يظل هناك رموز تفخر بها الأمم، وهذه الرموز أول ما يميزها أنها لا تسير وسط القطيع، ولكنها تختار لنفسها طريقا أخرى، تعمل من خلالها على تغيير المجتمع خاصة إن كان هذا الرمز ينتمي لأمة استمرأت الخنوع، وزعمت أن لديها إجابات على كل الأسئلة، وهي في ذلك واهمة كل الوهم، هذا الوهم الذي يريح صاحبه، فيعيش مخدر العقل كسول الذهن مسلوب الإرادة راض على حال لا يرضى عنها هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم إيقاظ هذه الأمة الخانعة.
وهؤلاء الرموز يواجهون في دربهم صعاب جمة، يأتي على رأسها رفض المجتمع المستكين المسلوب الإرادة لهم، وفي مقدمتها سهام قاتلة من تلك السلطات المستفيدة من هذه الحال التي يعيش فيها مجتمعهم، حيث أن هؤلاء الرموز يهددون بكل قوة هذه المصالح، فلو نجح مشروع هذا الرمز الثوري أو ذاك في إيقاظ أبناء مجتمعه فإنهم سيخرجون من تحت تلك العباءة التي يغطون تحتها في نوم عميق، وهو ما يهدد هؤلاء المستفيدين من تلك الحالة الرثة التي تعيش فيها هذه المجتمعات.
سهل على الكاتب الذي يمتلك أدواته أن يسطر ما يرضي به الغالبية العظمى من الناس، ويسير على الكاتب أن يدغدغ مشاعر العوام، فالطريق معروفة ليس في حاجة إلى دليل، فبمجرد أن تذكر سطرين يظن العوام أن فيهم دفاعا عن الدين، فإذا بهم يضعونك في مصاف المجاهدين المقاتلين في سبيل الحق والدين.
ولكن هذا ليس سبيل الكاتب الحق المقتنع بأفكاره، والمؤمن بدوره، فهو لا يسعى لنيل رضى، ولا يخشى سخط الساخطين، ولكن كل ما يعنيه هو الحقيقة كما تراها عيناه، والحق كما يستقر في قلبه، والمصلحة العامة كما يؤمن بها.
فهل دفع مفكر مثل فرج فودة حياته ثمنا وهو يشك في رسالته؟ التي هي أن يفتح أعين المجتمع على ما يعمل بقوة التيار الظلامي على إخفائها لكي يختار الإنسان المصري اختياراته عن دراية وقناعة، فعمل على كشف ما هو مستور، عن عمد، في تاريخنا الإسلامي، لكي يستلهم أبناء الشعب المصري والعربي، بل والإسلامي، تلك التجارب التاريخية، دون تجميل لها، ولا تحسين لقبيحها، بل يستدعيها ليأخذ منها العبرة، ولتكن له نبراسا ليصيغ لنفسه تجربة جديدة، لا أن يعيد تلك التجربة التي لا يمكن أن تصلح لعصر جديد، فضلا عن عصر بعدت بينه وبينها آماد بعيدة، فلم تعد تصلح، ولم تكن في الأصل صالحة كل الصلاح.
لقد كان يستطيع فرج فودة، وهو من يمتلك ناصية اللغة، فضلا عن الفكر والقدرة على التأثير، فضلا عن دراسة متأنية للتاريخ، وبحث معمق في التراث، كان يستطيع أن يلقي الكلمات المثيرة لحماس العوام إلقاء، وأن يصيغ من الجمل التي تدمع لها الأعين بحورا، وهو يقف أمام مقتل ذي النورين عثمان بن عفان، وكيف اقتحم الخارجون عليه داره، وكيف لم يراعوا للشيخ الكبير حرمة سن، فقتلوه وهو يتلو كتاب الله العزيز، ثم ها هم يريدون التمثيل بجثة خليفة المسلمين، هذا التمثيل الذي نهى عنه الإسلام الحنيف وذمه القرآن الكريم، ولم يحل بينهم وبين تلك الفعلة الشنعاء في ثالث الخلفاء الراشدين، والذي له سبق في الإسلام، وله الدور العظيم في الزود عن الدعوة الوليدة، لولا أن ألقت بنفسها على الجثة المسجاة الطاهرة زوجه نائلة، تلك التي قطع هؤلاء الخارجون على خليفة المسلمين إصبعيها، لترسلهما، لاحقا، مع قميص الخليفة المدرج بدمائه إلى معاوية بن أبي سفيان، كاتب وحي الرسول الأكرم، الوالي آنذاك على الشام.
نعم كان يمكن لفرج فودة أن يشعل العاطفة حزنا وكمدا على خليفة رسول الله الثالث، وزوج ابنتيه، والذي لقب لذلك بذي النورين، كان يستطيع أن يُبْكي كل قارئ تقع عيناه على ما يسطر، بتلك الكلمات التي قالها عثمان رضي الله عنه، ومنزله محاصر من كل النواحي، وهؤلاء المحاصرون يقذفون الحجارة التي تصيب خليفة المسلمين وهو يتلو القرآن الكريم، وتسيل دماؤه الطاهرة على المصحف الشريف، ولم يمنع ذلك الغاضبين من حكمه من الاستمرار في العدوان على الخليفة الراشد الثالث، الذي يرفض خلع لباس ألبسه الله إياه، في إشارة للخلافة، كما وصف ذلك الخليفة القتيل شخصيا.
ماذا لو كتب فرج فودة عن هذه الحادثة، واستدعى كافة المشاهد المبكية، واستحضر حالة الخليفة النفسية، ورسم المشهد من تلك الزاوية، وعزف مقطوعة بلاغية حزينة، والحادثة بالفعل، دون الحاجة لألفاظ مؤثرة، تخلع قلب كل مؤمن، بل كل إنسان، من صدره، فمن أين أتى هؤلاء الخارجون على الخليفة بكل هذه القسوة؟، وكيف تطاوعهم قلوبهم قبل أيديهم أن يقتلوا خليفتهم وهو يقرأ كتاب الله عز وجل؟ وكيف يتسلقون جدران المنزل في محاولة لجر الجثة للخارج لكي يقوموا بالتمثيل بها؟ إنه أحد أعظم المشاهد تأثيرا في نفس كل مسلم.
ولكن فرج فودة لم يرد ذلك، لم يرد أن يسلب القارئ إدراكه، ويدعه "يمصمص" شفاه، وتدمع عيناه، ويذهل عقله، فهو، والحادثة كما وصفنا، أراد للقارئ أن يعمل فكره، وأن يتفكر في المشهد، وأن يربط الأحداث بعضها ببعض، وأن يستخلص بنفسه النتائج، لكي يستطيع أن يبني ويشيد واقعا جديدا، مستفيدا من التجارب القديمة، وأن ينظر في الحقب التاريخية الإسلامية النظرة الواقعية، فليس التاريخ مقدسا، وليس المسلمون في العصور الأولى ممن يظن أنهم كانوا يلتزمون للخليفة بالسمع والطاعة، مهما أتى من أفعال، ومهما جاء من تصرفات، وليس الخلفاء أنفسهم معصومين، فكل يؤخذ منه ويرد، كما ذكر الإمام أحمد، إلا صاحب المقام الشريف.
فاختار الطريق الصعبة، ليعرض ما حدث بتفاصيل دقيقة، فيعرض وجهة نظر الخليفة القتيل، بأيد مسلمين، لأول مرة في تاريخ الدولة الإسلامية الناشئة، حيث كان مقتل الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة المجوسي، كما عرض فودة وجهة نظر الثوار الذين أتوا من كل حدب وصوب، خارجين على خليفتهم، والذين سيطروا سيطرة كلية، ليس على دار الخليفة فحسب، بل على المدينة كلها، ولم يغفل، وما كان له هذا، أن يستعرض رأي كبار الصحابة في القضية، ليس رأيهم فحسب، بل موقفهم، حيث لم يقفوا من خليفتهم، بل كان هناك منهم من هم في صف موقف الثوار قلبا وقالبا.
إن فودة باستعراضه لهذه الحادثة، وغيرها الكثير في كتابه "الحقيقة الغائبة"، والتي تم قتله بأيد إرهابيين آثمين بسببه، لم ينظروا في الكتاب، فكيف ينظرون فيه وهم أميون، كما ذكر القاتل في المحكمة، بلا عقل؟
إنه في تناوله يدفع العقل ليثور ثورة عارمة على ما تم تلقينه إياه، كثوابت لا تقبل المناقشة، ولا تسمح بجدل.
إن مهمة الكاتب الحق هو أن يدفع العقل دفعا في طريق التدبر، وأن يزيح من على أعين متابعيه الغشاوات التي تطمس العين وتلغي العقل وتميت اللب.
أخبار متعلقة :