بوابة صوت بلادى بأمريكا

من المجموعة القصصية درر المعرفة الحلقة السادسة .. ومن الأخطاء ما قتل بقلم: د.درر سمير الصوفي و د.محمد فتحي عبد العال


لا أحد يعبر معترك كلية الصيدلة دون أن يمر بهذه الصيدلية متدربا ومتعلما ومن ذا الذي لا يعرف صاحبها دكتور (عثمان) ضخم الجسد ،متوسط الطول، قليل الحركة، يقضي يومه ونهاره داخل صيدليته ..يكفي أن تمر عليه وتطرح سؤالا ولو عابرا ليباغتك بحديث لا ينتهي في كل مجالات المعرفة المرتبطة بسؤالك ..لم يتزوج الدكتور عثمان طيلة حياته لذلك كانت حياته هي الصيدلية وأبناؤه جموع الطلبة من كلية الصيدلية الذي يتهافتون على صيدليته للتدريب داخلها في مجموعات يخطط لها بدقة الدكتور عثمان ويضع لها برنامجا منظما طوال أشهر الصيف ويبدأها دوما بشرح قانون الصيدلة ذلك القانون الصادر منذ عام 1955 م ولم يطرأ عليه تغيير من حينها وكثيرا ما يفاخر بنسخة نادرة لم يطلع عليها غيره من الفارماكوبيا المصرية ويحكي أن ألمانيا اقتبست منها لتحاكي محتواها العظيم في الخمسينات !!.
كان الصيدلي (طاهر) في السنة الثانية من الكلية ونظرا لضيق ساحات التدريب واحتياجه للساعات التدريبية كإحدى متطلبات واشتراطات الكلية فاضطر إلى الالتحاق ببرنامج الدكتور عثمان مع عدم اقتناعه بجدواه فبرنامجه من وجهة نظره برنامج قديم أكل عليه الدهر وشرب وقصصه عن اكتشاف التتراسيكلين والكلورامفينكول أضحت من تاريخ العلوم كما أن برنامجا يخلو من أخلاقيات المهنة (code of ethics) ماذا عساه أن ينفع جموع من الصيادلة هم في أشد الحاجة لتعلم الميثاق الأخلاقي الذي يحكم تعاملاتهم في ضوء التطور العالمي ولكن ما باليد حيلة ..
بدأ طاهر يستمع لطريقة الدكتور عثمان في فنون البيع وكيف يصف المضادات الحيوية تبعا لشكوى المرضى وكيف يصف أنواعا من أدوية الضغط والسكري للمرضى ويباهي أن المرضى في منطقته لا يزورون سواه ولا يقتنعون بغير أدويته..
ظل طاهر يستمع ويشاهد دون أن ينبس ببنت شفة لكن ذلك التزاحم الذي يشاهده من أهل المنطقة حول الدكتور عثمان دفعه للحديث معه:
-سيدى أراى أن وصف المضادات الحيوية وأدوية الضغط والسكري ليست من مهام الصيدلي في شىء وتدخل في اختصاصات الأطباء..
قال الدكتور عثمان : للأسف يا بني أنت لم تعش العصر الذهبي لهذه المهنة حتى تتفهم أن دور الصيدلي أكبر وأعم مما يتحدثون به الآن ..
أتدري يا بني أن الصيدلي كان الدليل لكل تائه في أي منطقة قبل اختراع ما يسمونه (جي بي اس) وهو الطبيب والممرض لكل أهل منطقته قبل نشأة العيادات الخاصة والمستوصفات …لقد صنع الصيدلي منذ القدم مكانة أتمنى ألا تضيعوها يا شباب اليوم وغدا ..
قال طاهر : يا سيدي ..نحن في زمن التخصص والجودة الطبية والتوصيف الوظيفي المحدد للمهام والصلاحيات وفقا للمؤهلات والدراسات ..مضى عهد الرجل “الكشكول” العالم بكل العلوم ظاهرها وباطنها ..وأصبحنا في زمن الدراسات والابحاث وguidelines التي تحدد طرق التشخيص والعلاج ومع هذا النمو المعرفي المتسارع أصبح لزاما التقيد بالتخصصات المختلفة واحترامها..
في هذه اللحظة دخلت إحدى سيدات المنطقة وفي قبضتها دجاجة يبدو عليها الوهن وراحت تولول : يا دكتور عثمان أدركني ..فدجاجاتي كما ترى عليهن الإعياء منذ أسبوع.. ماذا أفعل ؟!
قال الدكتور عثمان غاضبا : وهل تذكرتي الآن أن تأتي ؟! لما لم تأت مبكرا أم أننا ننتظر الكارثة حتى تقع ثم نحزن بعدها ونولول؟!
دخل الدكتور عثمان معمله ثم شرع في تحضير محاليل من التتراسيكلين والكلورامفينكول وأعطاها للسيدة وشرح لها أن تضعها في مياه الشرب والعلف بجرعات محددة..
دهش طاهر وبعد انصراف السيدة قال للدكتور عثمان: ما هذا يا سيدي ؟! هذا ليس أبدا من مهامنا.. هذه وظيفة الطبيب البيطري..
رد الدكتور عثمان في هدوء إزاء ثورة طاهر: يا بني الصيدلي هو المختص الأول بالدواء ..هذه قاعدة ذهبية لو عشت عصرنا الذهبي منذ أربعين عاما لما قلت كلامك هذا..
وقبل أن ينطق طاهر راح الدكتور عثمان يطرح عليه سؤالا بعد آخر:
هل تدري ما هي آلية عمل التتراسيكلين ؟!..
قال طاهر : لا أتذكر يا سيدي..
قال الدكتور عثمان : يثبط إنتاج البروتين البكتيري عن طريق منع ارتباط الحمض النووي RNA (اللازم لصنع البروتين) مع الريبوسوم البكتيري..
وهل تدري آلية عمل الكلورامفينكول؟!
قال طاهر : اعتقد أنه يثبط التخليق الحيوي للبروتين أيضا عبر الارتباط الذي لا رجعة فيه مع الريبوسومات البكتيرية.
ولكن هذا كله لا يمنع أن الصيدلي ليس مختصا بتشخيص الأمراض ومن ثم علاجها بمفازاة عن الطبيب ..
عاد الدكتور عثمان لحديثه وكأنه لم يسمع شيئا من طاهر:
-أتدري يا طاهر أننا نعيش في عالم الرنا؟!
قال طاهر : كيف يا سيدي؟!
قال الدكتور عثمان : الرنا القادر على التضاعف الذاتي هو الأسبق في الحياة من الدنا والبروتين فالرنا قادر أن يخزن ويضاعف المعلومات الجينية مثل الدنا الذي أتى كمرحلة تطورية واشتقاقية منه كما أن إنزيمات الرنا (الريبوزيم) لها القدرة على تحفيز التفاعلات الكيميائية الأساسية للحياة بالبدء والتحفيز تماما مثل الإنزيمات البروتينية..
قال طاهر : رائع يا سيدي ..هذه المرة الأولى التي أعرف عنك هذا الإلمام الواسع بالبيولوجيا الجزيئية ولكن لازالت نقطة الخلاف بيننا كما هي..
قال الدكتور عثمان : لا خلاف يا بني بيننا في شىء ..انظر إلى التتراسيكلين وقدرته على كبح إنزيم الفوسفوريلاز عديد النوكليوتيد ..هل تعرف يا طاهر من اكتشف هذا الإنزيم ؟!
قال طاهر : لا اعلم
قال الدكتور عثمان : لقد اكتشف بواسطة (ماريان غرونبرج ماناغو) عام 1955 م ونشرت بحثها مع (سيفيرو أوتشوا) في مجلة الكيمياء الحيوية وكانا يظنان أن هذا الإنزيم مسؤول عن تخليق الرنا وفازا معا بجائزة نوبل ثم اتضح لاحقا أن هذا الإنزيم مسؤول عن تفكيك الرنا وليس تخليقه..
أحس طاهر أن الرجل يهذي على الرغم من أنه يسرد حقائق علمية طريفة بشكل دقيق..
راح الدكتور عثمان يقهقه قائلا : أتدري لماذا أخفقا وانطلى هذا الزيف على العالم لسنوات ؟!
قال طاهر في اهتمام : لماذا؟!
قال الدكتور عثمان : لأنه ليس من بينهما صيدلي لقد أقحما أنفسهما في مساحة أكبر منهما ..لذا دائما ما أقول الصيدلي أولا..
قال طاهر: يا سيدي هذا من قبيل التجارب والتي تحتمل الفشل والنجاح وكلا العالمين من دارسي الكيمياء الحيوية والمتخصصين فيها كما هو واضح ..المسألة ليست وظيفة ..المسألة برمتها هي التخصص ..
قال الدكتور عثمان : أليس ما قاما به خطأ ضلل البشرية..
قال طاهر: خطأ دون قصد يحتمل التصويب واجتهاد منهما يستحق الثناء.. أما ما تفعله أنت يا سيدي من أخطاء وسامحني أن أقولها تقتل بها كل يوم العشرات عن قصد وعقد نية ..
حينما تصف مضادات حيوية دون تشخيص فأنت تسهم في زيادة معدلات مقاومة المضادات الحيوية وبالتالي تصبح البكتريا أكثر قوة في مقاومة تأثير المضادات الحيوية لاحقا فتصير أصعب في العلاج مما يجعل المرضى في معارك خاسرة مع الأمراض التي تتطلب حقا مضادات حيوية فقدت مع كثرة استعمالها قدرتها على مجابهة الداء وأنت حينما تصف للمرضى أدوية للسكري والضغط والكوليسترول فأنت تضرب بمئات guidelines عرض الحائط والتي تتطلب إلماما معرفيا ووسائل تشخيصية وأدوات معملية ليست موجودة إلا لدى الطبيب المختص..
لم يعقب الدكتور عثمان وتظاهر بالانشغال بعدة تحضيرات جلدية في معمل الصيدلية وعد بها بعض المرضى.. فيما أحس طاهر أنه لا فائدة من الجدال مع الدكتور عثمان والتغيير في فكره التليد فغادر الصيدلية والتدريب إلى غير رجعة ففقدان بضع درجات في العملي أهون من الانصياع لهذه الفوضى القاتلة..

 

أخبار متعلقة :