إنّ تحصيل التثقيف عمليةٌ مستمرةٌ باستمرار الحياة، ولا تنقطع إلا في الوقت الذي يتوقف فيه الغذاء البدني، وإذا كان الأمر كذلك فإن الظفر بالثقافة يتطلب تنظيماً وتخطيطاً لمراحل هذه التغذية الروحية المتتابعة، والتي تقارن التغذية البدنية، سواء بسواء.
ومن المؤكد أنّ تعليم القراءة في المدارس ليس غاية في ذاتها بل وسيلة لتحصيل المعرفة، بحيث يجد الطالب أداة لمواصلة التثقيف بعد خروجه من المدرسة، ولا ينظر إلى كتبه المدرسية كشيء ثقيلٍ يجب التخلص منه في أقرب وقت، حتى يكون أولّ فعلٍ بعد نجاحه التخلص مما تحت يديه من كتبٍ، فسرعان مَن كان هذا حاله أن يعود أمياً كما كان.
وتكاد تكون التربية المدرسية معدومة إذا كانت لا ترسخ في قلوب الطلاب الإيمان بأن القراءة غذاءٌ روحي لا يقلّ أهمية عن الأكل والشرب؛ لأن الثقافة ليست ترفاً عقلياً، وإنما وسيلة حياة، وهي ظاهرةٌ اجتماعية يجب أن يشارك في تكوينها أبناءُ المجتمع.
مما يترتب على ذلك تغيير النظرة السائدة في التعليم المستقرة في الأذهان، وهي النظر له على أنّه أساس وسبيل تحصيل الوظيفة لا غير؛ لأنه عندئذٍ غايةٌ في ذاته، وليس وسيلة تحصيل المعرفة وبلوغ الثقافة، فالثقافةُ هي الغاية والأساس، سواء حصلتَ على وظيفةٍ معيشيةٍ بسببها، أم لا.
ينبغي -بناءً على هذه الرؤية- أن تتوفر أجهزة الثقافة الأساسية للجميع؛ لأن الثقافة للجميع من هذا المنظور، فيجب الشروعُ في تأليف كتبٍ معرفيةٍ وثقافيةٍ مبسطة؛ لأن زيادة الإنتاج المعرفي المناسب لشرائح المجتمع المختلفة يساعد في نمو الثقافة وانتشارها على أن تبسيط المعرفة لا يستطيعه إلا كبار المتخصصين والنخبة من المعرفيين.
لا يكمن تأصيل دور التثقيف في المجتمع إلا بالنظر في كيفة إنتاجه وسط مجتمعٍ وبيئةٍ رافضةٍ للمعرفة، ثم النظر بعد إنتاج المحتوى التثقيفي في كيفية توزيعه، وبلوغنا به عامة الناس بغية تسهيل الاستفادة منه؛ لإنتاج المعرفة العامة التي تكون سبباً في رقينا وحضارتنا؛ لأنها هي الحد الفاصل بين التقدم وعدمه.
يساعد الاستقرارُ الماديّ كذلك على انتشار الثقافة الذي يتبعه وفرة الإنتاج المعرفي، فإذا توفر الرخاء في المعيشة فإنه سينبني عليه توفر الرخاء الثقافي؛ لأنّ ألم الجوع الجسمي أشد فتكاً بحياة الناس من الجوع الروحي، على أن كلاً منهما جوع.
ليس في مقدور جميع الناس الصبر على الجوعين، نعم قد يصبر بعض الأفراد على الجوع الجسمي، لكنّهم لا يصبرون في أيّ وضعٍ على جوع أرواحهم، ولا يكون هذا الأمر إلا عند الخواص ممَن تمكنت المعرفة في قلوبهم.
من الآفات التي قد تعتري المشتغلين بالثقافة العزلةُ العلمية عن الآخرين؛ لأنه ينبني عليها كثيرٌ من المشاكل؛ كالغرور بالأعمال، وعدم معرفة الواقع المعرفي في المجتمعات الثقافية الأخرى، وفي الانفتاح عليهم معرفةٌ بالرؤى، واطلاعٌ على المشاريع الفكرية، وإلمامٌ بالأفكار الناجحة.
من ينعزل بنفسه لا يتقدم؛ لعدم وجود مستوى يقيس به عمله عليه، فيظن أنه أفضل الموجود، أو أنّ غيره أقل منه إنتاجاً للمعرفة، أو إلماماً بالثقافة.
أخبار متعلقة :