استثمر الشاعر محمود حسن طاقة اللغة الشعرية في عمله برمته بدءا من الحروف، والكلمات، والتراكيب، لمنح الصورة الشعرية المتغياة كل فائدة مرجوة من اللغة. فوقف على استثمار حرف الكاف كحرف مهموس، وكأداة من أدوات التعبير الأسلوبي، معبرا عن حالة انفعال وتوتر للطفلة (العباسة) عندما خفق قلبها للوهلة الأولى بحب جعفر.. في قوله:
ذات صباح جرحت كفي؛ حين لقطت الوردة شوكة
وصرخت بأعلى صوت الطفلة حتى،
لكأن الأرض انفتحت، كي يخرج جعفر
طفلا مرتبكا، ويشد الشوكة من كفي،
وبفمه، حتى شكّت فكّه.
فقد تردد حرف الكاف تسع مرات، منهما مرتان جاء مضعفا، في مساحة شعرية صغيرة، أي أن الحرف تردد إحدى عشرة مرة، حمل أثناء نطقه مكررا نغمة خروج الحرف الشديد المهموس صوت انفعال وتوتر عاليين، يحاكي صوت كركرة الأطفال ولهوهم. وإذا أدركنا أن حرف الكاف من صفاته الشدة ثم يعقبها الهمس، وهذا ما جعل الشاعر يتكئ على هذا الحرف في ذاك البناء الشعري الدال على الشدة الناتجة من توالي حرف الكاف وتتابعه بشكل لافت يلقي بظلال مرادفه اللغوي على المراد الدلالي الكامن في حركة الطفل وتأوهه جراء الشوكة المنغرسة في لحمها ثم يعقب ذلك أن أخرجها جعفر بأسنانة وملامسته لحمها وانتزاعه الشوكة، ثم همس الطفلة له بلغة لايفهما سواهما.
يلجأ الشاعر إلى حرف العطف الواو مستنبطا منه أقصى غاية لنقل الصورة، وتقريبها للمتلقي، تأمل قوله:
في القصر خمور ونساء عارية وفجور وغناء
وسجود وقيام وصيام وقراءة قرآن وبكاء في القصر العزة والذلة
وملابس متسخات وأناقة حلة
في القصر شياطين.. رسل.. وملائكة خبثاء
ففي المشهد الشعري السابق استثمار لطاقة الوصل بواسطة الحرف، فعن طريقه اعتمد الشاعر على الحرف كبديل للكاميرا، فعليك أن تتخيل تجاور كل ما في القصر من خمور ونساء عارية وفجور وغناء ووو، وهي مفردات احتشدت معا لتكون صورة كلية للقصر وما يدور فيه من أحداث ورؤى بصرية وغير بصرية لتتأسس من خلالها لغة شعرية خاصة لها خصائصها في بناء مفرداتها وإنتاج دلالاتها.
الصفات والنعوت:
تقدم الصفات والنعوت جزئيات وإضافات تفصيلية إلى الجملة الشعرية تتفجر من خلالها، وتتوزع إلى تفصيلات مهمة تتآزر جميعا في خلق صورة معبرة عن مضمون الصورة وإيحاءاتها، ومن خلال الصفة يمكن قراءة الصورة الشعرية بتفصيلاتها الجزئية ذات القيمة في إيصال الرسالة .. تأمل معي:
وظللت أردد والسكين الساخن في عنقي
هل نازعتك سلطانك يوما، وأنا امرأة عربية
فاعلم أن الشَّعر الأبيضَ في رأسك عيدان
الشعر هو الثورة، والفعل الفاضح في الطرقات العامة، والصوفي الفاجر..
.. إن الشعر هو الإيمان الكافر
فما عليك إلا تبحث في الجمل الشعرية السابقة عن الصفات والنعوت، وترصد الإضافة الحقيقية لفعل السكين الساخن، وامرأة عربية، والشعر الأبيض، والفعل الفاضح، والصوفي الفاجر، والإيمان الكافر.. لتتفجر أمامك طاقة كبيرة من الأثر والصدى للصفات المتتابعة، وربما المتناقضة الناشئة من التكريس لهذه الصفات التي من شأنها أن تشق نطاق المعنى المجرد الذي يدل عليه الاسم فتحدد منه أكثر فأكثر وتكشف معالم صورته العيانية بطريقة أكثر جلاء
لو الشرطية الامتناعية:
يمكنك أن ترصد استخدام (لو) الامتناعية في شعر محمود حسن، ويمكنك الوقوف أمام حرص الشاعر على تأخر جواب الشرط، ليجيء بعد مسافة شعرية طويلة نسبيا، وتترك نفسك تفكر في مقصدية الشاعر من التأخير المتعمد للجواب، ثم تدفق الجواب مكررا بأكثر من صيغة، لتدرك على الفور أنك أمام إنتاج دلالات مختلفة للمعنى الواحد. اقرأ معي هذه القطعة الشعرية، وتفكر في تدفق الدلالات الناتجة عن التأخير المتعمد:
لو أني أعلم أن السيف إلى عنقي
ونكاح العينين العاشقتين يرسخ
في دولته كذبه
أن رجولة جعفر يا أمه
إن مست جسد العباسة في حل
يتسكر عظم الرقبة
كنت كفرت بهارون رضيعا وخليفة
وقطعت يديك شممت رغيفه
كنت عقرت حصانه
لغة الإشارة ولغة الانفعال
أخبار متعلقة :