في الفصل ذي الطلاء الأصفر الباهت، يرمق تلاميذه بضيق، و يترقب جرس انتهاء الحصة الأخيرة، إن مزاجه متعكر اليوم؛ إذ نفدت سجائره منذ ليلة أمس، و لم يملك المال اللازم لشراء علبة أخرى، حتى فنجان القهوة، و بنه المغشوش لم يحظ بهما هذا الصباح؛ فعامل البوفيه- ناهيك عن حسابه المتأخر الذي تجاوز المائتي جنيه- لم يحضر اليوم من الأساس.
ثلاثة و عشرون عاما مرت، بينما هو يعلم أطفال مدينته رسم الفراشات و العصافير، و الغزلان. كم أحيت فرشاته و ألوانه ورد الربيع، و خضرته، و لكن الجدب بات يحاصره في كل مكان. كيف وصل بك الحال إلى هذه الدرجة، يا فنان؟! عادت به الذاكرة إلى الوراء، رأى نفسه يمشط شوارع "القاهرة"، و اللوحات مشدودة بخيط متين تحت إبطه، يتنقل بين أصحاب "الأتيليهات" يعرض ما رسمه عليهم، يهشون في وجهه، لكنهم سرعان ما يقطبون أجبنتهم، و يرددون العبارة ذاتها بأسى، و اعتذار: ما عاد أحد يشتري اللوحات، يا فنان، حرام، و الله، أَنْ تُدْفَنَ مَوْهِبَتُك فِي التُّرَابِ. يكرر المحاولة، تلو الأخرى، و في النهاية يستسلم، تكبله مدينته الصغيرة، بخطاب تعيين، تربطه بحبال الوظيفة، مدرس رسم في مدرسة ابتدائية، راتب هزيل، و بعد عشرات الجمعيات، يصل إلى الخامسة و الثلاثين من عمره، و ينجح أخيرا في الزواج في شقة من شقق المساكن الشعبية، حجرتان و صالة، ينام هو و زوجته في غرفة، و في الأخرى ينام ولداه.
جرس الحصة يدق، فيلتقط حقيبته السوداء القديمة، و يندفع إلى خارج الفصل، يهبط الدرج، وسط جموع التلاميذ، يوقع في دفتر الحضور و الانصراف، و ما إن يتخطى بوابة المدرسة، حتى يلفح وجهه حر الظهيرة الملتهب. ثمة مسافة بعيدة تفصله عن البنك، حيث توجد أقرب ماكينة صراف آلي، يدفعه الحر الشديد إلى التفكير بشكل جدي في استقلال "توكتوك" من "التكاتك"، التي يضج بها الشارع، لولا أنه يتذكر أنه لا يملك سواها، يتحسس جيوبه بحسرة؛ ها هي في مكانها، متغضنة منكمشة، يخرجها، يطالع ما بها من اهتراء، يلامس الشريط اللاصق، الذي داوى به أحدهم القطع العرضي، الذي أصابها. هي و العدم سواء، لن يرضى بها السائق بالتأكيد.
لم تتسع الصالة الضيقة للصالون المذهب الذي اشتراه بالتقسيط؛ و حينما فاجأت آلام المخاض زوجته، التي شارفت على وضع طفلهما الأول، نقلها سريعا إلى المستشفى العام برفقة أمها، ثم عاد إلى شقته برفقة تاجر الأثاث المستعمل؛ ليوفر مصاريف الولادة. و لما صار المكان خاليا أمامه، وجد نفسه بعد عدة أيام يتوجه إلى الشرفة، و يزيح عن حامل لوحاته، و أدوات رسمه المهملة الغبار و خيوط العنكبوت، و سرعان ما جهز مرسمه في الصالة، إذ كان قد توقف منذ زواجه عن الرسم؛ فانتابه حنين جارف إلى أيام، خشي ألا تعود أبدا، فهل عادت؟! ظل يسأل نفسه هذا السؤال، و لما لم يجد جوابا، راح يحشر جسده كل صباح داخل ملابسه، و اكتفى بالتوجه إلى مدرسته، و التجول في الشوارع؛ لعله يقابل في الطريق روحه الضائعة.
وصلت تلك الورقة إلي يديه أول أمس، كان الوقت ليلا؛ يبدو أن البقال دسها بسوء نية وسط ما تبقى له من النقود، أربعة ورقات فئة الخمس جنيهات، و ثلاثة جنيهات ورقية، و علبة سجائر، و الحاصل خمسون جنيها، كانت آخر ما يملكه؛ أعاد الحساب في ذهنه، و تذكر أنه أنفق بالأمس ثمانية عشر جنيها، كانت رغم ضآلتها كفيلة بألا تنام أسرته بدون عشاء.
انتدب منذ عدة أعوام إلى أعمال الامتحانات في مدينة " الإسكندرية"، و ما إن أنهى عمل اليوم الأول، حتى توجه بلهفة إلي البحر؛ إذ لم يكن زار شاطئه منذ سنين. يومها استنشق رائحة اليود و الهواء الطري، قبل أن يقطع المسافة التي تحجب البحر عن عينيه. مرت دقائق، كأنها الدهر، جد في السير، بينما كان قلبه يرتجف، و ما إن أبصر الموج، حتى شعر بأن روحه كامنة في مكان قريب، راح يقلب بصره بين موج البحر، و زبده، فانداح كونشرتو حزين، على لحنه رقصت بين يديه، و لكنها سرعان ما فرت؛ فلم يجد في قبضته سوى حفنة من ذكريات، و حطام عمر مضى. ساعتها بكى بحرقة، و عاد في نهاية اليوم منكس الرأس، بعد أن باغتته روحه من جديد، و امتزجت ببخر البحر، و سرعان ما بعثرها الهواء.
إن خجله، و عمره صارا يمنعانه في الآونة الأخيرة من القيام بكثير من الأمور المشروعة، أولها إعادة ورقة نقود معيبة إلى تاجر جشع، و آخرها الاقتراض من زملائه، الأمر الذي يجعله مفلسا في كثير من الأحيان، و بخاصة في الأيام التي تطل بوجهها القبيح آخر كل شهر ميلادي، كأنما تصر على أن تذكره بدخله المحدود؛ خشية أن تسكره الأحلام.
الشمس بنت جهنم الحمراء. نعلا حذائه يغوصان في طبقة أسفلت، ذابت بفعل الحرارة. و العرق يتقاطر بغزارة من جبينه، فيفتش بصره دون جدوى عن أية مساحة، يغشاها الظل؛ إذ كانت الشمس تسقط بشكل عمودي، و لم تترك أشعتها الحارقة مكانا إلا و قد وصلت إليه. حتى واجهات المحلات و ما برز خارجها من "تند إيطالية" لم تسعفه بظلها؛ إذ احتلت البضائع، و الكراسي، و "بنارات" الإعلان الرصيف الملاصق للمحلات، و لم تترك للمارة مكانا، يسمح بالسير.
بمرور الأيام ضاقت زوجته بفقره؛ فباتت تذكره بحال قريباتها في كل مناسبة، و باتت ترشقه بنظراتها الصارمة، كلما هم برسم لوحة جديدة، الأمر، الذي دفعه في كثير من الأحيان إلى إلقاء فرشاته، و ألوانه جانبا، و الخروج إلى الشرفة، و التحديق طويلا إلى وجوه المارة و العابرين، بينما هو في الحقيقة لا يبصر سوى العدم و الفراغ.
الشمس تتميز غيظا، تصرخ فوق الشارع الطويل الممتد، تنهش رأسه، و تنفذ إلى جمجمته، فيصيبها الغليان. أنفاسه تنقطع، يشعر بالدوار، يكاد يسقط من فرط التعب، يرفع يده دون أن ينتبه؛ فيتوقف "التوكتوك" أمامه. يطلب إلي السائق أن يوصله إلى أقرب ماكينة صراف آلي. ينطلق "التوكتوك" وسط السيارات. ينتبه، فجأة، يتذكر ورقته المشئومة المهترئة، يتحسس جيوبه، يخرجها مرة أخرى، يفردها على فخذه، يتطلع من مقعده الخلفي إلى جانب وجه السائق، الذي لاذ بالصمت، و اكتفي بهز رأسه مع نغمات المهرجان، الذي اندفع من جهاز الكاسيت، و راح يرج التوكتوك. يزعجه الصوت، لكنه لا يجرؤ على أن يطالب السائق بخفضه. و سرعان ما يشرد ذهنه رغم الصخب و الصراخ، يسأل نفسه: ماذا لو انتظر هذا السائق، ريثما أصرف راتبي؟! لن يستغرق ضرب "الفيزا" سوى لحظات، لن ينهار العالم، إن انتظر عدة دقائق، حسنا، اهْدَأْ، قَلِيلًا؛ لقد وجدت المخرج؛ فلم هذا الارتباك؟!. بعد لحظات يتوقف "التوكتوك" أمام البنك؛ بينما هو في المقعد الخلفي، يسدد بصره بفزع إلى الواجهة الزجاجية، حيث توجد ماكينتي الصرف؛ يبصر الزحام، و التدافع، يشعر بخيبة الأمل؛ إذ لم يعد طلب الانتظار مجديا. لا مفر، إذن؛ سوف يهدر ماء وجهه للمرة الألف؛ فهل يقوى على مزيد من الصبر و الاحتمال؟! يمد يده المرتعشة بورقة النقود المعيبة إلى الأمام، ينتظر سماع صوت السائق الخشن، يزداد وجهه احمرارا، تنضح مسام جلده بالحرارة، يبتلع ريقه بصعوبة، يشيح ببصره إلى السماء، تتسارع نبضات قلبه. يلتقط السائق الورقة المهترئة، يقلبها بين يديه، يلتفت إلى الوراء بوجه ممتعض، و نظرة صارمة، لكنه سرعان ما يفغر فاه، و يتطلع بدهشة إلى المقعد الخلفي؛ فلا يبصر سوى خرق قماش ممزقة، و قطع جلد بشري، و بقع دماء قانية، لراكب تشقق جسده للتو؛ فاندفعت من داخله مئات من العصافير السجينة، التي حلقت بعيدا، و شقت طريقها إلى مكان سري ظليل، تسكنه روح، خاصمت صاحبها منذ سنين.
أخبار متعلقة :