بوابة صوت بلادى بأمريكا

أنا وأهلي بقلم وسام المومنى

 
 
عندما كنتُ في السابعةِ من عمري، كنتُ أعيشُ حياةً مليئةً بالهناءِ والسُّرور؛ أي أنني ترعرعتُ في كنفِ عائلةٍ جعلوني أشعرُ دوماً بأنني أميرٌ لا أقل من ذلك.
هذهِ السعادة التي كنت أحسُّ أن لا احدًا يعيشُها غيري " من فرطِ جمالِها فقدتُها لمدةٍ طويلة. ثم عادَ الزمنُ ليبتسمَ لي من جديدٍ وكأنني لم أحزن يوماً، فمن أنا وما هي قصتي، وكيف أصبحتُ بهذهِ القوة؟ ...
 
جميلةٌ: هيا يا بُنيَّ انهض فطعامُ، الإفطارِ جاهز.
وائل: أنا قادمٌ يا أُمي.
نضال: ما أجملَ عائلتنا، أدعو الله قيامًا وقعودًا أن يديمنا لبعضنا.
وائل: أحبكم جدًا، يا أفضل والدين على الإطلاق.
 
لطالما كنتُ مع أسعد عائلةٍ، دومًا ما، يقدمون لي كل شيءٍ حتى أبقى في غاية الفرح.
 
كان والدِي العزيز حلمُ طفولتهِ أمانَ الوطنِ (أي أن يصبحَ شُرطياً)، وبالفعلِ حقّقَهُ وكان ما زالَ يعشقهُ ويبذلُ كل ما لديهِ من طاقةٍ حتى يقدم عملهُ على أكملِ وجه.
كنتُ أتعلم منه الكثير، ودومًا كنت أرددُ من عمل بشيءٍ يرغبُ بهِ سيبدعُ بذلك المجال لا محالة.
خشيتي كانت هي الفقد، نعم هذا ما كنتُ اخشاهُ وخصوصًا على والديّ، إلا أنهُ قد حصلَ وكُسِرَ قلبي؛ فإن ما حصل كان بالضبط ِ أكبر مخاوف حياتي.
 
كان متقنًا لعملهِ للدرجةِ التي جعلتهُ يحصل على درجاتٍ من الترقية حتى أَصبح أشهر مفوضاً في مدينتنا، والأرجاء جميعها تنطق باسمه.
ورغمَ كل هذا، إلا أنني كنتُ دائمًا في تلك الأيام اتساءلُ هل يحدثُ يا ترى؟
ذهبثُ إليهِ وعانقتهُ، تجرأتُ فقط في مرة واحدة، فقط في مرة واحدة تجرأتُ على سؤالهِ ... هل أفقدكَ يا أبي العزيز في اشتباكٍ ما؟ فأجابني: وكيف لي أن اتخلى عنك يا ولدي؟ لا تقلق أنا بجانبك طوال الحياة، ثم نظر حولهُ وكأنه خطرَ على بالهِ شيء فمسك بيديَّ وقال لي: لكن يا بنيَّ لا أحد منا يعلمُ الأقدار وما يحدث فإذا حدث وإن حصل شيء من هذا القبيل لا تحزن، وكن مع الله ولا تبالي لا تنسى أن تحافظ على قلب والدتك من الحزن، ولا تتخلى عن حُلمك أبدًا تمّسك به وحققه كما حققتُ ما أحلم به، وطوّر نفسك في الكتابةِ فإنني أرى فيكَ كاتبًا كبيرًا ذو شأن ... لم أنسَ ذلك الكلام قط.
ثم مرت الأيام والسنين، أصبح عمري ستّة عشر عامًا كنتُ سعيدًا جدًا، احتفلوا  عائلتي كما لو أنني مليك قلوبهم. مرت تلك الشهور وذهب أبي للقبضِ على مفسدٍ في البلد دامَ البحث عنه لمدة سنتين، إلا أن وصل إليه في ذلك اليوم وبالفعل زُجَّ بهِ في السجن وحُكِمَ عليهِ بالمؤبد.
مرَّ شهرٌ ونصف كان أبي ذاهبًا لشراء هدية لي، لأنني بدأتُ أطوّر نفسي في الكتابةِ ولكنهُ لم يعد!
كان الرجل المجرم الذي زُجَّ به في السجن عاقدًا إتفاقية مع مجموعةٍ من أصدقائهِ الخائنين على أنه لو قُبِضَ عليه من قبلِ المفوضِ نضال؛ سيلاحقوه حتى يفقدوه حياته.
وهنا حدثَ ما كنا نخشاه ... لقد اطلقوا النار على والدِي، ثم هربوا من المدينة حتى أفقدوه روحَهُ.
لم أعلم كيف تخطيتُ ذلك ولكنني نجحت...
 
وأنتَ مهما قست بكَ الدنيا كن أقوى منها لا تنهزم؛ فهذا الكلام علَّمني إيّاهُ أبي وها أنا أُطبِقَهُ حتى يوميَ هذا.
في ذلك اليوم شعرتُ بما لم أشعر بهِ من قبل؛ كانت عينايّ على وشكِ العَمى من شدةِ البكاء فقد أصبحَت على وجنتيّ بحرًا من الدموع، لا اتمنى ذلك لأحدٍ منكم، كان قلبي يرتجف لقد تدمدمَ وذَبَل، أما حُلقومي فقد تغلّضَ من شدةِ الصراخ... إنها صدمةٌ تهدِم الروح تكسر النفس، وتُفقد الأمل.
مرَّت تلكَ السنة وطوال الوقت والدتي لا توضحُ انكسارها وحُزنها أمامي أبدًا، حتى تُكسِبُني القوة؛ أي انها كانت أشبه بشخصٍ يغرق وهو على اليابسة، أصبحتُ أُقاوم واتأقلم بفضلها.
وذاتَ يوم أخذتني لنذهب لرحلةٍ لمدينةٍ أخرى حتى تُخفف عني وتشعرني أنّ لازال هنالك حياةٌ أعيشها.
فسافرنا وكانت سفرةً خسّرتني سنينَ من عُمري ... بالفعل اصطحبتني معها وكنتُ في غايةِ السعادة، وكانَ الأُناس في تلك الرحلة كثيرون في محطةِ القطار.
حان وقتُ الصعود، فجميعنا وصلنا لِتيسارافي وكُنّا في غاية السرور. بعد أسبوع منَ الرحلة ذهبنا لمدينةِ الألعاب في تلكَ المنطقة، ثم سرعان ما كان الإزدحامُ لا يطاق، حتى أنني لم أستطع توقع عددهم ... أنهيتُ لعبتي الثانية، ثم نظرتُ وإذ أمي غير موجودة! كيفَ اختفت؟ إين أنتِ؟
 
جميلةٌ: أينَ هو؟ أين أنت َ يا عزيزي؟ أين أنت َ يا عزيزي؟ 
أرجوك ربي أن تحفظ لي بُنيّ وتُسلمهُ لي، ليس لي سواهُ يا الله.
وائل: أُمي، أُمي أين انتِ يا ونيستي؟ أين انتِ يا حبيبتي؟ أُمي، أمي ... 
كنت أصرخ باسمها ولكن بِلا جدوى، أهمسُ لقلبي بخوف بأنني سأجدها، كنتُ متيقّنٌ بأنها تبحثُ عني كما أبحثُ عنها وأكثر ايضاً. لقد حلَّ الظلام وكُلٌّ منا لم يجد الآخر؛ فقُفِّلَت مدينةَ الألعابِ بالكاملِ واضطررتُ للمغادرة ودمعي لا يُفارقُ عينايّ. ثم مرَّت ثلاثةُ أيام لم نجد بعضنا قط.
لم تكُن تعلم في أيِّ لعبةٍ صعدتُ؛ لذا أضاعتني، لم أعرف طريقي أينَ وجهتُه من كُثر ازدحام الناس.
في الاسبوعِ الآخرِ، بحثتُ عنها في المطاعمِ وهي بحثت عني في محطاتِ السيارات وفي معارض الكتب، ثم أذهب هنالكَ لأبحث عنها وهي تذهب للمطاعمِ لإيجادي؛ أي أن وقتنا لم يتطابق أبدًا، لم يحالفنا الحظ طوال هذه المُدة. 
حظيت بوالدٍ لا مثيلَ لهُ فخسرتهُ وعشتُ مع والدتي الرائعة ثم خسرتها، هذا الشعور الذي كان يملكنيِ حينها ويا لهُ من شعور!
فقدتُ أملي حينها وهي عادت لمدينتنا جوزكالفورا لأنّ الإقامة هنا في تيسارافي قد انتهت، إلا أنها لم تنساني بالطبع وأنا كذلك عاهدتُ نفسي أنني عندما أُصبحُ رجلًا يُعتمد عليه أن أجدها حتمًا، أما أنا فضَمّوُنِي إليهم لمدةِ عشرِ سنين لمعرفتهم بأنني لا زلتُ طفلًا وأحتاجُ لبلدٍ ألجأُ إليه.
بقيتُ في تيسارافي لوحدي أصارعُ أيامي أُصاحب الليل حتى لا أهابه، قرّرت بعدمِ الاستسلام والقنوطِ لليأس ... أنهيتُ دراستي وأتممتُ هنالك تعليمي عن طريق الجامعات الخاصةِ باللاجئين؛ فإنني أصبحتُ بمثابتهم. 
أعنتُ نفسي حتى بلغتُ المرادِ، تُرى ماذا أصبحِ
 
تُرى ماذا أصبحِت؟...
 
حالات المرضى التي كانت تأتيني، كانت صعبةٌ جدًا ومنها المستصعبة التي يُجرى عليها عملياتٍ نسبة نجاحها سبعةٌ بالمئة فقط، ولكنني نجحت ... نعم أصبحتُ طبيبًا بارعًا، لم يأتِ أحد إلى عِيادتي الخاصةُ في المشفى إلّا وقد إستعادَ عافيتهُ بفضلِ الله. قررتُ أن أحبَّ مهنتي حتى أبدعَ بها كما أوصاني والدي رحمهُ الله، وهنا أثبتُّ نفسي وأصبحتُ أشهر طبيبٍ في تيسارافي، بالإضافةِ على أنني هنا قادرٌ على جلبِ المالِ والعودة لبلدي ولكنَّ عملي هُنا فماذا أفعل؟
لا خيارَ أمامي إلا الانتظار، استمريت ُ بالعطاء في مشفى دابري حتى أصبحتُ قادرآ على أخذِ إذنٍ للإجازةِ لمدةِ شهر، وهنا دون إنتظار عُدتُ لمدينتي جوزكالفورا عاهدًا نفسي أن أجد والدتي. استمريتُ بالسّعي بالبحثِ عنها، قالوا لي بأنها انتقلت من منزلنا القديم لعدم إحتمالها رؤية غُرفتي فارغة، لم أجدها، إنما هي وجدتني ...  نعم كانت تبحثُ عني في تلكَ اللحظة وفي كلّ لحظة فهي تواصلت منذُ سنينٍ مع صديقٍ قديمٍ لأبي وهو المفضّل لديه، عادَ هذا الصديقُ لمهنتهِ فقط لإيجادي وإيجاد أعداء أبي. لم ينسَ طلب والدتي منه أبداً، علمَ أنني في مدينتنا فقام بإرسال فريق كامل للبحث عني إلى أن وجدني، ثم تم اصطحابي إلى مركز الشرطة الذي كان يعمل به والدي وإذ هي والدتي هناك، ركضتُ إليها بلهفةٍ رأيتُ دمعُها بعينيها لمعَ كاللؤلؤ، هنا التقينا من جديد أخيرًا ... كان لقاءٌ مليئًا بالحبّ والإشتياق ... غمرتني السعادةُ في تلك الساعة.
 
جميلةٌ: عاد فلذةُ كبدي، الحمدُ والشكرِ للهِ رب العالمين.
وائل: أمي العزيزة آهٍ كم اشتقتْ لكِ ولرائحتكِ هذه، وأريدُ أن أُبشركِ بأنني نجحتُ كما أمرتموني.
 
حصلَ إجتماعي بأمي ولكنَّ عملي في المدينةِ الأخرى، وعليّ بالعيش هنا مع والدتي فلا قلبَ لنا لفراقِ قبرَ أبي الذي هو في هذه المدينة وهجره للأبد أبدًا، فعدتُ مصطحبًا والدتي معي لم أكلّ ولم أملّ من محاولةِ نقلِ عملي لجوزكالفورا، إلى أن نجحتُ في ذلك الحمدُ لله، فعدتُ مع عزيزتي شريانُ قلبي أُمي العزيزة مكملاً معها حياتي كما كانت، وعملتُ في مستشفى طاروب في مدينتي وكنت موفقًا في كلِ شيءٍ الحمدُ لرَبي. فكان ذلك أشهَر مشفًى بالمدينة وأنا من أشهرِ الأطباء. ثم بعد أن مكث أُسبوعٌ على عودتنا جاء إلينا الصديقُ طارق، صديقُ أبي الذي وجدني قائلًا لنا: قُبض عليهم ... 
جميلةٌ: من هُم؟ هل هُم؟
طارق: نعم وقد حُكمَ عليهم بالسجن المؤبدِ، والشنقُ حتى الموت لمن يحاول الهروب.
وائل: الحمدُ للهِ الحمدُ للهِ ...
جميلةٌ: إن الله لا يظلمُ أحدًا وسيحصدُ كل شخصٍ ما زرع.
وائل: وأخيرًا سينالوا عقابهم طوال حياتهم على ما فعلوهُ بوالدي.
 
نعم فقد مرّ إحدى عشر عاماً في البحثِ عنهم حتى قُبض عليهم، فدولتنا كانت تعدّ والدي أفضَل مفوضيها... رحمك الله يا قطعةً من قلبي وشمعةً كانت تنيرُ أيامي ...
 
هنا كنا في غايةِ الفخرِ لما وصلنا له، عادت السعادةُ لنا أخيرًا، لم تعدُ تخشى أمي عليّ لأنها شعرت بأنني أُشبه والدي. افتخرت بي لما حققتُه ورفعتُ رأسها به، لم أشعر بفقد أبي كالسابق؛ فكانت هي معوّضتي. أدامها اللهُ لي سنينًا واعوامًا لا تُعد.
 
ها أنا اليوم لستُ فقط طبيبًا ناجحًا بل أشهرُ كاتبٍ في جوزكالفورا وما حولها، كتبتُ كتابًا يخصُّ كل حياة والدي وإنجازاته، وكيف كانت حياتنا الجميلة معه فأسميتهُ باسمه.
66لم يبقَ أحدًا لم يقرأه، حتى وصل للدولِ الغربيةِ وترجمَ بالإنجليزية من شدةِ إعجابِ العالمِ وتأثرهم به، فوالدي صاحب ظلٍّ ولم أُرِد أن يمضي كأنه لم يكن في نفوسِ البشر، بل أن يبقوا يتذكروهُ حتى الممات، فتناول الكتاب حياتهِ وتحقيقه لحلمه، ووفاته في سبيلِ المحافظةِ على الوطن ولكنّهُ ترك خلفهُ وائل(أنا) الذي حَمَلَ اسمهُ... ها أنا ايضًا أصبحتُ كما كان يحلُم وهذا إنجاز ٌ أعتزُ بهِ، أحمُدَ الله واشكره.
 
6هذا أنا وائل وهذه قصتي رويتها لكم بصفتي كاتبًا شهيرًا. أردتُ أن أذكركم بأن حياتكم كلها عبارةٌ عن وقتٍ، استثمروهُ أيها القُرّاء، كل شخص منكم عليه أن يُعطي حتى يصِل لأعلى مما يطمح ولأكثر مما يتمنى، ولأفضل مما يدعو.
 
أنصحكُم بما وصّاني بهِ والدي (وهو أن لا تتخلوا عن أحلامِكُم مهما كان الثّمن)، فلِكُلِّ مجتهدٍ نصيب ... أرأيتُم كيف هي قصتي؟ كنتُ سعيدًا، ثمَّ حزينًا، ثمَّ سعيدًا، هكذا هي الدُنيا غريبةٌ بطبعها، إلا أنني تجاوزتُ ووصلتُ لأعلى المراتبِ بفضلِ ربي.
 
إكتمال فرحتي هو بعودتي باجتماعي بوالدتي نبضُ قلبي. وها أنا اليوم أروي لكم قصتي وهي بجانبي تدعمني، تُقويني 
فرحةٍ لأجلي فخورةً بي ...
 
لم يكُن أيُّ إنسان منا يختار قَدَرَهُ وكيف يعيش، بل كلهُ مقدرٌ لك، لكنك أنتَ وحدك الذي تستطيعُ أن تجمِّل حياتك، ضِفْ عليها السُكَّرِ واستمتع بها ... تجاوز كل الصعاب؛ حتى تقاومَ للوصول.
 
فقدتُ أبي وكُسر عمودُ قوَتي، لكنني قررتُ بعدمِ التوقّفِ عن الأحلام، لطالما كانت منقذتي، وها أنا اليوم سعيدٌ فقد تعلمتُ الكثير وحققتُ نجاحات كانت أولى وصايا والدي رحمهُ الله، هذا يكفيني بأن أشعر بالفرحِ والفخر ... وائلٌ اليوم أصبحَ شخصٌ واثقًا من نفسهِ، متيقنٌ، ناجحٌ، ومعروفٌ ...
عَوَضي هوَ والدتي أشعرُ بالطمأنينةِ المُفرَطة وأنا بجانبها أروي لكم قصتي، أشعر بأنني بوجودها أستطيع ... 
يعجبني أنني محبوب لدى الجميع، يعجبني كوني لديّ من صفاتِ والدي والتي جعلت مني هذا الشخصُ الرزينُ.
ماذا أُريد أكثرَ من ذلك؟
والآن لديّ كلمات أخيرة أخبركم بها ... 
 
اصمد أيها القارئ قاوِم؛ فلذّة الوصول تُرَمّم إنكساراتك، لا تفقد أمَلَك أبدًا لن تندم صدِّقَني ... كُن بخيرٍ دائمًا فهُنالِكَ عندَ مكانتكَ التي تُحلم بها ما يستحقُّ الوصول، اختر صديقًا صالحًا لا تهُن عليهِ أبدًا، كاختار أبي تماماً؛ فالصديقُ الحقيقيّ حتى بعد فنائك من الدنيا يبقى مخلصًا لك.
 
وأخيراً كُن على علمٍ دائمٍ من تيقَّن ظن الوصول للشيءٍ الذي يطمَح إليه، ثم جاهدَ مُصراً لِبُلوغِه لا بُدَّ أن يَصِل ولو بعد حين.

أخبار متعلقة :