تنطوي رواية "مائة عام من العزلة" على العديد من عناصر التجديد التي يصعب الإحاطة بها من قراءة واحدة ، أو من القراءة الأولى خاصة وأنها تحتوي على الكثير من خصائص العمل الروائي الكلاسيكي وسلسلة لامتناهية من القصص القصيرة وحتى القصص القصيرة جداً بكل خصائصها ، والتي يمكن قراءتها كقصص منفصلة ، وذلك إلى جانب العديد من عناصر وخصائص كتب التاريخ وكتب السيرة الذاتية غير الرسمية ، إضافة إلى اعتماد السرد لغة شعرية تجعل قراءة الرواية شبيهة بقراءة الشعر . وذلك ماجعل من رواية "مائة عام من العزلة" من أهم الروايات العالمية المعاصرة ، كتبها الاديب والروائي الكولومبي (غابرييل غارسيا ماركيز) بلغته الإسبانية عام 1967 ، وتُرجمت فيما بعد الى سبعة وثلاثين لغة ، بما فيها اللغة العربية ، وهي من أفضل أعمال الكاتب التي أوصلته إلى (جائزة نوبل للآداب) عام 1982 .
تنتمي رواية "مائة عام من العزلة" إلى مدرسة الواقعية السحرية التي ميّزت الأدب الأميركي اللاتيني خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي . وإذ تتفاوت تعريفات أدب الواقعية السحرية فإن المشترَك بينها هو أنها تمتزج فيها عناصر الأسطورة بالواقع لتُعبّر بأساليب موضوعية عن مشاعر ذاتية تتجلّى فيها القضايا الحقيقية بصيغ قد لا تنطبق بدقَّةٍ على الحياة الواقعية اليومية . وتمثل فيها فكرة الانعزال والإغتراب بشقيها المادي والروحي مركز مواضيع الرواية المتعددة والمحرّك الأساسي لأحداثها وأشخاصها . فبلدة "ماكوندو" الوهمية التي تأسست في أدغال أميركا اللاتينية النائية والممطرة ، ترمز إلى القرية المنعزلة خلال العهود الإستعمارية وما أعقبها من عهود التبعيّة . وفي هذه البلدة تتعاقب ستة أجيال لأسرة "بوينديا" في دوامة من العزلة والأنانية لأفراد منفصلين عن بعضهم البعضرغم أنهم يقيمون في منزل واحد ، وهو ما يجعل من حياة هذه الأسرة تجسيداً للحياة التقليدية لكل أسرة أرستقراطية في أمريكا اللاتينية .
وتتوالى في أحداث الرواية مظاهر العزلة والإنسلاب لدى أشخاصها من خلال جملة من المغامرات الاستكشافية والحربية ، وسلسلة من الممارسات الغريبة بحثاً عن معنى حقيقي للحياة ، وبصورة خاصة البحث عن الحب الحقيقي، دون الوصول إليه . بحيث لم تشهده الأحداث إلا في المرة الوحيدة التي نشأت علاقة يتخللها قليل من الحب والسعادة بين "أوريليانو" و "بترا كوتس" . وهي العلاقة التي كادت أن تتكرر في نهاية الرواية بين "أوريليانو بابيلونيا" و"أمارانتا أورسولا" اللذين قررا إنجاب طفل كان يأمل والده أن يعيد إحياء مجد أسرة تشارف على الإنقراض ، إلا أن عاقبة العلاقة كانت وخيمة ، فتوفيت "أمارانتا" مباشرة بعد أن وضعت طفلاً له ذيل خنزير ، كثمرة واقعية لعلاقة (سفاح القربى) بين والديه ، حيث تبين أن أم المولود هي عمة الوالد وأخت أبيه . ومع هذا الطفل الذي أكله النمل ، لم يُكتَب البقاء لجيل سابع في أسرة "بوينديا" محور أحداث الرواية . لكن ظهور هذا الحب رغم نهايته المأسوية ، وكأنه يبشر بظاهرة إيجابية قصد الكاتب الإيحاء فيها بأن الحبّ الحقيقي يرمز الى القيم الإشتراكية التي يؤمن بها شخصياً كبديل لعالم العزلة والأوهام ، وللهواجس العصبية التي ترمز إليها حياة وقيم أسرة "بوينديا" التقليدية .
تزدحم الرواية "مائة عام من العزلة" بتفاصيلها الدراماتيكية الغريبة ، لأحداث ومغامرات تبدأ بزيارات الغجر الموسمية لبلدة "ماكوندو" يعرضون فيها بضائعهم الجديدة القادمة من العالم الخارجي ، كالثلج الاصطناعي والتلسكوبات ، حيث يتأثر الجد المؤسس بهذه المعروضات وتسيطر عليه حالة من الهوس في البحث عن اكتشافات جديدة مشابهة ، دون أن يفلح بتحقيق واحدٍ من طموحاته لينتهي إلى حالة من الجنون تجبر أسرته على ربطه وتقييده إلى شجرة كستناء لسنوات عديدة وحتى وفاته . لكن شبحه يبقى حاضراً في البلدة وخاصة بين أفراد أسرته . حيث يورث هوسه بالإكتشافات الجديدة وشدة تركيزه كما قوته البدنية وروحه المغامرة وتسرعه وعزلته الى أبنائه وأحفاده . وتبدأ البلدة "ماكوندو" تفقد براءتها وعزلتها تدريجياً عندما تبدأ انفتاحها على البلدات المحيطة ، وتندلع الحروب الأهلية التي تجلب العنف والموت الى "ماكوندو" والتي يلعب فيها ابن "خوزيه أركاديو بوينديا" الأصغر "أوريليانو" الدور البارز كزعيم للمتمردين الليبراليين .وبعد اكتسابه صيتاً سيئاً بصفته الجديدة "العقيد أوريليانو" وبصورة خاصة بعد سلسلة من الإنقلابات الدموية التي تحدث في البلدة ، وتتغير حكوماتها مراراً متلاحقة بما في ذلك حكومة الدكتاتور "أركاديو" الذي يعتبر الأشد قساوة في تاريخ أسرة"بوينديا" ويتمُّ إعدامه بالرصاص إثر انتفاضة تؤدي إلى توقيع معاهدة سلام بين المحافظين وبين الليبراليين .
وتعيش أسرة "بوينديا" سلسلة لا متناهية من أحداث الوفاة والزواج والعلاقات العاطفية الغريبة تتوالى فيها العلاقات الجنسية الجامحة بين بعض أفرادها ، بما في ذلك ارتياد الرجال بيوت الدعارة وعلاقات سفاح القربى ، وهي العلاقات التي جعلت أجيال الأسرة أسيرة هاجس الخوف من العقاب بولادة الأطفال الذين لهم ذيول الخنازير ، بينما ينزوي العديد من أفراد الأسرة في عزلة شبه دائمة داخل غرفهم المغلقة ويشغلون أنفسهم بصناعة الأسماك الذهبية الصغيرة أو البحث عن أسرار الأسرة ومصيرها على صفحات المخطوطات القديمة .
ومن جهة أخرى ، تتعاظم أحداث بلدة "ماكوندو" المأساوية مع تعاظم الممارسات والأنشطة الاستغلالية والاستبدادية التي يتعرض فيها مواطنوها لاستغلال الشركة الأمريكية الاحتكارية المسيطرة على زراعة الموز بما فيها الاضراب الاحتجاجي الذي يقمعه الجيش بوحشية تؤدي إلى ارتكاب مجزرة يذهب ضحيتها الآلاف من المزارعين والعمال ، لتنتهي أحداث الرواية بخمس سنوات من المطر المتواصل والفيضانات التي تقضي على بلدة "ماكوندو" يذهب ضحيتها آخر أفراد عائلة "بوينديا" تزامناً مع توصل الفرد الأخير إلى فكّ تلاصم الغجر القديمة التي كانت تتنبأ بالنهاية المأساوية لأولئك الذين "يعيشون خارج دائرة ما هو مقرّر سلفاً" .
وثمة تشابه كبير بين أشخاص الرواية وبين مواضيعها وأحداثها . فمثلما يعيد التاريخ نفسه ويحكم على كل جيل من الأجيال تكرار منجزات وأخطاء الجيل الذي سبقه ، تتكرر أسماء شخصيات الرواية داخل أسرة "بوينديا" التي بالرغم من عديدها انخفضت أسماءها الى الحد الأدنى . فعلى مدار ستة أجيال تنحصر أسماء رجال الأسرة بـ "خوزيه بوينديا" أو "أركاديو" أو "أوريليانو" بينما تتكرر أسماء نسائها بين "أورسولا" أو "آمارانتا" أو "ريميديوس" . وكأن (ماركيز) يريد من خلال تكرار الأسماء التأكيد على فكرة عدم تغير الطبيعة البشرية انسجاماً مع تكرار مواضيعه وأحداثه . بحيث يمثل الجد الأول لأسرة "بوينديا"، "خوزيه أركاديو بوينديا" أحد أهم شخصيات الرواية . فهو صاحب شخصية الزعيم المغامر والمؤسس العظيم والبريء الذي أمضى معظم سنوات حياته في البحث عن الاكتشافات الغريبة إلى درجة إهماله التام لأفراد أسرته وهو مادفع بالكثيرين من النقاد ليشبهوه بشخصية (آدم) رجل البشرية الأول حيث يؤدي ابتعاده عن الإعتقاد بالسحر وسعيه من أجل المعرفة إلى زوال عائلته ومعها بلدة "ماكاندو" كما جرى لأبي البشرية الأول (آدم) في جنة عدن . وتلعب زوجة"خوزيه أركاديو بوينديا"، "أورسولا"، دوراً في الرواية لايقل عن أهمية دور زوجها . فتشهد "أورسولا" التي عاشت حياة مديدة تقارب المائة عام وفاة أبنائها الثلاثة وتعاصر ولادة معظم أحفادها . وخلافاً لغالبية أقاربها لم تعان "أورسولا" قلقاً ولا ألماً روحياً وتمضي معظم حياتها وهي تحاول جمع شمل الأسرة والحفاظ على بقائها لتستطيع النجاح نسبياً بمهمتها بفضل قساوتها أحياناً كما فعلت بطردت "خوزيه أركاديو" و"روبيكا" عندما ارتبطا بعلاقة عاطفية محرمة . وتعاني "أورسولا" تناقضاً حاداً لأنها تلتزم بالتقريب بين أفراد الأسرة بعضهم للبعض الآخر، وتخشى أن يؤدي هذا التقريب إلى علاقات عاطفية تتخطى الحدود الطبيعية بين الأهل و المشروعة .
ويجسد "العقيد أوريليانو بوينديا" صورة الجندي العظيم والقائد المقدام للقوات الليبرالية خلال الحرب الأهلية ، بينما يلعب أدواراً أخرى في الرواية ككتابة الشعر وصنع الأسماك الصغيرة بحرفيّة عالية . وتعرض الرواية في سياق أحداثها جسارة "أوريليانو بوينديا" واتزانه دون قيمة ، ويفشل في جميع الأدوار القيادية التي يلعبها لينتهي بحالة من اليأس والإحباط تؤدي به للجوء إلى التسلية والعبث بالوقت من خلال تذويب أسماكه الصغيرة وإعادة تصنيعها استهلاكاً للوقت . كما يبدو صاحب الشهرة الواسعة والذي أنجب سبعة عشر طفلاً من نساء متعددات وغير معروفات ، بأنه يفتقد المشاعر العميقة ، وهو ما يفسر جسارته في المعارك العسكرية وقدرة تركيزه على أعماله الفنيّة . ويحاول "العقيد أوريليانو بوينديا" الانتحار بعد فشله في الحروب الأهلية التي قادها ليستنتج أن شعور الفخر هو العامل الوحيد الذي يبقي الفريقين المتحاربين في حالة القتال . وفي نهاية المطاف يفقد "العقيد أوريليانو بوينديا" ذاكرته ويحرق جميع قصائده ويذيب أسماكه
معترفاً بأن "عجلة الوقت تدور وليس لشخص مثله فاقد الذاكرة سوى لحظة الحاضر التي يحياها" .
كذلك من الشخصيات التي لعبت أدواراً بارزة في الرواية كانت "روبيكا" وهي الطفلة اليتيمة التي تبنتها الأسرة . وتصل"روبيكا" إلى منزل العائلة وهي لا تتقن الاسبانية وتحمل معها حقيبة قماش تحتوي على عظام والدها لتقع فيما بعد في غرام أخيها بالتبني المتزوج "خوزيه أركاديو" وتعيش باقي حياتها بعد وفاته المفاجئة في عزلة مريرة و دائمة . كما يلعب الغجري "ميلكيادس" الذي اعتاد على زيارة "ماكوندو" دوراً هاماً منذ بداية الرواية وحتى نهايتها . فهو الذي كان يعرض البضائع المصنوعة في أنحاء مختلفة من العالم ، ويبيع "خوزيه أركاديو بويندا" الاختراعات الجديدة ومختبر البحث العلمي ، كما أنه صاحب المخطوطات الغامضة التي فشل جميع أفراد الأسرة في حل رموزها ، ما عدا الحفيد الأخير "أوريليانو" الذي قرأ فيها نبوءة "ميلكيادس" حول زوال الأسرة والبلدة .
كذلك يلعب السيد "هربرت" ومدير أعماله الدكتاتور السيد "براون" دوراً هاماً في الرواية ، من خلال حلوله ضيفاً في أحد منازل "ماكوندو" وتذوقه ثمرة موز ليقرر السيد "هربرت" انشاء شركة لزراعة الموز . واحتجاجاً على استغلال العمال الزراعيين يقوم "خوزيه أركاديو سيغوندو" بتنظيم إضراب ينتهي بمجزرة تؤدي الى قتل ثلاثة آلاف من العمال المضربين في ساحة البلدة ، وتقوم الشركة والحكومة بالتعتيم على حدوث هذه المجزرة التي لم يبق مَنْ يتذكرها سوى "خوزيه أركاديو" . ويُعتقد بأن الكاتب استوحى هذه المجزرة من مجزرة وقعت في مدينة "سانتا مارتا" الكولومبية عام 1928. ومن شخصيات الرواية البارزة "بيلار تيرينا" التي كانت عشيقة في نفس الوقت للأخوين "أوريليانو" و"خوزيه أركاديو" وأنجبت ولداً من كليهما حملا ذات الإسمين "أوريليانو" و"خوزيه أركاديو" ، وكانت قارئة كفّ ممتازة، وعاشت 145 عاماً قريبة من معظم أفراد الأسرة على مدى أحداث الرواية ، تساعدهم في نبوءاتها من خلال الكفّ ، ولاحقاً من خلال أوراق اللعب .
وكانت "أمارانتا أورسولا " آخر نساء أسرة "بوينديا" ، وهي التي عادت من أوروبا مع زوجها العجوز "غاستون" الذي تخلى عنها عندما أخبرته بعلاقتها العاطفية مع الإبن غير الشرعي لإبن أخيها "أوريليانو" ودون أن تدري أنه ابن أخيها تحمل منه جنينها لتموت بعد أن تضع مولودها الذي له ذيل خنزير ليكون المولود الأخير في الأسرة قبل أن يأكله النمل . أما ابن أخيها وعشيقها "أوريليانو" فهو آخر رجال الأسرة ، وهو المثال الأبرز للعزلة بين شخصيات الرواية كلها ، والأكثر تعطشاً للمعرفة المدمِّرة . وقد عاش"أوريليانو" في عزلة كلية فرضتها عليه جدته "فرناندا ديل كاربيو" بسبب خجلها من ولادته خارج إطار الشرعية الزوجية . ويعيش منعزلاً حتى يصير رجلاً داخل غرفته منكباً على البحث في مخطوطات الغجري "ميلكيادس" وما احتوته كتب العائلة ، وذلك ما أكسبه مستوى من المعرفة السحرية لم ينله سواه من أفراد أسرة "بوينديا" . وبعد علاقته الغرامية مع عمته "أمارانتا أورسولا" يشهد انقراض آخر فرع من فروع الأسرة في مهده ، بينما كان النمل يأكل طفلهما الذي ولد بذيل خنزير . ويستطيع "أوريليانو" آخر فرد من نسل عائلة "بوينديا" تفسير نبوءة العجوز الغجريّ "ميلكيادس" عن دمار البلدة "ماكوندو" في الوقت الذي كان يفسر فيه النبوءة . وبذلك يكون "أوريليانو" الذي قضى بينما هو يقرأ النبوءة "نبيّ العذاب" الذي يدمّر البلدة بفعل قراءته وتفسيره الشبيهين تماماً بقراءة الرواية "مائة عام من العزلة" .
ربما كانت مواضيع الرواية غير العادية سبباً في اعتماد الكاتب البناء غير العادي لروايتة . فلم يلتزم جدولاً زمنياً منتظماً لروايته ، بل جعل حركة التاريخ تكرر نفسها وصولاً الى دورانها داخل حلقة واحدة ، ليجمع بين الماضي وبين الحاضر والمستقبل ، تماماً كما جمع بين الأسطورة والواقع ، وبين الحرب والسلم ، والتخلف والتقدم ، كما بين الشخصي والعام، و تعمّد ألا يكون للرواية بطلاً رئيسياً ، وتكراره غير المألوف للأسماء .
ومثلما ترك "ماركيز" خيار زمان الحدث الروائي للقارىء ، فإنه قد ترك أيضاً أحداثها تتحرك في أمكنة غير محددة المعالم . لأن الكاتب كان يعرض بين الحين والآخر بعض التفاصيل المحيطة بالأشخاص ، ولم يصف بدقة ولا بشكل متكامل منزل أسرة "أوريليانو" رغم إيوائه للعشرات من أبنائها والمئات من الزائرين ، كذلك لم يرسم صوراً تترابط فيها معالم بلدة"ماكوندو" وأبنيتها ولا ساحاتها وحقول موزها مع محيطها ، وكأنه يريد للأمكنة أن تكون معزولة عن بعضها عن البعض بشكل أحداث الرواية وأشخاصها . علماً بأنه يترك للقارىء رسم أشكال وصور هذه الأمكنة في مخيلته من خلال أساليب حياة وأنشطة قاطنيها والمتحركين في فلكها . وبهذا تسبح الأماكن بين الوهمية وبين الشبيهة بالأماكن الحقيقية التي نعرفها أو نستطيع تخيلها في معظم بلدان العالم الثالث ، من خلال أسلوب سردي رائع يمتزج فيه الأسطوري بالواقعي .
لقد اعتمد (ماركيز) الأسلوب السردي في معظم أجزاء الرواية ، دون أن يتخلى عن الأسلوب الحواري بين الحين والآخر ، وفي جميع فصول روايته . وبدا من الواضح أن (ماركيز) يعوّض عن تماديه في السرد على حساب حوار أشخاص الرواية باستخدامه الفذ للأسلوب التصويري الأخّاذ ، فلا ينتبه القارىء لغياب الحوار ما دامت مشاهد الأشخاص وطريقة تفكيرهم وأفعالهم كلها تأخذه إلى نفس الخلاصات التي يبتغيها الحوار . وفي هذا الأسلوب كان (ماركيز) يوائم بين عناصره الكتابية والفنية المتنوعة لم يكن أقلها الشعرية والغنائية والتلقائية البعيدة عن التكلف والمحسنات اللفظية المستندة إلى بعض التقنيات السينمائية بما فيها تقنيات المونتاج والصورة عن قرب التي تجمع بشكل شديد التأثير بين الفكاهة والبشاعة من جهة وبين الدراما والمأساة من جهة أخرى . حتى أن العديد من النقاد اعتبروا أن الكاتب استطاع في رواية "مائة عام من العزلة" أن يصور البشاعة بأجمل حللها .
قد تكون رواية "مائة عام من العزلة" تنتمي إلى مدرسة "الواقعية السحرية" وتقوم بتجسيد أحداثها الخيالية شخصيات أسطورية ، لكنها شخصيات تشبه الأبطال الحقيقيين ، وتدور هذه الأحداث في أزمنة وأمكنة وهمية لكنها تشبه الأزمنة والأمكنة الواقعية . وهذا سرّ لازمانية هذه الرواية ولامكانيتها ، لأن عبقرية مؤلفها(ماركيز) تتجلى في الجمع بين الرواية الكلاسيكية وبين كتاب التاريخ غير الرسمي ومعهما السيرة الذاتية غير الموقعة للكاتب نفسه . ومن خلال عرض أحداثٍ وشخصياتٍ وقصصٍ حقيقيةٍ وأسطورية ، كان المؤلف قد عايشها في الواقع أو سمعها من أقربائه وآخرين ، أو أنه قام بجمعها من الكتب والمخطوطات القديمة . فتميزت رواية "مائة عام من العزلة "الخالدة بمحاولة الكاتب في تفسير تاريخ أمريكا اللاتينية الحقيقي من خلال تداخل الواقعي بالأسطوري وبأسلوب نقديّ مشوّق زاوج فيه (ماركيز) بين الجدية والسخرية وبين المأساوي والكوميدي ، وإن البديل الذي اقترحه الكاتب ، ولو بالتلميح ، قد تمثل بالخروج من عالم العزلة المحكومة بسقف الخرافة وبالأوهام والتقاليد ، إلى عالم تسوده الرؤى والأفعال العقلانية والتحررية ، حتى أنه يتعدى بروايته كولومبيا وأمريكا اللاتينية ليكتسب بُعدَيه العالمي والإنساني .
أخبار متعلقة :