"التنوير هو فتح النوافذ للشمس والحق والحقيقة "
ظهر الفكر التنويري في أوروبا أولاً ، في عصر النهضة Renaissance في القرون ( 14-15-16 ) عندما تجددت فيها الفنون والآداب والعلوم والسياسة ، مستلهمة الفكر اليوناني القديم . وفي هذا العصر قامت حركة الكشوف الجغرافية الأوروبية ، وتم اختراع الطباعة، وازدهرت الحياة الفكرية والاقتصادية و الاجتماعية ، كما ظهر في هذا العصر عدد كبير من العلماء والأدباء والفنانين الكبار.
ويعتبر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل Bertrand Russell في كتابه ( حكمة الغرب wisdom of the west ) أن النهضة الأوروبية، قامت على ثلاث دعائم أساسية هي : ( المسيحية والحرية والعلم الحديث ).
أما بالنسبة للنهضة العربية ، فقد جاءت متأخرة أكثر من ثلاثة قرون عن النهضة الأوروبية ، بسبب الجهل والتخلف الكبير ، وسياسة العزلة التي فرضها العثمانيون على البلدان العربية التي كانت خاضعة لهم ، باسم الدين والعادات والتقاليد التي كانت سائدة في ذلك الحين.
عوامل ظهور النهضة العربية .
كان لظهور النهضة العربية أو عصر التنوير العربي ، عوامل متعددة من أهمها :
1/ الحملة الفرنسية على مصر :
قدمت هذه الحملة الى مصر بين عامي ( 1798 - 1801 ) بقيادة نابوليون بونابرت Nopodin Bonaparte التي كانت اول احتكاك حقيقي و مباشرة بين الشرق والغرب، منذ حروب الفرنج في الشرق ، التي دامت نحو مائتي عام (1097 - 1291) .
وقد تعرف المصريون خلال هذه الحملة ، على مبادئ الثورة الفرنسية ، في الحرية والعدالة والمساواة ، وتمت خلالها دراسة مصر من جميع النواحي ، بجهود مجموعة من كبار العلماء الفرنسيين الذين واكبوا الحملة، وقد وضعوا أول واهم دراسة موسوعية شاملة عن مصر ، كانت بعنوان (وصف مصر) في (40) مجلداً
و عن طريق هذه الحملة ، عرفت مصر الطباعة لاول مرة ، و باكتشاف (حجر رشيد) و مساعدته ، تم حل رموز المكتابة الهيروغليفية مما أزاح الستار عن نحو (3000) عام من تاريخ مصر قبل الميلاد .
2/ إصلاحات محمد علي باشا ، بدأ حكم محمد علي باشا لمصر عام 1805 وقد عمل على قيام نهضة شاملة في البلاد، بافتتاح المدارس ، وإرسال البعثات العلمية الى أوروبا، وإنشاء جيش وطني وأسطول بحري، وإقامة المصانع وتطوير الزراعة وغيرها . اني ابراهيم باشا إلى سوريا محرراً البلاد وعندما دخل ابنه إبراهيم باشا إلى سوريا محرراً لها من الحكم العثماني بين عامي ( 1831 - 1840) أحدث تغييرات حضارية هامة، في شؤون الحكم والاقتصاد، والتنظيمات الادارية والاجتماعية، حيث أعلى المساواة بين المواطنين . وافتتح الكثير من المدارس ، كما فتح الباب أمام البعثات التبشيرية والتعليمية الغربية .
3/ البعثات التبشيرية
دخلت هذه البعثات الى بلاد الشام منذ القرن السابع عشر وازدهرت أعمالها في القرنين التاليين ، حيث قامت ببناء المدارس ، وكان من هذه البعثات ( اليسوعيون) الذين كانوا أنشط هذه الجماعات في البداية ، إلى أن جاءت طلائع البعثات الأمريكية التي وصلت إلى هذه البلاد في سنة ( 1920 ) حيث أسست أول مركز لها في مدينة بيروت ، وفي عهد ابراهيم باشا ، انطلقت هذه البعثات الى العديد من أنحاء بلاد الشام.
وقامت هذه المدارس بوضع الكتب المدرسية ، وتعليم كافية أنواع المعارف، وأرست نظاماً تربوياً وثقافياً جديداً . فحلت بجدارة واقتدار محل نظام ( الكتاب) العثماني الذي كان يعلم التلاميذ شيئاً من القراءة والحساب ، وبعضاً من مبادئ الدين . وقد مهدت هذه المدارس السبل أمام اللغة العربية لتعود وسيلة للتعبير عن الفكر ، ورابطة وطنية بدلاً من اللغة التركية كما انشأت هذه المدارس المطابع الحديثة لطباعة الكتب ، وأخرجت ترجمه عربية للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد ، وتوجت هذه البعثات اعمالها بانشاء الجامعة الأمريكية في بيروت عام (1866) وتلاها انشاء (الجامعة اليسوعية ) في بيروت أيضاً عام (1875) واسس الروس والالمان والانكليز والايطاليون والفرنسيون و اليونان أكثر من ( 80 ) مدرسة . والى جانب المدارس والجامعات، أنشئت الأديرة والمشافي ودور الايتام في المدن الكبرى مثل بيروت ودمشق وحلب واللاذقية والقدس وغيرها ....
4/ الجمعيات العلمية والأدبية.
أسس المعلم بطرس البستاني ، مع بعض المبشرين الأمريكيين جمعية الآداب والعلوم عام (1847) وقام اليسوعيون بتأسيس جمعية الشرق ( 1850 ) ثم قامت الجمعية العلمية السورية في عالم (1857) وكانت تضم أعضاء من مختلف الديانات والطوائف وبعد ذلك الحين ، أصبح الحافز علما العمل ، هو الاهتمام بتقدم البلاد، على اساس الوحدة الوطنية .
5/ دخول المطابع :
ان اول مطبعة بأحرف عربية صنعها عبد الله زاخر الحلبي في مدينة حلب العريقة عام (1704) وتبع إنشاء المطابع بإصدار الصحف في بلاد الشام ومصر التي كان لها دور كبير فيد تنبيه الى الفكار ، وخلق الوعي الوطني بضرورة تحرر البلدان العربية من الحكم العثماني الغاشم ، واستقلال شعوبها ، ولولا المدارس والمطابع لبقي الجهل والتخلف والانعزال إلتي فرضها الاتراك العثمانيون مخيمة في البلدان العربية.
6/ ولادة الفكر التنويري
ولد الفكر التنويري العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، و تطور في بداية القرن العشرين ، كمشروع يرى في المجتمع موضوعاً قابلاً للتحويل ، ويرى في الفكر أداة لهذا التحويل ، وعلى المثقفين المتنورين بناء مجتمع يحقق إنسانيتهم و ايجاد مدرسة تحرر العقول والعمل على خلق وعي جديد ، يميز بين الحاكم والوطن ، ، ومجتمع جديد يحتفل بالمواطنة، ويجعل من ( الرعية ) شأناً من شؤون الماضي .
بدأ الفكر التنويري بالكل ، وانفتح على الكل، والحكم الديمقراطي هو نقيض السلطة المستبدة والإنتماء الوطني هو بديل الإنتماء الديني والطائفي الضيق . وهذا ما جعل فكر التنوير منفتحاً على المستقبل ، وبعيدا عن الصيغ المسكونية الجاهزة.
والفكر التنويري ، هو نقيض الفكر التلفيقي الراهن الذي ينتج سلطة سياسية ، تقيد الشعب وهي تقوده ، وتهزمه ولا تستنهضه، وتنهبه وهي تحرسه ، وتدمر محاكمته العقلية ، وهي تعلمه القراءة والكتابة ، فلا مجال هنا لسديم يسمونه (العقل العربي) ولا مجال للحديث عن قواعد المعرفة !.....
و من جانب آخر، فقد انشغل فكر التنوير العربي بتحديث اجتماعي شامل، يحاصر التخلف والاستبداد والتعصب ، وقد تطلع عبد الرحمن الكواكبي وطه حسين واحمد امين و امثالهم إلى تحرير النص الديني الإسلامي من قيوده المتوارثة ، وإطلاقة نصاً جديداً ، يتعاطى مع العصر، ومع مستجدات الحياة ...
الفكر التنويري فكر وطني .
ان فكر التنوير هو فكر وطني، با نشداده الى هموم الناس اليومية. وهو مشروع إصلاح اجتماعي ، بعيد عن الأفكار الفكر السلفية المعلبة، والمحنطة، وهو يرى أن الفكر السلطوي لا يختلف كثيرا عن الفكر الأصولي ، بالاضافة إلى وجود من ينتهك الفكر ، ويولد فكراً ظلامياً ، كما يفعل ( محمد عمارة ) وامثاله ، الذي يرى الفكر متساوياً مع الهوية الدينية ، ومنبثقاً عنها . وهو بذلك يصل الى تقويض المعرفة ، ومعنى الوطن ، وتكبيل الفكر وتكليسه ، وقد سبق أن دافع رفاعة الطهطاوي عن مفهوم المواطنة ، وفصل طه حسين بين العلم والدين ، ورأى أن لكل منها حقله ومعاييره . وأن مفهوم (الدولة) يتكون ويتطور ، في إطار الديمقراطية والقانون.
وقد أنكر زمن الايديولوجيات العربية الصاعدة، منذ خمسينات القرن العشرين منابعه التنويرية الأولى ، وذلك بسبب عماه الفكري والأيديولوجي. وسعى اصحابه إلى السلطة ، وركضوا لاهثين وراء (مواكب السلطان) فكانت هزيمة الفكر التنويري الجزئية ، مقدمة لهزيمة شاملة لهذه الإيديولوجيات.
النهضويون التنويريون
في مطلع القرن التاسع عشر، كان الشيخ حسن العطار ، قد أطلق صيحته المشهورة في مصر قائلاً : " إن بلادنا لا بد أن تتغير أحوالها، ويتجدد بها من المعارف ما ليس فيها ".
وكان رفاعة الطهطاوي ، قد تحدث في كتاباته ، عن الحقوق الطبيعية للانسان، القائمة على المؤسسات الدستورية و احترام القانون والمساواة والعدالة.
وذكر فرح انطون في مجلته (الجامعة) حلمه ببناء الدولة الحديثة، القائمة على المؤسسات الدستورية، واحترام القانون ، وصيانة حقوق المواطن.
وليس في وسع اي باحث التحدث عن النهضة العربية وعصر التنوير ، دون أن يأتي على ذكر العشرات ، بل المئات من التنويريين ، دعاة الاصلاح والتقدم ومنهم : (بطرس البستاني - ناصيف اليازجي ، عبد الله النديم ، جمال الدين الأفغاني - الشيخ محمد عبده - عبد الرحمن الكواكبي - مصطفى عبد الرازق - خير الدين التونسي - يعقوب صروف – سليم سركس – قاسم أمين – لطفي السيد - أمين الريحاني - أحمد أمين - ساطع الحصري – سلامة موسى ، قسطنطين زريق وجرجي زيدان ، وصولا الى سيد القمني وجمال حمدان وغيرهم)...
انتكاسات التنوير العربي
منذ فجر النهضة العربية ، وظهور فكر التنوير العربي ، وقع التنويريون بين المطرقة والسندان، مطرقة رجال الدين الأغبياء المتزمتين، ورجال السلطة المستبدين. وبالرغم من الفاصل الزمني الطويل ، يجد أنصار التنوير والحداثة اليوم أنفسهم بين مطرقة النظم السياسية الاستبدادية ، وموجة الردة والرداءة، وبرغم التناقض الأساسي بين القوتين ، فإن تأثيرهما السلبي ، يصب في مجرى واحد ، هو مجرى التخلف، ومعاداة الحرية والدولة المدنية .
وفي أواخر القرن العشرين ، واجه فكر التنوير العربي الانتكاس والهزيمة ، بسبب غياب الدولة الحديثة القائمة على المؤسسات الدستورية . بل بلغ الأمر في بعض الحالات العربية ، إلى غياب. الدولة بالمعنى الحديث ، لتحل محلها جماعات متنقذه سياسيا واقتصادياً ، إضافة إلى القوى الأمنية التي باتت تتحكم بمصائر الشعوب العربية .
ومن أسباب الأنتكاس الأخرى، غياب النزعات الإنسانية بشكل عام. فلا وجود لاحترام حقوق الانسان ، ولا للحريات العامة ولا لتطبيق القانون . مع وجود الانقسامات العرقية والدينية والطائفية، والسياسية الواسعة والعميقة ، إلى جانب تهميش أصحاب الكفاءات والقمع السياسي والتميز السائد فيا كل شئ وقد بات ( العقل العربي / معطلاً ومحاصر بأفكار و ادوات القمع التي الغت دوره في المجتمع، إضافة إلى أن العقل العربي مبني أصلاً على المسلمات غير القابلة للنقد. والتعليم القائم على التلقين الذي الغى : دوره في النقد والابداع والبحث و التحليل.
والثقافة اليوم هي ( ثقافة سلطة ) متعالية على الشعب لاتملك رصيدا من المعرفة ، وثقافة الحداثة مغضوب عليه من السلفيات السائدة، في حراستها مكامن الركود والانغلاق والانعزال، وفي إعلانها القطيعة مع كل معرفة حضارية، وانفصالها عن كل الثقافات الانسانية الأخرى.
وليس من باب المصادقة أن يكون التنويريون العرب المعاصرون القادرون على التغير ، هم اولئك الذين يعيشون في بلاد الهجرة ، خارج اوطانهم ، خوفاً من قطع الارزاق وقطع الاعناق اضافة إلى من تم إدخاله إلى السجون والمعتقلات .
دفاعاً عن التنوير
من على الرغم من تراجع الفكر التنويري ، فقد بقي من المثقفين العرب من يدافع عنه، اعتماداً على مقولة الراحل سعد الله ونوس وهي (الوعي التاريخي). ومن المثقفين المعاصرين الذين تعاملوا مع الفكر التنويري من موقع الالتزام به والدفاع عنه د. جابر عصفور الذي يوضح موقفه في ( هوامش على دفتر التنوير ) من أجل مدرسة جهد يعرة تبني الدولة التنويرية .
وكان طه حسين يحلم بانتاج (وعي تنويري) في كتاب (مستقبل الثقافة في مصر).
لقد بدأ الفكر التنويري من فكرة الانسان والتاريخ ، وقد هزمته الايديولوجيات القومية العربية والاشتراكية البائسة وكانت هزيمته الجزئية، مقدمة لهزيمة شاملة لهذه الايديولوجيات، و بات الدفاع عن التنوير، دفاعاً عن الوطن والشعب ، وعن مشروع الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية .
أخبار متعلقة :