لا يوجد اثر تاريخي يذكّرني بلون بشْرته, متجوّلًا بين الأزقّة والشوارع, يتخطّف النظرات تجاه المارة هُنا وهُناك على مدار الدقيقة الواحدة, دون أن يبدي أي اهتمام بأحد أو يحاول الحديث معه, وكأن لسان حاله يقول: لا بأس, الناس جميعًا سواء, لا بأس, مرور الوقت كتوقّفه, صوت نقيق الضفادع كصوت الأغاني لا يثير في نفسِه اشتياق لحلم بعيد أو قريب, يمتلك جسدًا فارعًا في الطول وبنيان قوي في ظاهره, يجلس منطويًا اغلب الوقت في ركن بعيد, يستظل بتنْدة أحد المحال التجارية نهارًا, متحرّرًا من براثن عقل, دون أن تهاجمه طعنات حزن لو انه ظل يحمله أو ربّما طعنات فقد أو ربّما, .. احتمالات كثيرة, كان يمكن أن تقتاده خطواته يومًا لجريمة قتل أو قصّة حُب, كان يمكن أن يصبح زوجًا وأبًا لأبناء, يجلس وقد أصابه وهن السنين, منفردًا يقرأ طالع الأيام في جريدة, يبهره صوت أغنية, فيجاهر بترديدها على مرأى ومسمع من المارة دون خجل, نعم هو الآن لا يحمل هموم يوم أرهقته, ولا هو يشعر بضيق من العالم حوله.
حركاته السريعة تجعله يمر كالطيف بين البشر, يتجوّل كعادته في شوارع المدينة, وقد أطبق يديه يمناه ويسراه على جلبابه وقد انشق نصفين, محاولًا بعض الشيء ستر عورته, دون أن يتمكن كليّا من ذلك, نعم, هو الآن متحررًا من أغطية مزيّفه قد تحمل بين طيّاتها ذئاب ووحوش مجرّدة من كل شيء, نظرات عطف قليلة, نظرات سخرية اقل, نظرات ضيق هي الأكثر, بينما كانت تتلقّى صدمة الرؤية بعض الفتيات, فيتوارين خلف بعضهن لبعض أو جريًا من هول المفاجأة.
هزيلًا تركته صفعات الزمن, مثخّن بجراح, يتوارى خلف غطاء من التجاهل واللامبالاة, الجميع منشغل بترطيب جَسده, إمّا باللجوء إلى محلّات العصائر أو مهرولًا يستجدي الوقت في الوصل إلى منزله, يمنّي النفس بإستكانة مُحارب خلف جهاز التكييف, بينما ظلّ صاحبنا يتصبّب عرقًا, لا يغادر موقعه مدجّجًا بأسلحة أكثر فتكًا وإبادة, يختار كصيّاد فرائسه من بين ضعافها بعناية, نعم يبدو انه وجد ضالته دون أن يفكر لحظة واحدة, كيف وصل به الحال إلى هنا؟ ولماذا ؟ ارتكز على ركبتيه, حدد هدفه بدقّة, اختار أفضل الزوايا مصوّبًا كاميرا هاتفه المحمول, فقط كل ما يشغله إدارة موقعه الالكتروني, وعدد المشاهدات, متلذذًا بقتل ضحيّته كل يوم, يحمل بين
فكّيه لسانًا يقطر بكل معسول فقط أو كما يقول المثل:(حلو اللّسان قليل الإحْسان) .
عاد تدفّق المياه بعد انقطاع, فكثيرًا ما كانت لا تصل إلى الطابق الثالث, عاد شريط الذكريات يركض كطفل من حيث ذهب, حيث رقد (بحبح) كما كنّا نناديه, متكوّم في جلبابه الممزّق بين أحجار ورمل داخل احد العمائر تحت الإنشاء, بينما أقف متأمّلًا في المرآة لرجل عاري تمامًا من كل ملابسه, دون أن يحاول ستر عورته, ودون أن تترك الشمس على وجهه أثار لتاريخ مرّ بأقدامه, يحفر في اللحم طُرقًا لجيوش بؤس, تُحاصر أودية نهر, تشققت جفافًا من قسوة الأيّام .
أخبار متعلقة :