بوابة صوت بلادى بأمريكا

د. يس العيوطي يكتب : الحكمة تكمل الدين

 
الدين لايعلن عنه بالأزياء. ولايشار إليه بالزبيبة التى تتوسط الجبهة. ولايرتكز على احتفاليات الذكر وترديد "الله حى" ولايتأكد بإعتداء المسلم على القبطى. ولايترسخ بفاشسنتية الإخوان المسلمين أو بإرهاب "الدولة الاسلامية" ولايعنى قيام خلافة، إذ أن الخلافة تشير تاريخياً إلى الخلفاء الراشدين الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلى.
الخلافة لم تذكر فى القرآن إلا مرتين. نقرأ فى سورة البقرة: "وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة"(البقرة/ 30). ثم نقرأ أيضاً "ياداوود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فأحكم بين الناس بالحق (سورة ص/ 26). نرى فى كلتا الحالتين الإشارة الواضحة إلى الانسان العادى.
من أين جئنا بهذا التفسير أو بالأخرى بهذا التفنيد لمعنى الخلافة؟\جئنا به من محض ما أكده القرآن الكريم. لقد ربط القرآن العقيدة بالحكمة فى العديد من المواضع من بينها: "ومن يؤت الحكمة فقد آوتى خيراً كثيراً" (البقرة/ 269). وفى سورة آل عمران قول الله مشيراً إلى محمد صلى الله عليه وسلم: "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل". (الآية 48). وزاد القرآن تأكيداً لأهمية الربط بين الإيمان والحكمة فقال فى سورة النساء "وأنزل الله عليكم الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم" (الآية 113).
معنى "الاية" الدليل. وليس فى القرآن تفسير لمعنى الحكمة. ولعل هذا راجع إلى أن كل عصر وزمان ومكان له حكمته وطريقة استخدامها. وفى هذا الغموض آفاق واسعة لتكييف معانيها وتطبيقاتها.
وهنا يأتى دور المنطق، مثيراً لأسئلة كثيرة: هل من الحكمة أن تضر الأغلبية بحقوق الأقليات؟ لا!! هل من الحكمة فرض أحكام قاسية من أمير أو عمدة أو حتى رب بيت على من هم فى حاجة إلى الحياة والحرية والسعى إلى السعادة؟ لا. هل من الحكمة التقاعس عن العمل الذى يدر الربح وانتظار مكافأة على البطالة؟ هل من الحكمة إضاعة الفرص ثم السعى وراء سرابها بعد مرور وقت انتهائها؟ لا.هل من الحكمة انتظار آداء الجاهل على نفس مستوى آداء المعلم؟ لا.
والقراءة هى خير مصادر الحكمة. لذا يقول المثل: "ليس كل قارئ قائد. ولكن كل قائد قارئ". ومن أروع الحكم ماجاء فى رباعيات عمر الخيام، وهو فارسى وشاعر ملهم، إذ قال فى رباعياته:
لاتشغل البال بماضى الزمان... ولا بآت العيش قبل الأوان
واغنم من الحاضر لذاته... فليس فى طبع الليالى الأمان
ومن حكمه الخالدة أيضاً ما أورده فى الرباعيات حيث قال:
لاتوحش النفس بخوف الظنون... وأغنم من الحاضر أمن اليقين
فقد تساوى فى الثرى راحل... غداً وماض من آلاف السنين.
وحينما صدعت أم كلثوم بتلك الرباعيات فى المغرب فى الستينات، اهتزت جدران الصالة الكبيرة بتصفيق آلاف المغاربة لذلك الصوت الملائكى الذى حمل إليهم حكمة الدهر على أجنحة مصرية. وكم أثلج قلبى ترجمة عمرالخيام إلى الانجليزية الشاعرية جعلت القراء الأمريكيين يدخلون كهوف الحكمة التى لا نهاية لها عن طريق الشعر والأدب.
وللحكمة ألوان سياسية تتضح فى كفاح الشعوب المستعمرة ضد الاستعمار. ولنضرب هنا المثل بمصرنا المحروسة. احتلتها بريطانيا عام 1882 وأرسلت معتمداً لها اسمه اللورد كرومر الذى حكم مصر بيد من حديد من عام 1884 إلى 1907.
كان يؤمن بعدم صلاحية المصريين لحكم بلادهم، وأن الاستعمار وحده هو وسيلة النهوض بمصر ذات التاريخ الذى سبق التاريخ نفسه.
ومن كرم المصريين أنه حين استدعى إلى لندن إلى غير رجعة، أقيمت له حفلة وداع فى دار الأوبرا القديمة بميدان ابراهيم باشا، وحينما وقف للرد على ذلك الكرم الفائق، لم يتورع عن سباب المصريين. وجاء الرد المتمثل فى عدم نزول الناس إلى الشوارع وهو فى طريقه إلى محطة القاهرة ثم إلى الإسكندرية. سبق على هذا أن احاقت به الناكات المصرية ومنها ماجاء فى الصحف بشأن وعكة صحية اصابته. كان الخبر: "انحرفت صحة اللورد كرومر" فكتبها الصحافيون بتلك الكلمات، ولكن زادوا عليها إشهاراً لأحتقارهم لمن يحتقر بلادهم: فقالوا: "أنجرفت، صحن الورد ، كرومر"
وانضم إليهم أحمد شوقى ليلعنه، إذ كان ومازال الشعر وسيلة لإيداع الحكمة الجماعية، قال فى قصيدته:
أَيّامُكُم أَم عَهدُ إِسماعيلا ... أَم أَنتَ فِرعَونٌ يَسوسُ النيلا
أَم حاكِمٌ في أَرضِ مِصرَ بِأَمرِهِ... لا سائِلاً أَبَداً وَلا مَسؤولا
يا مالِكاً رِقَّ الرِقابِ بِبَأسِهِ... هَلّا اِتَّخَذتَ إِلى القُلوبِ سَبيلا
لَمّا رَحَلتَ عَنِ البِلادِ تَشَهَّدَت... فَكَأَنَّكَ الداءُ العَياءُ رَحيلا
أَوسَعتَنا يَومَ الوَداعِ إِهانَةً... أَدَبٌ لَعَمرُكَ لا يُصيبُ مَثيلا
مَن سَبَّ دينَ مُحَمَّدٍ فَمُحَمَّدٌ... مُتَمَكِّنٌ عَند الإِلَهُ رَسولا
وكان كرومر قد أعلن فى مذكرة له عام 1906 أن الإسلام لايصلح لهذا العصر. وحينما اغتيل بطرس غالى وكان رئيساً للوزراء، أشاع كرومر وعملاؤه أن الاغتيال قد حدث لأنه قبطى. وكانت أكذوبة استعمارية. إذ أن الشواهد تثبت أن الاغتيال قد حدث لأنه كان ينوى مد فترة امتياز شركة قناة السويس.
الحكمة تأتى من الوعى والدراسة ومعرفة الفارق بين التاريخ الصادق والتاريخ الكاذب. وفى هذا يقول الشاعر العربى مندداً بتصديق الأكاذيب فقال: "ويأتيك بالأنباء من لم يزود". وأورد القرآن فى سورة فاطر "ولاينبئك مثل خبير" (الآية 14). ولم يكن الإخوان المسلمون خبيرين بدينهم فباءوا بالفشل والشتات خارج مصر. إذ أعوزتهم الحكمة. وخرجوا من ميدان الموعظة الحسنة إلى ميدان السيف والإرهاب.هذا على الرغم أن كلمة "سيف" لاتوجد فى القرآن.
واقع الأمر أن ظاهرة الإخوان المسلمين تعتبر انقلاباً على الله سبحانه وتعالى. وفى هذا تقول الآية الكريمة: "ومن يهد الله فهو المهتد" (الاسراء/ 97). 
وأكد الله دوره فى الهداية إذ قال مخاطباً رسوله: "ليس عليك هداهم ولكن الله يهدى من يشاء" (البقرة/ 272). وفى سبيل المحافظة على حرية الاعتقاد، وهى عين الحكمة، جاءت المقولة "لا إكراه فى الدين".
وليس هناك أجمل من إستذكار قواعد الحكمة واستخدام المنطق فى الحكم على كل مايساورنا من شكوك وما يخالجنا من البحث عن الصراط المستقيم. الحكمة هى تكملة العقيدة. وآفة الحكمة هى نسيان العمل بها.

أخبار متعلقة :