كلنا يغضب ويفقد أعصابه وتوازنه أحيانا و يطبق بالتالي المقولة المعروفة "من أطاع غضبه أضاع أدبه " ،وكلنا يمر بهذا الشعور طوعا أو كرها فنحسن التعامل معه أحيانا ونخيب أحيانا أخرى.
لكن، هل فكرنا يوما في ماهية الغضب وغصنا في أغوار هذا المصطلح ؟ هل عرفنا أسبابه ومسبباته؟ أنواعه؟ هل بحثنا في كيفية التغلب على هذا الشعور وتجنب ما يمكن أن يفرزه من نتائج وخيمة؟ وأخيرا، إلى أي مدى يمكن اعتبار الغضب عدو الإنسان ومخرجه من كل رصانة وأدب وتوازن وغيرها؟
غير أنه و بعد استعراض هذه الإشكاليات وما يتفرع عنها من مشاكل أخرى جزئية أو فرعية، علينا أولا الوقوف عند مصطلح "غضب" لغويا واصطلاحيا وما يتعارف عنه تمهيدا للغوص في مجمل ما نرنو إليه لكشف اللثام عن هذه الحالة. فما هو الغضب؟
هو مصدر من الفعل الثلاثي غ ض ب ويعني السخط والثورة والحنق والغيض وحب الإنتقام وفقدان التوازن والتعقل والهدوء وغيرها، وهو ضد الرضا .
اما اصطلاحا فهو شكل من أشكال رد الفعل والاستجابة لثوران دم القلب بغية الإنتقام والتشفي من موقف أو فعل أو قول ما لم يقبله المتلقي ولم يستصغه.
فيما يعني الغضب عند العامة الخروج عن المألوف والعقل وفقدان الصواب والتجرد من كل انسانية وخلق وأخلاق وهجر الدين والعادات والتقاليد وغيرها. فما هي أسبابه إذن؟
هي في الحقيقة عديدة ومتعددة تتجاوز هذا الفضاء، لكننا هنا سنقتصر على أهمها وهي (حسب علماء النفس والاجتماع وغيرهم) متأتية من الأوضاع الاجتماعية و العائلية الصعبة، المشاكل الشخصية مثل الشعور بالنقص في المنزل أو سوء المعاملة في البيت أو العمل، التعرض إلى الإساءة أو الإستفزاز مثل حركة المرور أو التعامل داخل الإدارات، الشعور بالتهديد أو الرفض أو الخوف من الخسارة ، كثرة المتطلبات والضغط الزائد عن طاقة تحمل الشخص، ذكريات صادمة أو مثيرة للغضب، الشعور بالاجهاد والإرهاق البدني أو النفسي مثل الإلتزامات المالية، وغيرها كثير. فما هي عندئذ أنواع الغضب؟
هي كثيرة كذلك حسب أخصائي العلوم الإنسانية الذين يرون أن معرفة نوع الغضب تفيد الشخص الغاضب في تحديد الطريقة أو الإستراتيجية الممكنة للتحكم فيها، وأكثر الحالات شيوعا هي :
1/ الغضب الحازم: وهو نوع من الدبلوماسية حيث يتسم الشخص الذي يمر بهذا النوع بالهدوء والإستقامة ويراه الغير شخصا مسيطرا وحازما ومرنا وسريع الإستجابة أثناء الخلافات والظروف المحبطة، حيث أنه لا يوجه الإهانات ولا يلجأ إلى العنف، بل إنه يحول مشاعر الإحباط والغضب إلى محفز لتغيير ما يحدث بطريقة إيجابية.
2/ الغضب السلوكي: التعبير عن الغضب بطريقة جسدية وغالبا ما تكون عدوانية، ويعتبر هذا الغضب رائجا بين الأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية أو سلوكية كاضطراب طيف التوحد ونقص الانتباه وتوتر ما بعد الصدمة وبعض أشكال الاكتئاب.
3/الغضب المزمن : هو الشعور بالإستياء المستمر من الجميع الذي يسببه غضب الشخص من نفسه أو احباطه من الظروف المحيطة، وغالبا ما تكون أسباب هذا النوع أحداث مؤلمة تعرض لها هذا الشخص في الماضي ولم يتمكن من تخطيها كالاعتداء الجسدي والنفسي أو الإهمال.
4/ الغضب الحكمي: الغضب الذي يكون نتيجة لسبب منطقي كظلم أو خطأ يتعرض له شخص من آخر أو آخرين مما يجعله غضبا مبررا حسب المتضرر الذي يرى نفسه متفوقا أخلاقيا على الآخرين لذلك يوجه لهم نقده اللاذع وإهانتهم دون الشعور بالذنب.
5/ الغضب القاهر : يصعب التحكم فيه ويحدث نتيجة شعور الشخص باليأس والاحباط جراء موقف أو ظروف خارجة عن سيطرته، الظروف التي يتحمل فيها الشخص الكثير من المسؤولية، أو عند الشعور بالخوف الشديد وغيرها
6/ الغضب السلبي العدواني : تعبير غير مباشر عن الغضب من قبل شخص لا يملك القدرة على التعبير عن غضبه أو شعوره بالألم بشكل واضح وصريح، مما يجعله يعبر عنه بالانطواء. ويلاحظ هذا النوع عادة لدى الأشخاص الذين يخضعون إلى سيطرة أشخاص آخرين كالمراهقين مثلا. ويعتبر هذا النوع انعكاسا لما شهده الشخص في طفولته من صراخ أو اعتداءات جسدية ونفسية قد تعرض إليها من قبل مربيه مما يولد لديه شعورا بالخوف الشديد من مشاعر الغضب وليس فقط من رؤية شخص غاضب، فيلتصق به الجانب السلبي والجانب العدواني سويا.
7/ الغضب الإنتقامي: هو أكثر الأنواع شيوعا حيث يكون استجابة غريزية يحركها دافع الانتقام من شخص معين نتيجة التعرض إلى الإساءة والتجريح الأذى على يده، فيؤدي إلى زيادة التوتر والتصعيد بين الطرفين مما ينشأ عنه ضرر كبير في طبيعة العلاقات بين الأفراد وغيرها....
8/ الغضب المسيء للذات: العار أساس هذا الغضب إذ يشعر المصاب به باليأس والإهانة والخجل وانعدام قيمة الذات، فيتحدث عن نفسه سلبا وينال منها، او يهاجم الآخرين وينتقدهم لإخفاء تلك المشاعر ويزيد بالتالي من شعوره بالعزلة والاغتراب.....
9/ الغضب اللفظي: هو الذي يتم التعبير عنه بواسطة الكلمات عوض الأفعال كالصراخ بغيظ أو التهديد أو السخرية أو إلقاء اللوم الحاد أو النقد...
10/ الغضب المتقلب: وهو الشائع بين شعوب العالم وتتمثل أعراضه في سرعة الانفعال وغضب حاد ومفاجئ....
وكذلك نذكر الغضب المتعمد لكسب سلطة على شخص معين، غضب جنون العظمة الذي يجمع بين الغضب المزمن والغضب المتخفي بما أن المصاب به يكون في حالة دفاعية بشكل مستمر فتلازمه مشاعر الخوف والغضب على الدوام بينما يعتبر متخفيا لأنه يخلط بين مشاعر الغضب و العدوانية تجاه الآخرين، الغضب المخادع حيث يسعى المصاب به إلى إخفاء شعوره، الغضب الإدماني حيث يدمن بعض الأشخاص المشاعر القوية التي يشعرون بها نتيجة الغضب، الغضب الاعتيادي وهو أن يصبح الغضب عادة سيئة مع الزمن لبعض الناس عندما يجعلهم غاضبين معظم الوقت بسبب أشياء تافهة لا تستدعي كل هذه المشاعر، الغضب الأخلاقي حيث يعتقد أصحابه انهم متفوقون أخلاقيا على غيرهم مما يمنحهم الحق في الغضب كالدفاع عن المعتقدات مثلا ،وغيرها كثير كالغضب المتحجر والغضب الضاغط والغضب النزاعي والغضب الهوسي وغضب التجنب وغيرها.....
إذن ،كيف يمكننا التغلب على هذا الغضب وتقليص نتائجه السلبية على الغاضب والمغضوب عليه حفاظا على البشر وتواصلهم وديمومتهم؟
فقد أكدت الدراسات العلمية والتجارب المخبرية وجلسات العلاج النفسي والاجتماعي وغيرها أن هناك استراتيجيات عامة للسيطرة على الغضب والحد منه على غرار:
1/ العد: فعد الأرقام يساعد بشكل تنازلي أو تصاعدي على خفض معدلات ضربات القلب وبالتالي تهدئة الشخص
2/ التنفس العميق: وذلك بأخذ نفس عميق وهادئ من الأنف ببطء ثم اطلاقه خارجا عبر الفم
3/ التمارين الرياضية: وهي تهديء الأعصاب وتقلل الغضب كالمشي وقيادة الدراجة الهوائية مثلا
4/ تكرار جملة مريحة: كقول "اهدأ كل شيء سيكون على ما يرام" او التسبيح وذكر الله والصلاة (عندنا نحن المسلمون)
5/ تمارين التمدد: وهي تمارين الحركة مثل تمارين الرقبة الأكتاف
6/ التأمل: يفيد التأمل والذهاب إلى مكان هادئ واغماض العينين ومحاولة التركيز مع التنفس ببطء
7/التوقف عن الكلام :الصمت أجدى نفعا من الكلام وقت الغضب
8/ التحدث مع صديق: وهو خير من إهدار الوقت والطاقة في الاستمرار بالتفكير في مسببات الغضب
9/ الضحك:للضحك مفعول كبير جدا في تحسين مزاج الشخص والابتعاد به عن السلبية(الضحك مع الاولاد أو مشاهدة الفيديوهات المضحكة وغيرها)
10/التعبير عن الشعور بالغضب بطريقة صحيحة وناضجة يساعد الفرد على تقليل التوتر والغضب
11/ الاغتسال و التطهر وتلاوة القرآن والصلاة والدعاء وغيرها من المناسك الاسلامية السمحة.....
فكيف بمكنتا أخيراً تقييم هذا الغضب، وما هي النتائج التي نخرج بها من هذا العرض؟
فالغضب كما رأينا ظاهرة إنسانية لا تستثني أحدا في كافة المراحل السنية لكل شخص، غير أنها تختلف من فرد لآخر وفق الأسباب والشخصية والتربية و النشأة ومقدرة المتضرر على التعامل معها وتجاوزها بأقل الأضرار الممكنة كي لا يقع في المحظور وتزداد سيئاته وخطاياه نتيجة تهوره وتسرعه وعدم احتكامه إلى الخلق والأخلاق والدين وغيرها من السمات الشافية من مثل هذه الأسقام.
كما أن الغضب هو المقياس الأسلم لمعرفة الشخص على حقيقته وسليقته،بما أنه يتعرى من كل المزينات والزوائد ويتخلي عن كل المحسنات والوجوه المزيفة التي يختفي وراءها ليتراءى لنا على طبيعته ويفعل القول المشهور "تكلم لأراك".
فلا يجب نهاية أن نستسلم لهذه الحالة ونخنع لها فتقضي علينا وتنال منا وتعزلنا عن الكون ومن فيه فنخسر الدنيا والآخرة عن قصد أو عن غير قصد، ولا يجب أيضا أن نتهور ونتقوي على ذواتنا فنهلك ونرمي بأنفسنا في النار ثم نعيب حرارة اللهيب واحتراق أجسادنا، بل يجب علينا التوازن والتريث و التعقل وانتهاج الوسطية في التعامل مع مثل هذه الظواهر بما أن ديننا هو دين الوسطية وهو من قال لنا "لا إفراط ولا تفريط".
أخبار متعلقة :