علينا أن ندرك بدايةً أن للتطرف أسباب وتداعيات ، وأن بداية المشوار الحديث بدأ من تنظيم القاعدة كنموذج ظلامي للتطرف الديني .
التطرف هو ثقافة ، وموجود منذ القرن الأول الميلادي ، ومن ثم في العصر الإسلامي ، ومن ثم على هامش الحركة الإصلاحية التي قادها مارتن لوثر كينغ في الولايات المتحدة ، حيث استغلها متطرفين ، وهدّموا العديد من الكنائس ومحتوياتها ، والأمثلة كثيرة عبرَ التاريخ . والعقلية الدينية المتطرفة في المجتمع العربي هي سبب تخلّف هذه المنطقة من خلال الإقصاء والتشدد والتطرّف في الأمور . ومن خلال الإكراه في الدين ، والعنف في المواقف ، ومن ثُمّ التكفير .
فلو أخذنا كلمة " الأمن " نراها مفردة واحدة ، ولكن مفهومها شامل وتحتاجه كل الدول والشعوب وفي كل مجالات الحياة ، فهناك بكل تأكيد أمن عسكري ، وآخر غذائي ، وأمن إقتصادي ، وأمن فكري ، وأشياء أخرى يحتاجها الإنسان لحماية نفسه ، ولعل أهمها هو الأمن الثقافي الذي يمثّل أحد أهم إحتياجات الإنسان التي تضمن له نوعاً من الاستقرار والسلم الأهلي ، وشروط استمرارية الحياة في مجالٍ آمن ، ومن خلال الإرتكاز إلى فكرٍ معتدل ينهض بالأمة ويحصّن الوطن ، ويصون المجتمع من خلال سياسة الحكمة والتسامح والتعايش .
لذلك نرى أن أهم أسباب التطرف هو سوء التعامل السياسي بين السلطة والشعب بكل مكوناته وأطيافه ، وغياب العدالة ، وغياب العدل ، إضافة إلى قمع الحريات وتهميش بعض مكونات المجتمع ، ومضاعفة نسبة التخلف والجهل ، وتحقيق زيادة في نسبة الفقر بدلاً من التقدم والرفاهية . ورغم كل ما واجهته المنطقة من التطرف والإرهاب خلال السنوات السابقة إلاّ أن الحكومات والمنظمات ولغاية الآن لم يضعوا خطةً أو برنامجاً جاداً لمواجهة التطرف بكل أشكاله ، ولو على مستوى مشاريع قوانين أو آليات لمكافحة التطرف .
وعلينا أن نعي بأن التطرف الديني والمذهبي صفةٌ طاغية في التاريخ العربي الإسلامي ، ويظلّ أساس التطرف الديني أصل في تراثنا الفقهي ، وكتب تاريخنا العتيدة ، حينما يُنصّبون أنفسهم أوصياء بإسم الله على الناس ، فإمّا أن يكونوا معهم أو يُقتلوا ، لأنهم الفرقة الناجية من النار ، وسواهم كفّار قتلهم واجب " كما يقولون " .
لذلك أرى ومن باب الحرص على الثقافة والمجتمع والدولة والأمة ، أنه لا بد من نقد وتنقية كتبنا وإعادة مراجعتها وبتر سياسة الإقصاء والكراهية والتطرف ومبدأ الفرقة الناجية دون سواها .
كما لا بد من رفع نظرة التقديس للآراء والنصوص والأفكار واستبدالها بسياسة المنطق والعقل ، وبالتالي إطلاق حرية الفكر والعقيدة والتعبير عن الرأي .
ومن جهة أخرى لا بد من تحرير الناس من تقديس البشر وعبادة الأشخاص ، وتأهيلهم كي يُحاكِموا الأقوال والأفعال بدل سياسة الجري خلف الأشخاص كقطيعٍ من الغنم .
فما نحتاجه هو أصوات معتدلة تدافع عن الآخر ، وحكومةٌ تحمي الآخر ، وقصرٌ جمهوري ينطلق منه صوت الشعب ، حينها سيُعاد بناء الثقة ، ويرتفع خطر التطرف والإرهاب ، ويتم ترميم سلمنا الإجتماعي والثقافي والسياسي بشكلٍ تدريجي وسلس .
وأنا هنا لا أقول بأن التطرف سينتهي أو يتلاشى ، لكنه سيخفّ ويهدأ ويضعف ، وقد يعود فيما إذا وجد أن هناك ظروف ملائمة لانتشاره من جديد .
ومن هنا نؤكّد على ضرورة حاجتنا إلى تأسيس مراكزاً لتشخيص الفكر المتطرف وعلاجه ، ورعاية وتأهيل المتأثرين به ، بهدف التأثير في تركيبتهم الفكرية المتطرفة وبترها ، من خلال البحث الجاد في موضوع الحوار والوسطية والاعتدال لبلورة المواجهة بطريقةٍ تتضمن البُعد الفكري والاستراتيجي .
ولعل من أهم الأمور التي تساعدنا في محاربة التطرف والإرهاب هي ترشيد ومراجعة وتوجيه الخطاب الديني ، ورفع مستوى تأهيل الأئمة والخطباء بهدف مواجهة التطرف الفكري ومنابته. ومن الأهمية بمكان مراقبة مواقع التواصل الإجتماعي التي هي نافذة حيّة لمحاربة ومكافحة التطرف .
وعلينا أن نأخذ بعين الإعتبار أن المجتمعات الشرقية من السهل إختراقها عاطفياً ، لأنها مجتمعات تربّت على كمٍ كبير من العاطفة على حساب التوجيه النصي والفكري والعقلي ، فالبنية الفكرية الشرقية تميل إلى البساطة والتديّن ، وهكذا تركيبة تكون مهيّأة لّلإستغلال والإختراق ، لذلك لا بد من رفع مستوى الوعي معهم وعندهم ، من خلال الأمن الثقافي والفكري كمنظومة متكاملة ، التعاون والتنسيق مع الآخر مهم مع بقاء سمة التعددية والتنوّع كبصمةٍ وطنية ، مع ثوابت حفظ الحقوق وتحريم وتجريم العنف والإعتداء على الآخر ، والمحافظة على التعايش والمواطنة والتآلف وعلى الهوية الوطنية . لأننا لو قاربنا الأمور أو الواقع لثبت لدينا أن من أهم أسباب العنف والتطرف والإرهاب هو أن القمع في دولةٍ ما ألغى السياسة فيها وفي مجتمعها ، وتحوّلت السلطة من خلال القمع إلى مجالٍ للتوحّش السياسي ضد الفرد والجماعة ، ومن خلال هكذا واقع خرجت فئآت شبابية بشكلٍ خاص على مجال التوحش السياسي الرسمي من خلال لجوئها إلى تنظيماتٍ متطرفةٍ دينية ، وراحت تناهض الأنظمة الإستبدادية من خلال العنف والتطرف الفكري والإرهاب الديني والثقافة التكفيرية ، بمعنى أنها تكفّر الآخر بغض النظر إن كان مسلماً أو من طائفةٍ أخرى وتنبذه وتقصيه وتقتله . ومن خلال هذا السياق نقول أن ثقافة الفكر التكفيري هي من نتاج التعليم الديني المتشدد أو من القراءات السطحية للنصوص ، و هنا تكمن العلّة الأكثر عمقاً وراء طغيان الإرهاب التكفيري . كما أن هناك أسباب اقتصادية لانتشار التطرف ، مثل الفقر ، والتهميش والبطالة ، والمرض والجهل ، وسوى ذلك من أمور كانت مناخاً مليئاً باليأس والإحباط ، والذي دفع ببعض الشباب أو بكتل شبابية إلى الإلتحاق بتشكيلات الإسلام السياسي المتطرف ، لمواجهة السلطة والتحرر من اليأس والإحباط والفشل . المتطرف يستخدم العنف لجعلك أو لاجبارك أن تؤمن بفكرته وعنفه وتطرفه ورؤيته .
لذلك كي نحارب التطرف والإرهاب علينا أن نُصلح كل الأجهزة الأمنية ، ونحسّن نظام التعليم ، ونطوّر قطاع الأعمال والصحة والخدمات ، وإصلاح القضاء ، ودعم قدرات الشباب ، بهدف إصلاح الدولة والمجتمع والفرد . حيث أن بيئة الفساد الفكري والسلوكي والاقتصادي بمرور الزمن تبيد المجتمع ، وتبقى أجهزةٌ بعينها مستفيدةٌ من الفساد ومتورطة فيه ، لذلك إن التداول السلمي للسلطة يفتح طريقاً فسيحاً لاستيعاب مختلف الطاقات وعملها بصورةٍ حقيقية ، ويقف حائلاً أمام نشوء سلطةٍ منغمسة بالمال الفاسد ، ومستفيدة من المتطرفين لترسيخ وحماية وجودها . الفهم الخاطىء للدين ومبادئه ، والإحباط الذي يلقاه الشباب نتيجة افتقادهم المُثل التي آمنوا بها في سلوك المجتمع . والخطأ في إدراك حقيقة المثل العليا وطبيعة المجتمعات الإنسانية واسلوب الإصلاح ، وشيوع القهر والقمع سواءً كان على مستوى الأسرة أو المدرسة أو الشارع أو المجتمع والدولة ، وغياب الحوار المفتوح ، كل هذه الأمور وسواها هي السبب الرئيسي والأساسي لإثارة التطرف والعنف وليس علاجاً له .
فلذلك إن مواجهة ومحاربة ظاهرة التطرف تتطلّب وضع إستراتيجية طويلة المدى على المستوى القومي ترتكز بشكلٍ أساسي على ضرورة التطوير الحقيقي للتعليم في كل مراحله ، وتشجيع النقاش والنقد ، والإبداع والإبتكار ، ومحاربة الفساد بكل صوره وأشكاله ، والعمل على إقامة مشروعٍ تنموي نهضوي حضاري وشامل يكون عماده كل مكونات المجتمع كوضعٍ وكمشاركةٍ وتنفيذاً ، مع إعلاء قيم العمل والعلم والثقافة والهوية والولاء والإنتماء ، وإطلاق سياسة الحريات والتعددية والتداول السلمي للسلطة ، والتوزيع العادل للثروة الوطنية ، والربط الجوهري بين العطاء للمجتمع والعطاء للفردِ أو المواطن .
التطرف لا يُواجه فقط بالسلاح ، بل يواجه من خلال الثقافة والوعي والفكر والعلم ومحاربة الفقر ، وإشاعةِ سياسة التعايش بين كل مكونات المجتمع الذي يجب أن يكون متآلفاً ومتساوياً في كامل حقوقه وواجباته من خلال سيادة القانون .
أخبار متعلقة :