"عرفت سوريا قمة أزدهارها الحضاري في العصر البيزنطي"
تبدو سوريا في العصر البيزنطي من تاريخها، بمظهر مختلف تماماً عن مظهرها في العصر الروماني، وقد أصبحت الآن بلاداً مسيحية بوجه عام. والواقع أن هذه الفترة هي الفترة الوحيدة، التي كانت فيها سوريا بلاداً مسيحية تماماً. ونظراً لوقوع العصر البيزنطي بين العصر الروماني، والعصرالعربي الاسلامي فإنه كان فريداً في تاريخ سوريا.
موجة حضارة جديدة
في القرن الثالث للميلاد، بدأ التأثير الفكري والديني السوري فى الولايات الرومانية بصورة سريعة، وقد شهد نهاية مرحلة من الحضارة اليونانية – اللاتينية وبدء مرحلة جديدة. وكان نموذج الحضارة الذي يميز الامبراطورية حتى ذلك الحين قد أخذ بالتفكك، بسبب الحروب الأهلية الطويلة، والهجمات الخارجية المتكررة. وقد تعرضت دعائمه الفكرية والروحية لموجة جديدة من الأفكار المسيحية، وكان ذلك التغير منذ ذلك الحين سريقاً وتاماً ، وأخذت موجة الحضارة الجديدة ) البيزنطية ( الناتجة عن تمازج المسيحية مع الهلينية
تحتل مكان المرحلة الحضارية القديمة، وكان لها لون مسيحي - يوناني - شرقي: ومركزها مدينة القسطنطينية .
تأسيس القسطنطينية
سميت هذه المدينة باسم الإمبراطور قسطنطين ، وكان تأسيسها في موقع بيزنطة القديمة - حيث تلتفي أوروبا بآسيا، ودشنت في شهر أيار/مارس من عام (330) كعاصمة جديدة للإمبراطورية الرومانية. وقد منحها موقعها الجغرافي والاستراتجي الذي يستطيع العالم الشرقي أن يتجمع حوله بسهولة . وسرعان ما فاقت (روما الجديدة) على مضيق البوسفور (روما القديمة) على نهر التيبر في إيطاليا.
المسيحية .. الديانة الجديدة
قبل أن يؤسس الامبراطور قسطنطين الكبير (272-337) عاصمة جديدة للدولة، اعترف بالديانة المسيحية ، وفي عام (325) عقد مؤتمراً كنسياً ضم اساقفة الامبراطورية في مدينة (نيقيا Nicaea) في آسيا الصغرى، الذي كان اول مجمع من نوعه، حيث تم تنظيم مجموعة تعاليم الدين المسيحي بصورة نهائية .
وهناك قصة تروى، حول اعتناق الامبراطور قسطنطين المسيحية أنه شاهد في السماء، أثناء زحفه على روما عام (312). صليباً متألقاً في السماء عليه كتابة يونانية تقول: "بهذه العلامة تنتصر"، والذي نعلمه بالتأكيد ، هو أن قسطنطين استخدم اللواء الكبير، وعليه إشارة الصليب كعلم امبراطوري، وبواسطته تقدم نحو النصر على منافسه ماكسانيوس، وهكذا اصبحت المسيحية الديانة الرسمية للامبراطورية وإذا كانت بلاد اليونان قد سيطرت على فكر الرومان من قبل ، فإن سوريا الآن قد سيطرت على نفوسهم.
وكانة هيلانة( Helen) والدة قسطنطين مسيحية تقية. وقد قامت بزيارة اورشليم/ القدس، حيث وجدت الصليب المقدس الحقيقي في البقعة التي تقوم عليها اليوم (كنيسة القيامة) وفي ذات المكان أمر قسطنطين بتشييد كنيسة القيامة الأولى، وما فعله الامبراطور ووالدته قاد الى الاسراع في جعل سوريا بلادا مسيحية.
لقد كان نقل العاصمة من روما إلى القسطنطينية والاعتراف الرسمي بالمسيحيه ، جعل عهد قسطنطين ، من ابرز المراحل في تاريخ اوروہا، وقد قدرلهذه الامبراطورية الجديدة التي دشنها قسطنطين مسيحية في عقيدتها ، ويونانية في لغتها ، وشرقية في اتجاهها أن تدوم مايزيد عن أحد عشر قرناً ، وأن تكون حصناً قوياً ضد الأطماع الخارجية، إلى أن سقطت بيد الاتراك العثمائيين تمام (1453).
ازدهار الحياة الفكرية
ازدهرت الحياة الفكرية في سوريا في العهد البيزنطي، على الرغم من الخلافات بين المذاهب الدينية والفلسفية ، وكان العديد من آباء الكنيسة قادة للفكر .
وقد أسست الامبراطورية البيزنطية ثقافة رائعة ، يمكن أن تكون أفضل ثقافة عرفتها العصور الوسطى. وقد ظلت مدينة القسطنطينية عاصمة للفكر والثقافة خلال قرون عديدة والمدينة العظيمة في العالم المسيحي ، ولم يُعرف لها مثيل في العظمة.
وفي العهد البيزنطي من تاريخ سوريا ظهر العديد من المفكرين والبلغاء والخطباء والمؤلفين والمؤرخين، وقد أصبحت مدينة أنطاكيا ، بفضل هؤلاء،, العاصمة الفكرية لسوريا الشمالية، وازدادت تألقاً بالمآثر القديمة للخطباء والمؤلفين المسيحيين وكان من أهمهم:
1/ يوحنا فم الذهب
عاش هذا القديس بين عامي (347 - 407) وقد اتبع حياة الزهد في جبل سلبيوس Silplus الوعر جنوبي أنطاليا.
وكانت رسالته اجتماعية في عصر لاهوتي ، وقد وقف إلى جانب المحرومين من الامتيازات . وبلغ من الشهرة أنه أنتخب في عام (398 ) بطريركاً للقسطنطينية . وقد باع. الكثير من الكنوز في الكنائس ، وأنفقها على المحتاجين واكتسب شهرة كأهم واعظ ومعلم للأخلاق المسيحية، الذين أنجيتهم الكنيسة
2/ مرسيلينوس
ولد في اسرة يونانية ، اهتم بالاخلاق والمؤسسات الاجتماعية ، وقد كانت أنطاكيا في زمنه غنية، وليس لها منافس، وكانت فينيقيا الواقعة في سفوح جبال لبنان منطقة مملوءة بالسحر والجمال، و كانت فلسطين بلاداً تكثر فيها الأراضي المزروعة المعتنى بها كثيراً.
3/ يوسيبيوس
من آباء الكنيسة البارزین (264 – 349) كان اسقفا لمدينة قيصرية في فلسطين ، وهو أول مورخ كنسي عظيم . ولد في فلسطين وتثقف في أنطاكيا ، كان صديقاً حميما للامبراطور قسطنطين، ومن أعظم الرجال المثقفين في عصره ، ومن مؤلفاته الشهيرة ( التاريخ الكنسي) الذي يصف فيه بالتفصيل ظهور المسيحية، وعلاقتها بالأمبراطورية.
4۔ بروکو بیوس
کان المؤرخ الرسمي لعصر الامبراطور جوستنيان المليء بالأحداث. ولقد تاريخه أعظم مصدر عن أحداث عصره، ولد في مدينة قيصرية في فلسطين لأسرة من علية القدم. وكان يجيد اللغة اليونانية واللاتينية، إضافة إلى اللغة الآرامية (السريانية).
بيروت كمركز عالمي
كانت بيروت أجمل المدن والمدينة الوحيدة بين مدن سوريا البيزنطية كلها التي نافست أنطاكيا في الزعامة الفكرية ، إذ كانت تضم مدرسة شهيرة للحقوق و كانت تهتم أيضاً بتدريس العلوم والهندسة والبلاغة ، واللغة اليونانية واللغة اللاتينية .وكانت مدة الدراسة فيها لخمس سنوات.
المظاهر الدينية
كان العصر البيزنطي عصراً تسيطر عليه الصفة الدينية ، اذ كانت الكنيسة أعظم مؤسساته ، والقديسون ينالون اکبر جانب من الاحترام ، وكانت أبنية الكنائس وأماكن الصلاة والباسيليكات والأديرة، تنتشير في جميع أنحاء الامبراطورية. ويقول المؤرخ د. فيليب حتي في کتابه (تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين( جـ1 ص 403): " وتعتبر البقايا المعمارية والآثار الدينية البيزنطية الموجوده اليوم في سوريا أكثر عدداً من آثار جميع العصور مجتمعة....
ويوجد اليوم في شمال غرب سوريا أكثر من (200) موقع أثري من مدن وبلدات وكنائس وأديرة، تعود إلى العصر البيزنطي، وقد تم تسجيل عدد منها في قائمة التراث العالمي للإنسانية من قبل منظمة اليونسكو. وهذه الأبنية تتبع أسلوباً خاصاً في الهندسة المعمارية تظهر فيه أبراج الأجراس والصلبان البارزة. وكانت تزينها لوحات الفيسفاء (Mosaic)الملونة
الرهبنة
كانت طريقة محببة في الحياة ، إنبثقت من عادة الزهد المسيحي، وكانت أعداد الرهبان كبيرة . وكان القديس. أفرام (ت 373 ) أحد مؤسسي الرهبنة في سوريا.
الفن المسيحي
كانت سوريا في العصر البيزنطي مركزاً هاما من مراكز الفن المسيحي ، وكان الفنان السوري يبحث في الهندسة المعمارية، والرسم والنحت والزخرفة وغيرها ،مستقلة عن النماذج اليونانية والرومانية . وكان الفن المسيحي السوري، يهدف بصورة مؤكدة إلى الواقعية ، وتم التمهيد للفن السوري في رسم الأيقونات خاصة في مدرستي حلب والقدس.
إحياء الآرامية
تطورت الكنيسة المسيحية في سوريا البيزنطية من ناحية لغوية في اتجاهين يوناني في الساحل ، و آرامي في الداخل ، وحدث تحول تدريجي من اليونانية إلى الآرامية الوطنية، وكانت مدينة (أديسا) في شمال سوريا ، مركزاً هاماً للأراميين، وقد أعاد القديس افرام السوري ، تنظیم مدرسة اللاهوت في أديسا التي اصبحت فيما بعد جامعة عظيمة للسوريين .
الانشقاقات الدينية .
كانت المناقشات اللاهوتية من الاهتمامات الأساسية عند المثقفين في القرنين الرابع والخامس، وقد تركزت حول طبيعة المسيح، والمواضيع المتعلقة بها ، وكان من نتائج ذلك ظهور مذاهب جديدة كان من اهمها :
1- المذهب النسطوري : الذي يعتبر أن المسيح شخص الهي و شخص بشري. وقد وصل المبشرون بهذا المذهب الى الهند والصين.
2- المذهب اليعقوبي : وهو يقول بالطبيعة الواحدة للمسيح (آلهية وبشرية ) وقد وصل هذا المذهب من سوريا إلى أرمينيا ومصر.
الخطر الفارسي
في عهد السلالة الساسانية ،تنازع الفرس مع البيزنطيين السيادة على الشرق .ونتيجة ذلك قامت حروب عديدة بين الطرفين ، وقد صد البيزنطيون الهجوم الفارسي الاول (527 – 532) ثم عاد الفرس إلى الظهور في عام (540) في عهد کسری آنوشروان الأول الذي أشعل النار في حلب، ودمر مدينة أنطاكيا. وكان الجيش البيزنطي في هذا الوقت يحارب في الغرب. وبين عامي (613- 614) هاجم الفرس سوريا، واحتلوا دمشق والقدس . وقد استطاع الامبراطور(هرقل)في عام (629) الانتصار عليهم واستعادة سوريا.
ويروي المؤرخ البرنطي (ملالاس Malalas ) كيف أن الزلازل أضافة إلى الخطر الفارسي ، كانت لها نتائج كارثية على سوريا...
وقد أدت الحروب والمنازعات الطويلة بين الروم والفرس، إلى إضعاف وإنهاك الطرفين إلى درجة كبيرة.
إضافة الى رفض الفرس مراراً دعوات الامبراطور البيزنطي( هرقل) للسلام. وكان لذلك كله الأثر الأكبر في نجاح قبائل الصحراء العربية الغازية، في دخول سوريا، وانتزاعها من الامبراطورية البيزنطية، والتي كانت أفضل أقاليمها. وقد عمل العرب على طمس تاريخ سوريا، وتبديل ثقافتها ، وتغيير لغتها وديانتها...
وأخيراً .. يمكن القول هنا، بأنه لولا تلك المنازعات والحروب بين الفرس والروم ، وما آلت إليه من نتائج، لكانت صورة الشرق الأوسط، مختلفة تماما عما هي عليه اليوم .
أخبار متعلقة :