حدث في زمن " السداح مداح " كما أطلق عليه الكاتب الصحفي الكبير " أحمد بهاء الدين " واصفًا حالة الانفتاح الاستهلاكي العشوائي في سبيل التحول من النهج الاشتراكي إلى الانفتاحي ، تابعنا في تلك الفترة العديد من إبداعات القوى الناعمة المصرية النقدية لانعكاسات ذلك النهج الاقتصادي على المواطن والشارع المصري ..
ويُعد فيلم " انتبهوا أيها السادة " أبرز الأعمال السينمائية التي تناولت تبعات تلك المتغيرات ، وأتفق تمامًا مع الناقد الفني المتميز " نادر عدلي " في تأييده لقيام الفنان " محمود ياسين " وأيضًا الفنان " حسين فهمي " لدورهما في فيلم " انتبهوا أيها السادة " بعد اعتذار " عادل إمام " و" سعيد صالح " عن القيام بالدورين ، مما منح الفيلم ذلك الثقل الاجتماعي للمضمون العام للعمل الذي تم اختياره ضمن أفضل مائة فيلم مصري ، وبالفعل فإن المبالغة في الأداء الكوميدي الموغل في السخرية كان من شأنها الابتعاد عن التعبير عن حالة التردي الحضاري والثقافي والاجتماعي التي أصابت المجتمع عقب نكسة 1967 ووصولًا لتطبيقات الانفتاح الاقتصادي الساداتي الاستهلاكي المشجع والمتيح لانتشار منظومات للفساد والاحتكار والغش !! ..
و الفيلم تدور أحداثه حول قصة " عنتر " الذي يعمل " زبال " ويتقدم لخطبة إحدى الفتيات ظن أنها تعمل خادمة في البيت الذي يجمع منه يوميًا القمامة ، ويفاجأ أنها ابنة صاحب المنزل ، وشقيقها دكتور في الجامعة ، وبعد رفضه يحاول الانتقام على طريقته ، خاصة وأنه يحقق من وراء جمع القمامة ثروة طائلة ، تمكنه من شراء شقة في أرقى الأماكن ، في حين لا يستطيع الدكتور الذي يعمل في الجامعة ، الزواج ممن يحب ، في ظل ارتفاع الأسعار وتدني أجره .. و قد قدم العمل بنجاح مجموعة المفارقات والتباينات في تركيبة الشخصيات وما أصابها من تحولات ومتغيرات متسارعة شملت المجتمع ، وأكد عليها بنوعية الملابس وشكل وحجم التعاملات الإنسانية مع المجتمعات المحيطة وما يحدث من طفرات سلبية في مجال إهدار القيم الإنسانية الرفيعة ، وانقلاب الهرم القيمي في تلك الفترة ..
لقد تصدرت الميديا والأفراح وبرامج " ما يطلبه المستمعون " أغاني على شاكلة " كله على كله " و" سلامتها أم حسن " و" الطشت قال لي " و" العتبة جزاز " و" كوز المحبة اتخرم " و أفلام المعلم رضا ومغامرات فؤاد المهندس وغيرها ، والتي تبنت جميعها لغة جديدة بمفردات غريبة فرضت نفسها على الشارع ، وعلى كل وسائط الميديا المتاحة في تلك الفترة ومنها الصحافة بكل نوعيات إصداراتها المختلفة للأسف !!
ولكن ، وسط حصاد ذلك الهزل المرير ، كانت هناك محاولات إيجابية وطنية مهمة لإنقاذ المجتمع المصري من تبعات ذلك المد السلبي الهادم لأسس ثقافية وحضارية مصرية ، والتي من أبرزها " اللغة العربية " ، فكان برنامج " لغتنا الجميلة " ، الذي قدَّمه الإذاعي الرائد والشاعر الكبير فاروق شوشة ـ خريج كلية دار العلوم ـ منذ أول سبتمبر عام 1967 ، وتضمن وسائل وأطر متعدِّدة للتطوير اللغوي وتنمية وعي المستمع و القارئ المصري ، فكانت مادَّته تضمُّ: نفحات من بلاغة القرآن، وتحقيقات لغوية في لغة العصر وعلاقتها باللُّغة العربيَّة العامَّة ، إضافة إلى ما أقرَّه مجمع اللُّغة العربيَّة ، ولمحات جمالية في بعض العناصر البديعية في اللُّغة ، وكنوز من النصوص القديمة والحديثة ، فضلاً عن بعض الطرائف والـمُلَح اللغوية. .
و يؤكد الباحث " فايز شاهين " على أن هذا التنوُّع في المادَّة المقدَّمة إذاعيًّا في البرنامج المذكور، واختيارها المبني على معايير من الجودة والسلاسة والجمال والقرب من الذوق العصري ، جعل للبرنامج قبولاً لدى المستمعين ، وتأثيرًا إيجابيًّا عليهم ، حتَّى لدى مَن كان منهم من العوامِّ أو غير المتخصِّصين ، فالنماذج العمليَّة الجماليَّة محبوبةٌ قريبةٌ من النفوس ، وهي الطريقة المثلى لتعلُّم اللغات ، عكس القواعد والحدود والتقسيمات المنطقيَّة الجافَّة ..
وحول الدفاع عن أهمية التعليم باللغة العربية ، نتذكر دفاع الكاتب الصحفي " علي يوسف " صاحب " المؤيد "عن هذه القضية منذ سنة 1902 حتى سنة 1907 ، وكيف كان له أعظم الأثر في نجاحها إلى هذه الدرجة ، ، أنظر إليه يقول في الجمعية العمومية " إن العلم طواف في العالم ، ينزل ضيفًا على الأمم ولا يستوطن إلا اللغات "
أخبار متعلقة :