" الكتابة هى النقطة التي لا يبدأ النهر إلا بها ، يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة ، بل ودهرًا بعد دهر ، تظهر جدوى الكتابة ، بل تظهر فائدة كل فن وعلم ، قد يموت الكاتب ولا يرى بعينيه أثر كتابته ، ولكن الكلمات وبصدق لا تتبخر ، وهي تختبيء في مكان ما ثم تظهر في يوم ما وقد أعلنت انتصارها الحاسم والنهائي على كل قبح ... " ..
هكذا كان " صلاح عيسى " الكاتب الصحفي والمؤرخ المبدع في اختراع مدرسة ونهج خاص في توثيق حكاوي التاريخ ببساطة مصرية ورؤى جديدة في تناول أحداث تاريخية شهيرة ..
" سلامي عليك يا زمان : مشاغبات وهموم صحفي عربي في الثمانينيات " إصدار هام وبديع للكاتب الصحفي والمؤرخ والمفكر الوطني صلاح عيسى ، تناول فيه الكثير من قضايا واقع تلك المرحلة بشكل ساخر ، والاقتراب من مواقع الخلل واعتماد القيم السلبية ، واستنباط ما ينطوي عليه من دروس وعِبر ، والتعلُّم من هزائمه وانتصاراته ، متناولًا في هذا الكتاب الهام سنوات نهاية الثمانينيات العجيبة ، جمع كاتبنا الكبير ، بثقافته الموسوعية ، بين السياسة والفكر والثقافة والفن ، والذكريات والأحلام والخواطر ، والانفعالات الفرِحة والغاضبة ، وقدَّم إلينا من خلالها تأملًا عميقًا لما كان يجري على أرض الواقع ، وما يصدر عن سلوك البشر ، وما نجم من فواجع عن سياسات حلَّقت بآمال شعوبنا إلى سماوات عليا لا أُفق لها ، وهبطت بها إلى نفق مظلم لا يبدو أي ضوء في نهايته ، كما يكشف الكتاب بعضًا من السيرة الشخصية لصلاح عيسى : أماكن العمل التي تنقَّل بينها ، والسجون التي أُودِع بها ، والقرية التي هجرها ، والمدينة التي عاش وتعلَّم فيها ، والأُسرة التي انتمى إليها ، رحلة تأملية مثيرة إلى زمان مضى ، وأحوال لم تتغير كثيرًا ..
وكان للكاتب الراحل كتابًا مهمًا بعنوان " شاعر تكدير الأمن العام " تناول فيه الظاهرة الغنائية الشعرية السياسية للراحلين أحمد فؤاد نجم ، والشيخ إمام ، وكان يؤكد أن الظرف الذى نشأ فيه نجم ، وإمام لابد ، وأن يخلق هذه الظاهرة ، قائلًا : " نحن أمام هزيمة كبرى ، وأمام إحساس شديد بالمرارة ، وأمام جيل يشعر بأنه طُعن في أحلامه ، بعد أن صعد إلى قمة الجبل ، وتصور بأن قيادته تتبع سياسات تحرك العالم كله ، وأننا نملك أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط ، وأن إسرائيل لن تحتمل فى يدينا أيام ، وأننا لسنا فقط سوف نسترد ما تنازلنا عنه فى حرب 56 من مضايق ، بل سنسترد أرض 48 ، التى فُقدت في النكبة " ..
رحم الله كاتبنا الكبير " صلاح عيسى " الذي شعرت معه ، وأنا أكتب بشكل أسبوعي لجريدته الغراء " القاهرة " ، كم كان الرجل مهمومًا بإخلاص بأحوال الوطن والمواطن ، وكم كان مشغولاً بقضايا تحقيق الاندماج الوطني ومناهضة التمييز والعدالة الاجتماعية دون ممارسة " الزعيق " و حنجورية الأداء أو الدخول في مزايدات على حساب الوطن ، فضلاً عن مراعاته الرائعة لكل آداب وأصول العمل الصحفي ، فقد كان بالفعل جديراً بلقب " حارس المهنة " ..
ونحن نحتفي بذكرى ميلاده ، فإن التوقف عند بعض سطور الراحل المبدع للتذكير بها لهي أعظم ما يمكن التأسي بها بعد فقدان وجوده المؤنس الطيب معنا ، ولعل كتابه الهام " حكايات من دفتر الوطن " ما يبرهن على مدى مصرية ووطنية ذلك الكاتب والمفكر والمؤرخ الرائع ..
ففي مجال قضايا الخطاب الديني ــ على سبيل المثال ــ يُخصص الكاتب والمؤرخ فصلاً بعنوان " البطريرك المنفي " .. من بين ما كتب جبرتي الصحافة عن ذلك البطريرك .. " كيرلس الخامس كان على رأس الكنيسة المصرية في أثناء ثورتي 1882 و1919 ، وقد بلور دور الكنيسة المصرية والأقباط المصريين في أثناء حلقتين متتاليتين من حلقات الثورة الوطنية الديموقراطية ، وهو دور واضح ومحدد ، مضمونه الالتزام بالهدف القومي العام ، والإسهام في الدفاع عن حرية الوطن وتأييد الشعارات الوطنية الثورية ، وأخطر ما صدر عن " البابا كيرلس " في هذه الفترة ، فتواه الشهيرة التي أعلن فيها أن الانجليز بعدوانهم ومحاولتهم احتلال مصر ، قد خرجوا عن تعاليم المسيحية الحقة التي تدعو إلى السلام وعدم الاعتداء ، ومن ثم اعتبرهم كفرة خارجين على دينهم يجب حربهم ، ليس هذا فقط بل إن رجال الدين المسيحي ـ كما يروي " برودلي " ـ قد هرعوا إلى الكنائس يصلون لله ويدعونه أن ينصر جيش الوطن ... " انتهى الاقتباس من واحدة من حكايات الوطنية التي ذكرها صلاح عيسى بفخار المواطن المصري بتاريخ الأجداد ..
وفي حدوتة من حواديت " عيسى " التي رواها بخفة ظل ، هي التي جاء ذكرها في إحدى مقالاته الأخيرة بعموده الشهير " مشاغبات " بجريدة " المصري اليوم " ، كتب حول حواديت النفاق العربية والمصرية للحكام .. " أنه في أحد الاجتماعات التي التقى فيها الرئيس مبارك عدداً من المثقفين المصريين ، انتقد أحدهم من المتحمسين لتأييد سياساته ، عدم اهتمام الرئيس بأن يحشد حوله تيارًا يؤيد هذه السياسات ، عبر دراسته لخطبه وتصريحاته ، مما أسفر ـ في تقديره ـ عن اقتصار الجدل السياسي في مصر ، على جناحين أحدهما " ناصري " والآخر " ساداتي " من دون أن يكون هناك تيار " مباركي " داعياً إياه إلى تجميع خطبه وتصريحاته وأنصاره من المثقفين لكي يقوموا بدور الشراح والمفسرين لما في هذه الخطب والتصريحات من أفكار سياسية عميقة ، كفيلة بأن تحشد جماهير الشعب من حولها ، ولكن الرئيس " مبارك " لم يجد في الفكرة التي طرحها المذكور في حماس مفتعل ما يدعوه للاهتمام بها ، فقاطع صاحب الاقتراح قائلاً " بصراحة يا فلان أنا لا أجد أي أهمية لطبع هذه الخطب .. ولا أفهم ما الذي تريده بالضبط ، فأرجو أن توضح لي الأمر بدلاً من اللف والدوران الذي حول رأسي إلى حلة ملوخية ! " وضحك الحاضرون .. وضحك الرئيس .. بل وضحك صاحب الاقتراح ، ربما لأنه أراد أن ينافق الرئيس بأن يقدم له طبقاً من " الكوسة " وأن يضيف إلى صفاته صفة المفكر ، فإذا بالرئيس يُغرقه في حلة من الملوخية حولته إلى مسخرة بين الجالسين .. " ..
وبرقة وسرد مفعم بشجن العبارات يحكي لنا " صلاح عيسى " بعض ما جرى في الساعات الأخيرة من حياة عميد الأدب العربي " طه حسين " ..
عندما عادا من الرحلة الأخيرة ، وجدا البيت فارغًا تمامًا من الخدم والمعاونين ، كانوا قد هاجروا إلى بلاد غنية ، ولم يكن قد بقى لهما لكى يعيشا معًا سوى أربعة أسابيع ، وفى ذلك اليوم - السبت ٢٧ أكتوبر ١٩٧٣ - لم يكن يبدو عليه المرض إطلاقًا ، ومع ذلك ففى الثالثة من بعد الظهر ، شعر بالضيق ، وتعثرت الكلمات على لسانه ، وعجز عن نطقها ، وعندما وصل الطبيب كانت النوبة قد زالت وكان قد عاد إلى حالته الطبيعية ، وفي تلك اللحظة وصلت برقية الأمم المتحدة التى تعلن فوزه بجائزة حقوق الإنسان ، فقرأها له الطبيب وهنأه بحرارة ، لكنه لم يجب إلا بإشارة سريعة ، كأنها تقول : وأية أهمية لذلك .. ؟ وفي الثامنة والنصف كانا قد أصبحا معًا وحيدين ، وكان يريد منها أن تجعله يستلقي على ظهره ، وكان ذلك مستحيلًا بسبب ظهره المسلخ .. وظلت تصغى إلى صوته يتوسل إليها کصوت طفل صغير قائلاً :
- إنهم يريدون بى شرًا .. هناك أناس أشرار !
- من الذى يريد بك الشر يا صغيري .. من هو الشرير !
- كل الناس !
أخبار متعلقة :