بوابة صوت بلادى بأمريكا

د.علي أحمد جديد يكتب : التنمية الثقافية في الحفاظ على الهوية

إن السعي الصادق في انجاز تنمية مستدامة صحيحة وثابتة يتطلب فهم عالم اليوم بكل مكوناته بدءاً من الانسان نفسه وفهم تاريخه وحضارته التي كانت وانقضت مروراً بواقعه اليومي الذي يعيشه في الحاضر ، وحتى أنه يتطلب دراسة مفهوم كيان الدولة التي ينتمي إليها ، لأن العالم المعاصر اليوم صار متنوعاً جداً وشديد التعقيد باقتصادياته وسياساته وبتاريخه الحضاري والثقافي وحتى العسكري أيضاً . وبات الانسان اليوم يعيش هذه التعقيدات في كل مناحي حياته وخصوصيته وصار الفرد مخلوقاً وعالَماً قائماً بحدِّ ذاته ، ويختلف عن غيره في ميزاته الفكرية وفي خصوصياته بعد أن انقسم العالم إلى وحدات ومحاور وأحلاف سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية متصارعة ، وصار كل جزء من العالم تحت سيطرة دول وكيانات وأحزاب أممية عابرة للحدود في فكرها وسياساتها واديولوجياتها ، وصار كل فرد في هذا العالم ملتزماً بالانتماء الى كيان دولته لأن العالم لم يعد يعترف بالانسان إلا من خلال انتمائه إلى دولة وكيان يحتضنه ويعترف بشرعية وجوده المادي كشخص منذ ولادته وحتى لحظة موته .
ورغم أن (الدولة) وحدة سياسية تجمع أبناءها في كيانها وتحت رايتها ، إلا أنها اليوم لم تعد الوحدة المتفردة المكوّنة للعالم الذي يعيشون فيه بعد أن باتت هناك منظمات اقليمية ودولية - حكومية وغير حكومية - تمارس النشاطات الانسانية السياسية والقانونية والاجتماعية والعلمية والصحية وحتى الدينية والتجارية الاقتصادية والتي أهمها تلك النشاطات الثقافية التي تثبت او تشوّه الهوية والحضارة . ولايخفى على أحد أن هذه المنظمات التي باتت معروفة باسم (المجتمع الدولي) تسعى في جوهر أهدافها إلى إلغاء دور الدولة في استقلاليتها وفي قرارات علاقاتها الانسانية والحضارية ، وصارت هذه المنظمات القوة الأكثر تأثيراً في العالم والتي أخطرها تلك المعروفة بتسمية (الشركات متعددة الجنسيات) والتي يقول عنها (جوزيف كاميللري) في كتابه (أزمة الحضارة) :
" إن تزايد وهيمنة الشركات متعددة الجنسيات دفع بميزان القوة في العالم إلى أن يتحرك على نحو ثابت لمصلحة هذه الشركات في الوقت الذي تتجرد فيه الدولة تدريجياً من سلطاتها في ممارسة الحكم بعد أن تحولت الشركات متعددة الجنسيات إلى قوة من القوى المتحكمة في مجرى التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وصار دورها واحداً من أكثر التطورات دراماتيكية في هذا العصر " .
وتعود أهمية هذه الشركات إلى أنها مؤسسات تمتلك قدرات تنظيمية دقيقة ومادية هائلة وتقنية تكنولوجية خيالية تؤهلها في إدارة العالم اليوم كوحدة مترابطة تؤدي إلى إلغاء دور (الدول الوطنية) ذلك لأنها تقوم على هدف تحويل العالم إلى سوق واحدة وموحدة وإلى تدويل المجتمع الانساني بعد سلخه عن حضارته وتجريده من تاريخه لتحقيق هيمنة في الانتاج والاستهلاك ، كما تسعى إلى السيطرة الكاملةعلى أنشطة الدول الوطنية اقتصادياً وتحويلها إلى نشاط عالمي بإدارتها يتعدى سلطات الدولة (الوطنية) . وتحوَّل مدراء هذه الشركات إلى نموذج من نظام مركزي يدير العالم بشكل تنسيقي موحَّد لأنها تنفرد بانتاج السلع الاساسية المختلفة والمتراوحة بين سلع غذائية وتقنية وحتى الصواريخ العابرة للقارات . وبلغت أحجاماً ضخمة وخيالية في الهيمنة على الانتاج الزراعي والصناعي حتى بات انتاج إحداها يفوق الانتاج القومي لدول القارة الأفريقية مجتمعة بكل مافيها من الثروات الطبيعية . وصار العالم اليوم يعيش حالتين متناقضتين تماماً بين حالة الحرب الدائمة وبين حالة البحث الطوباوي عن سلام يستحيل تحقيقه . ويقول (هيدلي بول) في كتابه (الفوضى الاجتماعية) :
" إن سمة الفوضى وليست سمة النظام هي السمة البارزة في السياسات الدولية اليوم ، ومن الملاحظ غياب النظام كلياً عن السياسات الدولية ، وما الحديث عن نظام في العلاقات الدولية سوى رغبة مثالية غير قابلة للتطبيق لأنها لم تكن قائمة في أي وقت من الأوقات " 
وذلك يعني بأن غياب السلطات المؤسسية وقواعد السلوك الانساني قد أفقد الكثير من الدول المقدرة على حماية نفسها بنفسها وعلى امكانية حفظ أمنها ومصالحها الوطنية والقومية في عالم تسعى فيه الدول العظمى إلى الهيمنة الكاملة التأثير . وفي هذا يقول (جون ستنسجر) في كتاب (الأمم العظيمة) :
" لقد هوى الانسان اليوم إلى أعمق أعماق الهاوية بعد أن بلغ أقصى درجات التطور والرقيّ ، فهو قد ابتكر أشد أنواع الأسلحة فتكاً و أكثرها قدرة على إحداث الدمار والإبادة الجماعية منذ هيروشيما في الوقت الذي يفشل فيه فشلاً ذريعاً في السيطرة على العديد من الأمراض أو الحدّ من شبح المجاعة وانتشار الأوبئة . كما أنه في الوقت الذي يسعى فيه كل إنسان لخوض معركة ضارية ضد غيره متجاهلاً وقوع كارثة عالمية تنهي الوجود البشري . كما يفتخر أيضاً بلهاثه نحو تكديس أضخم قوة مُدمِّرة في التاريخ الانساني ويدّعي أنه يسعى بإخلاص من أجل إحلال سلام واستقرار في العالم . لذلك فإن كان لدى الانسان اليوم الكثير الذي يفخر به من الانجازات ، فإن لديه الأكثر الذي يخجل منه لأن الانسانية لم تعد قادرة على ايجاد حلّ نهائي لوقف الصراعات وحلّ مشكلات الحياة " .
ولأن النظام العالمي القائم اليوم هو تجسيد لارتباطات الدول والمنظمات الدولية و(الشركات متعددة الجنسيات)  والتي تتصارع فيما بينها صراعاً لاتخبو حدته في الوقت الذي تخرج فيه بعضها بل أكثرها عن إرادة (المجتمع الدولي) وتعم الفوضى في العالم كله وهي تدّعي حرصها على التعاون والالتزام بالقوانين الدولية والانسانية ، واقرب الأمثلة الحية هو ماحصل في غزو العراق بداية القرن الحالي ، وفوضى الإرهاب التي اجتاحت العالم وماتزال نتيجة ذلك .
هذا النظام العالمي يبدو جلياً اليوم نظام على غير مايُظهِرونه وهو غير متكامل ويفتقد أبسط أسس التعاون بين اطرافه لبسط قواعد السلام .
ويقول (دانيال كولار) :
 " إن السلطة في المجتمع الدولي اليوم هي سلطة غير مُقيَّدة وتقوم على تغذية العنف ، ولا تتوانى دولة في هذا المجتمع الدولي عن العمل بكل وسيلة كانت ، أخلاقية او غير أخلاقية ، للدفاع عن نفسها وعن مصالحها الوطنية في سبيل تحقيق العدالة التي تناسبها وبعيداً عن أي تعاون قد يكبح من وصولها إلى ماتبتغيه " .
هذا النظام العالمي اليوم يتأرجح بين التعاون حيناً وبين التوتر في أغلب الأحيان ، ولم يشهد العالم منذ بدء التاريخ البشري توتراً كالذي نعيش تفاصيله اليوم ، وذلك بسبب التناقض الصارخ في بنية النظام العالمي نفسه والذي اوجدته العوامل التاريخية المختلفة بين الشعوب والتي ساهمت في تشكيله وفي تطوره . ورغم ما يبدو للدارسين بأن تجربة الحرب العالمية الأولى قد ساعدت على تأسيس (عصبة الأمم) في ذلك الحين وكانت أول منظمة دولية تهتم بشؤون نشر السلام في العالم ككل وليس بين الدول التي خاضت الحرب وحسب ، وكان ذلك ناجحاً لفترة تاريخية قصيرة ، واستطاعت هذه المنظمة إحلال السلام إلى حين . ولكن ذلك لم يدم طويلاً ، إذا اتضح أن النظام العالمي الذي كان سائداً وقتها قد أصيب بانهيار شامل أدى إلى نشوب (الحرب العالمية الثانية) التي كانت أكثر دماراً من الأولى ، وراح ضحيتها مايقارب الخمسين مليون ضحية بشرية عدا الخسائر المادية والعمرانية الهائلة .
ومع نهاية (الحرب العالمية الثانية) كانت هناك آمال ببناء عالم يسوده السلام الشامل والدائم بعد تأسيس (هيئة الأمم المتحدة) وفيها (مجلس الأمن الدولي) المعني بالحفاظ على السلام والأمن الدوليين !! لكن الواقع أظهر أن كميات الأسلحة في العالم تضاعفت ومازالت تتضاعف بالكمية وبالنوعية التدميرية والقاتلة ، وازداد الصراع تجذراً والعنف قوة حتى بلغ العالم اليوم حَدَّ الرعب النووي .
هذا التوتر الذي يزداد تعقيداً منذ أوائل القرن العشرين الماضي وبتأثير ملحوظ من الاديولوجيات المتناقصة في مقاصدها والمتصارعة في مصالحها جعلت من الحروب الدولية التي يجب أن تكون محدودة في مجالاتها وجغرافيتها تبدو وكأنها تتحول إلى حروب عالمية شاملة ، وصار العالم كتلة متأججة من الصراعات ومن العلاقات المتشابكة والمتأزمة ، حتى صار أمر فهم (النظام العالمي) الحالي في غاية الأهمية ، وبات يتعدى الغايات الأكاديمية والمعرفية البحتة ، لأن استمرار الحياة البشرية وازدهارها يتوقفان على فهم طبيعة هذا(النظام العالمي) السائد وفهم آليات مصالحه وصراعاته ، وباتت البشرية كلها معنية بدراسته وبمعرفة القوانين والقوى التي يمكن أن تتحكم في تطوره ، ولأن فهمه يتضمن بالأساس وعي قضاياه الانسانية والثقافية التاريخية والمصيرية .
وكما يبدو اليوم ، فإن دراسة (النظام العالمي) تعاني صعوبات بالغة وغير محدودة وتتطلب الإحاطة بمعارف موسوعية لطبيعة العلوم الانسانية وثقافات الشعوب كافة والتي تحتويها جميع النظريات والمدارس الفكرية بمضامينها ومناهجها مهما كانت متناقضة .
وتتمثل المشكلة الأساس في الخلاف حول الاعتراف بوجود(نظام عالمي) بأطرٍ مادية فعلية وحقيقية ، ذلك لأن البعض من المفكرين يؤكدون على وجودٍ مادي فعلي وملموس للنظام في العالم اليوم ، بينما يتفي آخرون وجود هذا النظام ويرفضون إمكانية دراسته دراسة تحليلية . 
يقول (باتريك مورغان) :
 " لا أحد يستطيع أن يثبت وجود نظام عالمي شامل رغم الاعتقاد بوجوده والتحدث عنه كما لو أنه موجود فعلاً ، ويتوهم التخصص في دراسته . وإن التنظير حول موضوع ما يتطلب افتراض أن هذا الموضوع يتضمن قدراً من التنظيم والانتظام والاستمرارية . ورغم أن زعماء العالم يتصرفون بناء على افتراض وجود بعضٍ من الانتظام والاستقرار في العلاقات الدولية ، لكنهم أيضاً على اقتناع بأن العالم من حولهم هو عالم غير مستقر وعشوائي " .
وخلافاً لما يراه (باتريك مورغان) فإن رأي (دويرتي وفالتزافراف) يقول :
 " بالطبع هناك وجود فعلي ملموس للنظام العالمي ، وهذا النظام هو عبارة عن تفاعل وتداخل الوحدات القومية والدولية التي تتأثر وتؤثر في بعضها البعض " .
وهنا ، يمكن اختصار (النظام العالمي) الحالي في أربعة آراء عامة يتمحور مضمونها في الإلمام بصورة (النظام العالمي) الموجود اليوم وهي كالتالي :
1 - النظرة الواقعية :
وتفترض أن القضية الجوهرية التي تشغل كل دولة من دول العالم هي قضية الحفاظ على أمنها القومي وعلى ثقافتها وتاريخها كأمّة وعلى سيادتها واستقلالها الوطني ، وتعمل على بناء قوّتها الذاتية واستغلال الظروف المناسبة لاستكمال أسس عظمتها ، وكثير من هذه الدول تدفعها العظمة المَرَضية إلى بسط نفوذها وفرض تأثيرها وحتى السيطرة المطلقة على غيرها من الدول الأضعف لينجم عن ذلك الصراعات والحروب التي لاتنتهي ، ويكون العنف والفوضى من أبرز ملامح (النظام العالمي) .
 
2 - النظرة المسلكية :
وهي التي تركّز على تطورات النظام العالمي والتي يتضح فيها فقدان انظمة الدول لأهميتها ولدَورها المؤثر في علاقاتها الاقليمية والدولية وتكون في موضع المتأثر نتيجة هيمنة الدول الحليفة و المنظمات الدولية والهيئات المتعددة على استقلالية قرارها ، ويبدو فيها أن (الدولة) لم تعد الوحدة المحورية في (النظام الدولي) ، لأن الدور الرئيس فيها قد تحول إلى الحلفاء والمنظمات والهيئات غير الحكومية التي تتحكم في مسلكيات الدول ، وزادت من اعتمادها على بعضها البعض ليبدو (النظام العالمي) كوحدة مترابطة على جميع الأصعدة والمستويات علمياً واقتصادياً وبالتالي ثقافياً متأثراً بصورة تطغى على أصالة ثقافتها وتميزها .
 
3 - النظرة المثالية :
وفيها يبرز السعي إلى الدعوة للتعاون بين الدول على أساس التزامها بالقوانين الدولية والانسانية الأخلاقية ، والتمسك بقواعد (المجتمع الدولي) في تطوير علاقاتها الودية والسلمية التي تقوم على الاحترام المتبادل وعلى المصالح المشتركة ليكون (النظام العالمي) نظاماً واقعياً وتشاركياً يبعد اشباح الحروب والصراعات ويقلل من تكاليف التسلح والالتفات الى ترسيخ مبادئ التنمية والسلام . 
 
4 - نظرة التبعية :
وهي التي تؤكد على أن أبرز سمات (النظام العالمي) الحالي هي سمات الهيمنة المطلقة والتي تمارسها (الدول العظمى) على اختلاف توصيفاتها واديولوجياتها لتجعل من الدول مجرد تنظيمات تابعة ، ويظهر فيها انقسام العالم (بنيويا) إلى نوعين من الدول :
* - الأول وهي الدول المُهيمِنة والتي تكون في مركز (النظام العالمي) كالدول الصناعية والنووية المتقدمة .
* - الثاني وهي الدول التابعة والواقعة على هوامش (النظام العالمي) لأنها دول متخلفة صناعياً وتنموياً وتقنياً نتيجة تخليها الكامل عن ثقافتها التاريخية وعن حضارتها الانسانية أو نتيجة تمسكها الأعمى بتاريخها الغابر إلى درجة أنها تعيش فيه ولا ترى أي أفق خارج إطاره المحيط .
ولايمكن فهم العالم و(النظام العالمي) دون فهم تلك التبعية المطلقة والهيمنة القائمة ، ودراستها دراسة علمية ومنطقية لايجاد الحلول وأساليب التحرر الانساني ليكون (النظام العالمي) نظاماً عادلاً دون هيمنة ودون تبعية .
من خلال الاطلاع على تلك الآراء بنظراتها المختلفة يتضح ان العالم اليوم بات عالماً شديد التعقيد  ومتعدد المظاهر والسمات ، كما انه عالم مليء بالصراعات وبالأزمات والحروب التي تفتقد الحدَّ الأدنى من التعاون لحلّها وللتخلص حتى الجزئي منها .
ولأن صراعات العالم اليوم غير متناهية وتزداد تعقيداً يشمل كل مناحي الحياة البشرية ، فإنه لم يعد بالإمكان فهم الحياة نفسها دون فهم صراعات العالم بكل أبعادها وفهم الأزمات المحورية التي باتت خطورتها تهدد الوجود البشري على الأرض .

أخبار متعلقة :