رائعة ، وقد تمت ترجمته وطباعته بالعديد من لغات العالم.
تقول بلتيس عن سوريا :
في الوطن الذي تتفجر فيه الينابيع من البحر
وتكون صفا ئح الصخر مجرى الأنهار ..
في هذا الوطن... عشت أنا بلتيس
كانت أمي فينيقية وأبي هللينياً
لقنتني أمي أغاني جبيل الحزينة
كالسحر الاول ...
عبدت عشتار في قبرص
غنيت حبيبي كما هو ... وقضيت عمري سعيدة.
فيا ابن السبيل ، قص ذلك على ابنتك...
قصيدة حب من بلاد النهرين
بلاد النهرين، هي الجناح الشرقي للهلال الخصيب The fertile Crescent أو سوريا الطبيعية ، وقد اخترنا من أدب بلاد النهرين قصيدة حب عمرها نحو ( 4000 ) عام. وجدت على احد الألواح الفخارية في مدينة (نيبور Nippur) مكتوبة باللغة الأكادية والخط المسماري ، وهي تعود الى عام( 2025 ق.م) تقول كلماتها :
ابحث عني إلى أن تجدني ...
أنا في البرية وقد انتهيت من اقتلاع الأشواك
وسازرع كرمة عنب
وقد غُمرت النار المستعرة في داخلي بالماء
فأحبني كما تحب حملانك الصغيرة.
واعتنِ بي ، كما تعتني بقطيع ماشيتك
وابحث عني إلى أن تجدني!...
الشعراء السوريون/ اليونان
كانت اللغة الآرامية لغة السكان في سوريا الطبيعية ،وكانت اللغة اليونانية لغة الفكر والثقافة ، ويتميز شعر شعراء الحقبة اليونانية السوريين بتنوعه، واهتمامه بجمال الطبيعة وخصب الخيال واللون وقوة الشعور والتعبير، ومن هؤلاء الشعراء الشاعر ( ميليغر Meleager ) الذي ولد في مدينة (جدارا ) المسماة اليوم ( ام قيس ) في شمال الاردن ، وقد عاش جانباً من حياته في مدينة صور ثم انتقل للعيش في قبرص واليونان وكانت لغته هي الآرامية ، كما كان يتكلم الفينيقية واليونانية ،ومن مجموعته (قصائد الى زينو فيلا ) اخترنا ما يلي :
قرنفلة بيضاء أزهرت
ونرجسية تحت المطر تفتحت
والزنابق على قمم الجبال نورت
وبين كل هذه الزهور
ثمة زهرة واحدة اشرقت
حبيبتي زينوفيلا
وردة الإغواء الجميلة!...
لقد امتاز شعر ميليغر بقوة التعبير، والدقة في الوصف و عذوبة الكلمات. وقد وصفه (جورج سارتون) بأنه أعظم شعراء عصره .
واخيراً تقول :
ان احتلال العرب للبلاد السورية ، قد جعل السوريين يفقدون صلتهم بأدبهم وأساطيرهم . وما مُنوا به من الحروب ، وظلم الطبيعة ، ونوائب الدهر، التي كانت بلادهم مسرحاً لها ، جعلتهم يعملون على إحياء تاريخهم وحضارتهم وثقافتهم الأصيلة.
إن إحياء الأدب السوري القديم ، سوف يستخرج حقيقتنا من داخلنا ، ويضعها أمام أعيننا وأمام العالم ، فنعرف أنفسنا، ويعرفنا العالم ...
أخبار متعلقة :