فى حياة كل صحفى محطات شكّلت وعيه وأعادت صياغته للأحداث الوطنية، ليصبح بعدها شاهدا على أحداث ربما لم يعاصرها أو يعايشها.. هكذا منحتنى «صاحبة الجلالة» فرصة محاورة أحد صناع نصر أكتوبر 73.. إنه المشير «عبدالغنى الجمسى»، آخر وزير حمل لقب وزير حربية فى مصر.
كنت أسجل حوارًا ينفرد بتقديم الخلفية الإنسانية للشخصيات والمواقف السياسية فى تجربةٍ يوثق فيها الصحفى بالكلمة والصوت والصورة شهادات حية على التاريخ المعاصر، ويجيب عن السؤال الذى يتردد على ألسنة الناس حول المشاهير الذين غادروا بؤرة «الضوء»: «أين هم الآن؟!».. وكان هذا هو اسم البرنامج الذى عُرض على قناة Art، وقام بإعداده الكاتبان «حمدى رزق وأسامة سلامة».
دارت الكاميرا وازداد الحماس مع خطوات المشير «الجمسى»، رافقته فى شغف ورغبة فى الاقتراب أكثر، وقمنا نتمشى فى ملعب «الكروكيه» فى «نادى هليوبوليس»، وبدأ يحدثنى عن دور الرياضة فى حياة العسكرية بصوت لا يخلو من مرارة، فقد كان يمارس الرياضة بأمر الأطباء بعد «أزمة قلبية»، وكانت الكاميرا تسجل خطوات المحارب الذى ترك السلاح وتمسّك بعزة النفس حين كتب استقالته للتاريخ ولأولاده- على حد تعبيره!.
كنت شابة مغامرة، وكان المفروض أن يتوقف التصوير هنا وأنا أحاول أن أقتحم عالم المشير «الجمسى» برفق.. توقفنا عند موقف درامى خرج فيه «الفيلد مارشال» من الميدان لتتحول «وزارة الحربية» بعده إلى «وزارة الدفاع» بما يتناسب وخطاب مرحلة السلام التى بدأها السادات بـ«كامب ديفيد»!.
من تلك اللحظة الفارقة انكشف الألم الذى كان يداريه بكبرياء.. وحملتنا الذكريات إلى حوارنا.. كانت مهمة اختراق «الجبهة الإنسانية» للمشير شبه مستحيلة، إنه شخصية عسكرية صارمة، فاستعرت عبارة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل وسألته عن «دموع الجنرال»: هل صحيح أنك بكيت أثناء المفاوضات مع «كسنجر»؟.. أجابنى وبريق دمع عزيز يغلف نظرته: (كنا نتفاوض حول الأمن المتبادل بين مصر وإسرائيل، وأصر كسنجر على منحهم تأمينًا أكثر، رفضت، فجاءنى السادات وقال قضى الأمر، انسحبت من أمامه أدارى دموعى فى دورة المياه).. وتداعت لحظات الألم، فأخذ يروى لى عن يومٍ أصر فيه «السادات» على حرمانه من حضور احتفالات أكتوبر بوصفه وزيرًا للحربية وكيف جرى تغييره قبل الحفل بثلاثة أيام، واحتد علىَّ وهو ينفى شبهة أن تكون رتبة مشير «رتبة شرفية»، استشهد بـ«مونتجمرى» وقال - فى اعتزاز - إن نصر أكتوبر مدوّن ضمن مسوغات حصوله على وثيقة «الفيلد مارشال».
ولأن الذكريات موجعة تستدعى بريق المنصب وسطوته كما تستدعى لحظة الفقد، قهرنى ليوقف الحوار.
شهر كامل، ومحاولات مضنية ونحن نحاول استكمال الحوار الذى توقف بدمعة حائرة تجمدت على جفنه رافضة الاستسلام.. وفريق العمل بأكمله يشعر أننا أمام مسؤولية تاريخية، وأن مساحة «البوح» التى يسمح بها المشير ستتحول إلى وثيقة مرئية.. وقبل أن نيأس كانت دعوته إلى مكتبه الخاص:
حاولت رسم «بورتريه» إنسانى يقدم ملامحه النفسية وعالمه وواقعه، ومن غرفة المكتب التى كان يعتبرها «ثكنة» يعكف بداخلها على الأبحاث العسكرية والاستراتيجية كان غارقًا فى كمٍّ هائل من الكتب، وعلى مكتبه مشروع «مركز للدراسات الاستراتيجية - العسكرية».. المشروع أُجهض لعدم وجود إمكانيات!.. أما المكتبة فتلخص تاريخه وتحفظه:« 24 نيشانًا وميدالية، ونجمة الشرف التى حصل عليها بعد حرب أكتوبر، وأعلى المكتبة بقيت حقائب قطيفة فارغة كانت تحمل - ذات يوم - أسلحة نادرة أهداها له الرؤساء والملوك العرب وأهداها فيما بعد للقوات المسلحة»!!.. وهنا توقف ليقول: «بعدما رحلت زوجتى وانصرف الأولاد إلى أسرهم الصغيرة، أصبح الكتاب هو كل سلواى فى وحدتى».
وإلى جوار الكتب، احتفظ المشير بـ (النجمة العسكرية، وكشكوله الشهير، ووثيقة حصوله على رتبة مشير، واستقالة أصر على كتابتها للتاريخ).
وأخذ «المشير» يروى لى كيف أعاد «عبدالناصر» بناء القوات المسلحة، وينسب نصر أكتوبر إلى تلك المرحلة، ويفك لى طلاسم «الثغرة».. وامتد الحوار لمعظم القضايا العسكرية والاستراتيجية، وكان يتمتع - خلاله - بذاكرة حديدية، ويتحلى بنبل وصدق شديدين. وأثناء الحوار كان يسيطر علىّ سؤال مُلح: ماذا لو تآمرت على هذا الرجل الوحدة مع النسيان والمرض، هل يستسلم ساعتها لقانون السن؟.. هل تتعطل ذاكرته فتختلط لحظات الانتصار بلحظات الانكسار؟.. ثم جاءتنى الإجابة: الوحدة تكسر حتى صلابة المحارب.. رحم الله المشير «الجمسى»!.
أخبار متعلقة :